يستهل طه حسين حديثه في هذا التمهيد بموقف الجاحظ من الشعوبية ؛ أوبمعنى آخر موقفه من الثقافات الأجنبية بصفة عامة، وتفضيل العرب على كافة الأمم بالخطابة والبلاغة التي اقتصرت عليهم وجهلت عند غيرهم تشددا وتصعبا؛ أو تفكها على حد قول طه حسين. وحتى لوكانت هناك بلاغة فهي عند العرب مرتجلة طبيعية وعند غيرهم متكلفة متعملة؛ مع الشك فيما نسب للفرس من الرسائل و الشك في ترجمات الموالي. ورَدَّ كتب الهند لعدم توثيقها بأعلام بعينهم.
كل ذلك كان من طه حسين ليبين التناقض الذي وقع فيه الجاحظ. فهو ينفي البلاغة عن الأعاجم؛ وفي نفس الوقت يورد في الجزء الأول من (البيان و التبيين) تعاريف للبلاغة على لسانهم. زيادة على نفي إلمامه بكل كتب الأعاجم وعلى رأسها كتاب (الخطابة) مثلا لأرسطو. وعدم بروز شخصيته في كتابه (البيان)، وخلوه من التنظيم رغم ضخامته.
لكنه يعود ليشيد بالكتاب لما فيه من الأمور التي قد لا نجدها في غيره؛ متفرقة في أبواب كتابه ناقلا لنا ما عرفته تلك المرحلة من الحركة الثقافية والبيان وصناعة الكلام والخطابة و الخطيب وما ينبغي توفره فيه و ما ينبغي تقديم تعلمه، وحديثه عن الطبقة المتولدة في تلك الآن؛ وهي طبقة الكتاب التي كان الأعاجم يغلبون على حيازتها.
فينتهي طه حسين من هذا التأويل إلى أن الذي عد البيان عربيا بحثا؛ هو مجرد مبالغ لاغير. بل هو مشترك بين كل هؤلاء جميعا؛ لا ينسب إلى أحد بالكلية.
ثم يعكف إلى الحديث عن الأدب العربي التي يسير بخطى متباطئة مقارنة بالشعر والنثر، واستفادة المعتزلة من الفلسفة الهيلينية؛ دون الجزم رغم المباينة بين فكر هؤلاء وفكر اللغويين العرب الخلص.
حتى على مستوى الشعر يرى طه حسين أن الشعراء الذين جاؤوا بعدُ من غير العرب جاء شعرهم مباينا لمنهجية العرب وتصورهم في النظم حتى استغلق على الفهم، وضرب مثالا على ذلك أبا تمام الذي يرجح نسبة أصله إلى نصارى دمشق قبل الانتساب إلى طيء، وما يضمن شعره فيه من الفلسفة أيا كان الموضوع الذي يطرقه.
بل حتى الكُتَّاب وعلى رأسهم ابن المقفع و عبد الحميد لم يسلما من التأثير الهيليني في أعمالهما التي احتذي عليها فيما بعد؛ خاصة على مستوى التراكيب وبناء الجمل؛ التي ربما خالفا فيها مذهب النحاة.
بل إن الأمر لم يدفع النحاة وحدهم إلى التذمر بل نجد الأدباء والنقاد العرب يردون هذا البناء الغريب للقضايا والمفاهيم وتلك التقسيمات؛ مثلما فعل ابن قتيبة في أدب الكاتب أومثلما لهج به البحتري في الرد على المنطق والمناطقة.
هذه المحاولة المنهجية التي يدور حولها طه حسين، ويقسم الأدب إلى نوعين أدب خالص، وأدب متأثر باليونان، ثم يعود على عقبيه ليثبت أن الأدب الخالص العروبة نفسه لا يبعد من أخذه بشكل غير مباشر عن اليونان، خاصة إذا علمنا أن أول عمل في البيان العلمي ورد في زمن صدور ترجمة كتاب (الخطابة)، و هو النقص الذي اعتور الجاحظ عندما نفى الخطابة عن اليونان.
هذا الكتاب الذي سوف يؤثر في من جاء بعده، وبخاصة ابن المعتز في كتابه البديع الذي سيؤكد طه حسين تأثره على مستوى التفريع بتقسيم أرسطو في باب العبارة من نفس الكتاب. وقس على ذلك باقي المؤلفين من البلاغيين وغيرهم.
غير أنه يعود فيثبت إلى أن العرب القدامى؛ خاصة في أواخر القرن الثالث وأواخر القرن الرابع ارتفعوا بعلم البيان إلى مرتبة جعلوا منه ذا هوية عربية خالصة، في روحه ومادته وشواهده. فعندما يثبت ابن الأثير أصل الخطابة لليونان فهو لا يدعي السبق لهم، بل يعود فيثبت أن العربي الجاهلي لم يكن يصدر عن ثقافة غير ثقافته البدوية التي تعرض له للتعبير عما يصادفه في حياته اليومية، وقس على ذلك من جاؤوا بعده من الشعراء في العصور الموالية، لأنه لا معنى من المقارنة بين ما ورد عن اليونان و ما جاء به العرب رغم بعض التشابه والتقاطع.
وهذا ما لا يقبله طه حسين الذي أثبت في البداية تأثر علماء المعتزلة بالمنهج اليوناني وتأثيرهم في أدباء العرب عامة.
ويعلق طه حسين على عدم فهم العرب فلاسفة ونقادا و بلاغيين ما ورد عن اليونان من فلسفتهم ونظمهم القضائية و السياسية؛ رغم استوائهم في الفهم لبعض الأجزاء كما أشار إلى ذلك في باب العبارة من كتاب الخطابة. ولم يكن جهدهم في ذلك غير اسنادهم اللغة العربية إلى مستند عقلي فلسفي دون غيره. إشارة إلى عدم فهمهم للفارق بين عنصر الخطابة والشعر.
ويتحدث بعد ذلك عن كتاب قدامة (نقد الشعر) ويرى في منهجه شيئا جديدا لم يكن معلوما عند العرب، خاصة ذلك التشقيق العجيب للتعريف الذي وضعه للشعر والتفريعات الصادرة عنه. ويشير في نفس الوقت إلى التقاطع الواقع بينه و بين أرسطو في كتاب الشعر، لأن أرسطو لا يرى الوزن ولا المعنى معيارا للحكم على تكوين الشعر، في حين قدامة يرى في ذلك الأمر مقياسا يميز به المنظوم عن غيره من المنثور. مما يجعل طه حسين يقول بعدم اطلاع قدامة على كتاب الشعر لأرسطو أو أنه لم يفهمه.
ورغم شك طه حسين حول هذا الكتاب لم يشك في اطلاع قدامة على كتاب الخطابة، وباب العبارة واجتزاء ما ينفعه في كتابه نقد الشعر؛ خاصة عندما أرجع جميع الأغراض إلى الهجاء أو المديح، لإخضاع مفاهيمه لمفهوم (المنافرات) كما هي عند أرسطو. كما يأخذ عنه مصطلح الغلو الذي يتميز به الشعراء عن غيرهم وخاصة الخطباء. لأن الشاعر لايطلب منه أن يتوخى الصدق والأخلاق.
رغم ما عيب على قدامة في منهجه هذا؛ إلا أن من جاء بعده لم يسلم من تفريعاته، بل زاد عليها مثلما فعل أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين.
فيجد نفسه في النهاية مؤمنا أن الفلسفة اليونانية بسطت سلطتها على البيان العربي خلال القرن الرابع.
ويبني طه حسين مقدمته في التعليق على كتاب نقد النثر من خلال انطلاق صاحب الكتاب من العقل وتقسيمه إلى قسمين: موهوب ومكسوب، واعتبار البيان ترجمان العقل، ثم يقسم البيان إلى أربعة أوجه: ــ بيان الأشياء بذواتها ــ البيان الحاصل في القلب ــ النطق باللسان ــ البيان بالكتاب عن بعد و غياب، مع الإيضاح والاستدلال بالقرآن. ثم يقوم في الفصل الثالث بالتشقيق في أقسام البيان. ليصل بهذا التفريع إلى (القياس)؛ الذي يخصص له الفصل الرابع مع الخبر حيث يقوم بتحليله و ذكر أنواعه معتمدا على ما ورد عند المناطقة. ونفس ما يقوم به مع القياس يقوم به مع (الخبر). مع توضيح أن المؤلف نهج في هذا الفصل نهجا مخالفا هو نهج فقهاء المسلمين ومتكلميهم. ليجد نفسه في الفصل السادس يتحدث عن الاعتقاد الذي ينتج عن الطرف الأول ، ويرى فيه طه حسين منحى يتفق مع أصول الفقه وعلم الكلام. ثم تأتي الفصول المتعاقبة لترينا كيف يخلط المؤلف بين المناهج في الاستدلال. مع ملاحظة الناقد أن بعض الفصول تشتبه مع فصول أخرى في كتاب الشعر لأرسطو. ثم يحدث عن البلاغة وعن الشعر و يرى أن أرسطو دافع عن الشعر في كتاب الجدل بإيراده لأشعار هوميروس. ويؤكد على تأييد النبي صلى الله عليه و سلم على ندب الشعراء لهجو الأعداء.
أما في باب النثر فيتكئ على أرسطو والجاحظ خاصة في باب الخطابة والفصاحة والإلقاء. ثم يبدأ في نفريع الأقسام وضرب الأمثلة والتعاريف الدقيقة.
كل ذلك كان محاولة من طه حسين لإثبات أن العرب والمسلمين على الخصوص استفادوا من كتابي الخطاب والشعر لأرسطو، وليس هذا فحسب؛ فترجماتهم وبالخصوص ترجمات ابن رشد وابن سينا لم تكن في المستوى المطلوب من منظوره، وعمد إلى التنقيص من شأنهما، و قلة درايتهما بما جاء به أرسطو. وبالموازاة مع ذلك يشكك في التقسيم الذي جاء به ابن سينا في ترجمة كتاب الخطابة، هل هو من اجتهاده أم من أرسطو، وترك الباب مفتوحا على عادته في الشك في كل شيء. مع الإشارة إلى أن ابن سينا في كتاب الخطابة يتكلم كلام الأديب لا كلام رجل القانون. يستنتج ذلك من خلال تسمية (الاتهام) (شكاية) و(الدفاع) (اعتذارا). ويشير إلى مواضع التعديل في أبواب الكتاب بما لا يتفق ومزاجه؛ رغم فهمه المتفاوت للكتاب.ولكن يبقى فهمه لكتاب الخطابة أحسن حالا من كتاب الشعر الذي يظهر في الخلط الفاضح في المصطلحات والتعاريف. وكل ذلك يرجع إلى الفهم العربي للثقافة اليونانية.
وسواء موضوع الشعر وموضوع النثر اللذين ذكرهما ابن سينا ؛ فإن من جاء بعده من الفلاسفة لم يحفل بهما لانشغالهم بالمجادلات التقريرية.
ولكن رغم ذلك يبقى عمل ابن سينا بذرة زرعت لتترك من يأتي بعده كي يوفق بين البيانين، ونخص بالذكر عبد القاهر الجرجاني. الذي تأثر هو الآخر بباب العبارة كما نقلها ابن سينا، ولم يخرج عن حد أرسطو؛ مع شيء من الابتكار ك(المجاز العقلي) أو الكلامي.
لكن رغم ذلك لم يخرج في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) عن آراء أرسطو العامة؛ في الجملة و الأسلوب و الفصول.
خــــــــلاصــــــة:
إن بناء طه حسين مقدمته كان منذ البداية يعمد إلى شيء أساس هو؛ أن الفلسفة اليونانية المتمثلة في كتب أرسطو على الخصوص أثرت في الفلاسفة المسلمين وفي البيان العربي.
لكنه يبدأ بالتدرج في إثبات هذا الزعم. منطلقا من زعيم البيان العربي (الجاحظ) الذي يقول بعدم إلمام الأمم الأخرى ببلاغة القول التي اكتسبها العرب طبيعة واكتسبها غيرهم عن مشقو عناء. فيأخذ عنه النقط التالية:
ــ الغيرة على العروبة لا غير لأن الجاحظ يورد تعاريف للبلاغة من أفواه الفرس والهنود وغيرهم، وينفيها عنهم. وهذا ما لا يُقبل.
ــ عدم إلمام الجاحظ بكافة الجوانب المعرفية عن الأمم الأخرى كجهله للخطابة ، قبل ترجمة كتاب الخطابة لأرسطو.
ــ عدم بروز شخصية الجاحظ في كتابه.
ــ خلو كتابه البيان والتبيين من النظام.
ــ غياب التبويب وتشتت المعلومات في ثنايا الكتاب.
ثم يتقدم في حديثه إلى التطرق إلى الشعراء الأعاجم ومباعدتهم للشعراء العرب في صياغة ونظم الشعر كأبي تمام الذي تغلب الفلسفة على شعره.
ويرى في الكُتَّاب الموالي كعبد الحميد الكاتب تشابها في بناء الجملة بالمذهب الهيليني. وتأثر ابن المعتز بأرسطو في التقسيم لأنواع البديع.
ثم ينتقل مباشرة لربط كل ذلك بترجمة كتب أرسطو و خاصة كتابي الخطابة والشعر، مع الإشارة إلى الفهم الخاطئ والخلط السافر بين المفاهيم التي جاء بها الكتابان. وانتقاء الفلاسفة ما رأوه موافقا لمذهبهم في الكلام.
ثم يخلص إلى التأكيد على هيمنة سلطة الفلسفة اليونانية على البيان في القرن الرابع.
ويضرب مثالا على ذلك بكتاب نقد النثر الذي يسجل عليه الملاحظات التالية:
ــ الخلط بين المناهج في معالجة مواضيع الكتاب
ــ الأخذ بنهج المناطقة
ــ الأخذ بنهج فقهاء المسلمين و متكلميهم. (الاتكاء على مذهب أصول الفقه وعلم الكلام).
ــ الاستشهاد بالقرآن و الأحاديث النبوية؛ و الخلط بين المناهج في الاستدلال.
ثم يسير قدما ليتوقف عند ابن رشد وابن سينا لكتابي الخطابة والشعر ويعد ترجمتهما ناقصة.
الإشارة إلى ابتعاد الفلاسفة فيما بعد عن هذين المفهومين؛ والانشغال بالمجادلات التقريرية.
لكنه يشير إلى بروز رجال حاولوا التوفيق بين البيان العربي و اليوناني؛ مشيرا إلى عبد القاهر الجرجاني، وأثر أرسطو في كتابيه (أسرار البلاغة) و( دلائل الإعجاز).
ويختم حديثه بتأخر البيان العربي بعد عبد القاهر الجرجاني.
وينتهي إلى حقيقة أساس مفادها أن البيان العربي منذ نشأته في القرن الثاني إلى مرحلة كماله في القرن الخامس تبرز آثار التيار الأرسطي في جميع مضامينه.
التعليقات (0)