التماهي الشعري وامتلاك الأدوات الخفية المستعصية
في
ديوان (علميني إزاي أحبك)
للشاعر / حسن محمد إبراهيم
بقلم : حسن غريب
ينطلق الشاعر حسن محمد إبراهيم من عباءة الشعر العامي الغنائي حيث البساطة والإغراق في بيئية الطقس والمفردات معنى وصوتا ،وستكتشف بعد الولج في ديوانه أنها لا تحتاج إلي قراءة ثانية إلا علي سبيل الإمتاع ،لأن النصوص تشي بنفسها من الوهلة الأولى ،مما يجعلها قريبة من الحكائي الشفاهي الذى يتعامل مع الناس البسطاء وهمومهم ،فهو منهم وإليهم ،وحتى إذا تحدث الشاعر عن ذاته فنجدها أنموذجا للشاعر لا عليه ،إذ أنها قريبة من قلب المتلقي ،فظلت في تلك المنطقة الدافئة بين برودة الألغاز وهجير المباشرة،لتطل علينا بروحها المتوهجة والأكثر حصورا وحبورا ،فالشاعرحسن إبراهيم لم يعتن بكتابة قصيدة ذهنية تتطلب محاولات عديدة لفك الاشتباكات ،حتى ماقد يراه البعض واضحا يمعن هو في ايضاحه ،إذ أن ميله لنسق بعينه (الغنائي) يدعوه إلي تحديد الرسالة التى سوف يوجهها لوعي جمعي تتفاوت فيه القدرات .
من هذا المنطلق استطاع الشاعر أن يمسك بزمام التلقي بكافة ألوانه وصنوفه، والدليل أن مقولة الشاعر هو ضمير الأمة مازالت قائمة حتى الآن ..هذا ما ورد في ذهني بعد قراءة ديوان الشاعرحسن محمد إبراهيم وهو بعنوان ((علميني إزاي أحبك)) الصادر من سلسلة جذور أدبية عن نادي أدب قصر ثقافة كفر شكر بالقليوبية لعام 2008م .
والديوان يحتوي علي خمسة وخمسون قصيدة مابين عامي وغنائي ،ويقع في مائة وثمان واربعين صفحة من الحجم المتوسط ،والديوان يحتوي علي محاور عدة ،فهناك المحور العاطفي والمحور الاجتماعي والمحور الوطني ومثله قصائد مثل : علميني إزاي أحبك وهي التي تحمل عنوان الديوان واغنية خدينى ومنولوج أنا لسه بحبك آهه وقصيدة "والله وبدأت حكايتنا " ومونولوج "حبيبي قلة ومقاوح"وقصيدة ((جربي تحبي )) وأغنية "متقولشي راح الغرام "وقصيدة "أيوة بحبها " .
والمحور الثاني وهو يحتوي علي قصائد ذات طابع اجتماعي مثل (مشاوير-لو-سؤال-الحزن-صعبان-عجيب-ليه-آه يا شعب-تصوروا-خجل-بضحك كتير-حيرة-نظرة-بحث-خلافات-عيب-آه يا معارضة-شوية...الخ)).
وفيها وصف الانتظار والمشاوير ما بين الحياة والموت وسؤال استنكاري "هو احنا بنى آدمين"و"حزن" وبها فلسفة حياتية ناتجة عن خبرة بالحياة ،وقصيدة "أيوة بحبها " وهى من القصائد الموجهه إلي عشق مصر بعذوبة ورقة .
والديوان بكل محاوره عبارة عن أضمومة من القصائد الصادقة التى تحس بصدق تجربتها فنحن نصدقه في الرثاء عندما يتحدث عن المواطن "سيد الجحش" ويرثي حاله من ملء بطنه وما في داخل دماغه من تفاهات بسبب عدم وجود عمل محدد له .
والشاعر حسن محمد إبراهيم يرتقي بشعره طارقا دروبا أحرى بالاهتمام ،فبلغة بسيطة وصورغير مركبة ، ومفردات بيئية استطاع شاعرنا أن يضع صياغته لهمومه ومشكلاته التى هى هموم ومشكلات جيله ، كما أن تدفق المفردات وتداعيها قد لايحدث علي مستوى التلقي الجمعي خللا ،إذ قد يعمل كأداة إيضاح بعكس ماقد يجده المتلقي ويراه ترهلا في النص.
وسنكتشف أن الشاعر حسن محمد إبراهيم لم يعدد أو يمزج بين عدة أشكال فنية ، من هنا أرى أن التعامل ..من الوجهة الفنية ..مع نصوص الديوان سيكون علي وجهين أو من خلال شقين ، فكأن الديوان مقسوم إلي نصفين يتميز في أوله اعتماد الشاعر علي الحوار الداخلي الذي يتجلى في تبادل ضميري المتكلم والمحاطب ، كما في قصيدة "نهاية"ص48 يقول :
كنت فاكر بالشعر هعدي لبر الأمان
أتاري جوه بحره بلاقيني غرقان
كل ما أركب قافية تركبني أحزان
وفي مقطع ثاني من ذات القصيدة يقول الشاعر :
وأنت ساكت وصابر علي حالك
بعدما كنت شعر سيد زمانك
أصبحت تقيل حتى علي عيالك
ومن خلال جمل بدت أمرية ،بيدأن اللغة لم تكن آمرة بقدر ما جاءت ناصحة تارة ثم مالت للحث والرجاء مرات اخرى.
يؤكد هذا الجو الفني الذي يجعل الشاعر من نفسه فيه جزأين أحدهما يأمر أو ينصح أو يحث وعلي الآخرأن يستجيب ،يؤكد هذا انه باحث عن آخر يلقي عليه همومه ومشكلاته طالبا منه المشاركة في فعل الحل ...ففي قصيدة ((صحى النوم )) ص 115 ..نراها منقسمة إلي مقطعين غير منفصلين يبدأ كلاهما بنفس الجملة التى جاءت في عنوان القصيدة والديوان ((علميني إزاي أحبك)) ،إلا أن الأمر هنا غرضه الرجاء ، ففي المقطع الأول يتحرك الشاعر في إطار علاقة الفرد بأشياء مطلقة كالنوم والعالم والصخر والثلج والوهم والدنيا .
يريد الشاعر أن يأخذ من حبيبته الحب والصمود والصبر والخلاص والسهر علها تعينه علي قراءة الدنيا ومعرفة كوامنها ، ولعلها تكون عونا له علي الأيام ومخلصة له من رداء الحزن حتى يتهيأ الصبر والصمود ، شريطة أن تعيش داخله سنين التى ستجعل منه فارسا هماما بقلب سليم .
أما في المقطع الثاني فهو لا يريد أن يكون شمعة لنفسه فحسب ، بل يريد أن يفرح ولا يغضب ويصدق ولا يكذب ولا يسبح في الخيال الذي صار واقعا من براءة النار التى بين ضلوعه وتكوينه والذين أظماهم الحلم الهجير بالحزن.
كما ستساعده علي التعليم والفهم لمعنى الحب ، ومشكلته هو نفسه إذ يتعامل مع كداب ص 95 ((حتى مع الحبايب وأعز الناس)).
هذا النص كجل نصوص الديوان يطرح فكرة المخلص بنفس نسيجها المتعارف عليه ، المخلص الذي يرجوه الشاعر ليكون حلا لكل المشكلات الخاصة والعامة الحب البطالة الاهمال ، ولكن المخلص لا يأتي ، لم يقل الشاعر حسن محمد إبراهيم في قصيدته مباشرة لكن رجاءه المستمر للآخر الذي هو نفسه يثبت فكرة استحضار الخلاص فهو يبحث في أناة الآخر عنه لعله يكون مختفيا فيه إلي أن يفضح ذلك بسؤاله :
علميني إزاي أواصل علميني
والطريق كله مخاطر عن يميني
أما المحور الثاني الذي عنونه ب"وصية جدي" فتخلو الأغاني من صيغة الأمر بتنوع أغراضها ،كما تبرز المنولوجات التي تكدس بها الديوان ، وأرى أن هذا لم يأت اعتباطا ، فقد اتبع في الديوان الشاعر حسن محمد إبراهيم نهجا سرديا مستفيدا فيه من الشكل الشعري الغنائي في وصية الجد وبنتى حبيبتي يقول :
هي البسمة ف عز الأزمة
هي الفرحة بعد آهاتي
هي الفجر الحلو الآتي
وفي مقطع آخر يقول ص 107
في أي حال أنا باعيش
صعب ومحال ما يهمنيش
والحكايات العبثية كما في قصيدة "أغنية حزين في ذكرى العبور" والتي يبدأها باستغراب وسؤال :" كل ما أبص على حالنا استغرب إزاي احنا عبرنا ؟
والتي هى لغز ساخر يشبه مداعبات الكبار ذوي الحكمة والخبرة ، والتي تعتمد علي علاقات متشابكة بيد أنها لا علاقة بينهما في قلب من هو جناحه مكسور ...ويأتي الرجاء في نهاية القصيدة بكل أسى ومأساوية :
أرجوك تسامحنا
إلا أن تتبع الأبيات بمنطق جديد قد يصل بك إلى معنى قد يكون بسيط يجهش في البكاء له السامعون ويتأثر به الشاعر تأثرا بالغا وهو شاعر جاد له أسلوبه ودروبه الذي يدركه جيدا في شعر العامية المصرية.
حقيقة لا أجد ما أقدم به الشاعر المبدع حسن محمد إبراهيم بديوانه "علميني إزاي أحبك " أفضل وأنسب مما قاله شاعر العامية الكبير عبدالرحمن الأبنودي قبل سنوات في احدى أمسياته الجميلة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب بقاعة 6 اكتوبر فقد قال :" عار علي الشعر أن يناطح ما ثبتت شرفه ...وان الصمت حين تتضح الصور ويتأكد واقع الحال ...سوف نصبح كلنا صغار إذا لم ننم هذا الميراث المدهش ونزوده بمدهشات جديدة ..وإذا لم نسحب عباءته علي الواقع الجديد".
حسن محمد إبراهيم ...يعمل باقتدار علي انقاذنا من هذا المصير البئيس الذي تنبأ به الأبنودي ، فهو يصر علي انتشالنا من واقع الأدب النمطي الرتيب ويزودنا بمدهشة جديدة في هذا الديوان ((علميني إزاي أحبك)) .
فحين يغني غيره لواقع غير واقعنا ...ويبكي علي مآس ليست مآسينا ويستخدم أدوات مستوردة غريبة علي أسماعنا صادمة لأذواقنا ...يبقى الشاعر حسن محمد إبراهيم في ديوانه ((علميني إزاي أحبك)) يسير بخطى ثابتة واثقة علي طريق انقاذنا من مصير (الصغار) وذلك بتنمية ميراثنا من شعر العامية والغنائية علي وجه الخصوص ذلك أن تنمية هذا الميراث يكون بالانتماء اليه أولا وبالاعتزاز به ثم التحر من اسر تقليد رموزه وتراكيبه.
والشاعر حسن محمد إبراهيم في هذا الديوان "علميني إزاي أحبك" الذي بين أيدينا ...يثبت لنا أنه شاعر جيد وهو في الوقت نفسه غير تقليدي وغير نمطي وغير عادي ...له صوته الخاص به ، ولا يقلد أحدا ،ولا يكرر ما اثاره غيره من رؤى وأفكار وما صاغوه من تراكيب .
وبعيدا عن أجواء القصائد ...فشعر حسن محمد إبراهيم يبهرني دائما بصوره المزدحمة وأخيلته المبتكره ومعانيه المتتابعة المتلاحقة ، وكلماته قوية الواقع شديدة الجرس النفسي .
وهو -مع ذلك- واصف بليغ يمتلك قلما مميزا وأسلوبا متفردا يجعل موضوعه وفكرته وقصيدته ذات جو خاص بها نادرا ما تتذوقه وتحسه وتجده مع شاعر آخر.
شيء أخر يميز شاعرنا حسن محمد إبراهيم عن غيره ...وأجد هذا الأمر بالذات جليا ثابتا في كل ما قرأته له في ديوانه "علميني إزاي أحبك" ... وهو أنه لا يهتم كثيرا لمستوى المتلقي ولا يلقى بالا لذوق الجمهور ورغباته وطلباته ، فيتساهل مرة في الصياغة أو يخفف من وطأة الأخيلة وقوة الأداء وعمق الرمز .
يأبى الشاعر حسن محمد إبراهيم دائما إلا أن يحلق في سماء الإبداع السامقة ..ويرفض حتى أن يتدنى منا ويهبط لمستوى الصغار ..بل يجبرنا في كل مرة علي التسامي والارتقاءوالارتفاع اليه ، لنعيش معه اجواء الإبداع الحقيقي ولنتخفف من التبعية والنمطية ...ولنتحرر من أسر المعاني المستهلكة والافكار المهترئة.
أؤكد عن ديوان "علميني إزاي أحبك" أنه يحتاج إلي عدة دراسات مطولة ، ولكننى هنا أريد لفت الانظار إلي نقطتين في الديوان فحسب وهما :
الأولى : رمزية القصائد في الديوان ، فالقصائد في معظمها بعناصرها وأشخاصها وادواتها ومفرداتها ((الحياة- الموت - الانتظار- سؤال بينقر - ريحة عطب - النيل بيبكي - هتموت النهاردة - آه يا شعب - تتصوروا- خجل- بضحك كتير)).
كل ذلك التعبيرات وغيرها استخدمها الشاعر كأدوات ورموز ، واستطاع بخياله الخصب تحويل القضايا المصيريه التي نعيشها وتعيشها أمتنا العربية إلي صور وشخوص ناطقة نابضة بالحياة.
تحكي لنا بعفوية وحميمية تفاصيل واقعنا المرير.
واعتقد أن قراءة عادية للديوان "علميني إزاي أحبك" باعتباره مجرد ديوان شعر عامي غنائي من اشعار البؤس والظلم والقهر اليومي ، دون التحليق مع خيال الشاعر حسن محمد إبراهيم الخصب ، سوف تفقد الديوان أهميته وسوف تمحو عنه لمسته الجمالية وسيخرجنا في النهاية من بوابته الخلفية علي عجل بدون الوصول إلي الغاية الحقيقة التي من أجلها كتب الشاعر الديوان.
النقطة الثانية : ذلك الجمال المبهر الذى خرج بد اليدوان من يدي هذا الشاعر الفنان حسن محمد إبراهيم ، وسر الجمال يكمن في دقة التشبيه وروعة الأخيلة وفي مناسبتها لموضوع الديوان وهدفه وغايته ، تأمل مثلا كيف (مسقوط من رحم الحنين) ، وكيف (بشوف الكذب بيتجسد في ثوب الحقيقة) ، ثم كيف ( أرمي الهموم علي بابها ...أغسل دماغي في ترابها).
وفي النهاية نقدم تحية حب واجلال وتقدير للشاعر الجميل المبدع حسن محمد إبراهيم الذى تمتعت بقراءة ديوانه الشعري الحي والنابض "علميني إزاي أحبك" ودوما في رقي وسمو غي عالم الإبداع الشعري العامي الغنائي الساحر للقلوب .
انتهت
في
ديوان (علميني إزاي أحبك)
للشاعر / حسن محمد إبراهيم
بقلم : حسن غريب
ينطلق الشاعر حسن محمد إبراهيم من عباءة الشعر العامي الغنائي حيث البساطة والإغراق في بيئية الطقس والمفردات معنى وصوتا ،وستكتشف بعد الولج في ديوانه أنها لا تحتاج إلي قراءة ثانية إلا علي سبيل الإمتاع ،لأن النصوص تشي بنفسها من الوهلة الأولى ،مما يجعلها قريبة من الحكائي الشفاهي الذى يتعامل مع الناس البسطاء وهمومهم ،فهو منهم وإليهم ،وحتى إذا تحدث الشاعر عن ذاته فنجدها أنموذجا للشاعر لا عليه ،إذ أنها قريبة من قلب المتلقي ،فظلت في تلك المنطقة الدافئة بين برودة الألغاز وهجير المباشرة،لتطل علينا بروحها المتوهجة والأكثر حصورا وحبورا ،فالشاعرحسن إبراهيم لم يعتن بكتابة قصيدة ذهنية تتطلب محاولات عديدة لفك الاشتباكات ،حتى ماقد يراه البعض واضحا يمعن هو في ايضاحه ،إذ أن ميله لنسق بعينه (الغنائي) يدعوه إلي تحديد الرسالة التى سوف يوجهها لوعي جمعي تتفاوت فيه القدرات .
من هذا المنطلق استطاع الشاعر أن يمسك بزمام التلقي بكافة ألوانه وصنوفه، والدليل أن مقولة الشاعر هو ضمير الأمة مازالت قائمة حتى الآن ..هذا ما ورد في ذهني بعد قراءة ديوان الشاعرحسن محمد إبراهيم وهو بعنوان ((علميني إزاي أحبك)) الصادر من سلسلة جذور أدبية عن نادي أدب قصر ثقافة كفر شكر بالقليوبية لعام 2008م .
والديوان يحتوي علي خمسة وخمسون قصيدة مابين عامي وغنائي ،ويقع في مائة وثمان واربعين صفحة من الحجم المتوسط ،والديوان يحتوي علي محاور عدة ،فهناك المحور العاطفي والمحور الاجتماعي والمحور الوطني ومثله قصائد مثل : علميني إزاي أحبك وهي التي تحمل عنوان الديوان واغنية خدينى ومنولوج أنا لسه بحبك آهه وقصيدة "والله وبدأت حكايتنا " ومونولوج "حبيبي قلة ومقاوح"وقصيدة ((جربي تحبي )) وأغنية "متقولشي راح الغرام "وقصيدة "أيوة بحبها " .
والمحور الثاني وهو يحتوي علي قصائد ذات طابع اجتماعي مثل (مشاوير-لو-سؤال-الحزن-صعبان-عجيب-ليه-آه يا شعب-تصوروا-خجل-بضحك كتير-حيرة-نظرة-بحث-خلافات-عيب-آه يا معارضة-شوية...الخ)).
وفيها وصف الانتظار والمشاوير ما بين الحياة والموت وسؤال استنكاري "هو احنا بنى آدمين"و"حزن" وبها فلسفة حياتية ناتجة عن خبرة بالحياة ،وقصيدة "أيوة بحبها " وهى من القصائد الموجهه إلي عشق مصر بعذوبة ورقة .
والديوان بكل محاوره عبارة عن أضمومة من القصائد الصادقة التى تحس بصدق تجربتها فنحن نصدقه في الرثاء عندما يتحدث عن المواطن "سيد الجحش" ويرثي حاله من ملء بطنه وما في داخل دماغه من تفاهات بسبب عدم وجود عمل محدد له .
والشاعر حسن محمد إبراهيم يرتقي بشعره طارقا دروبا أحرى بالاهتمام ،فبلغة بسيطة وصورغير مركبة ، ومفردات بيئية استطاع شاعرنا أن يضع صياغته لهمومه ومشكلاته التى هى هموم ومشكلات جيله ، كما أن تدفق المفردات وتداعيها قد لايحدث علي مستوى التلقي الجمعي خللا ،إذ قد يعمل كأداة إيضاح بعكس ماقد يجده المتلقي ويراه ترهلا في النص.
وسنكتشف أن الشاعر حسن محمد إبراهيم لم يعدد أو يمزج بين عدة أشكال فنية ، من هنا أرى أن التعامل ..من الوجهة الفنية ..مع نصوص الديوان سيكون علي وجهين أو من خلال شقين ، فكأن الديوان مقسوم إلي نصفين يتميز في أوله اعتماد الشاعر علي الحوار الداخلي الذي يتجلى في تبادل ضميري المتكلم والمحاطب ، كما في قصيدة "نهاية"ص48 يقول :
كنت فاكر بالشعر هعدي لبر الأمان
أتاري جوه بحره بلاقيني غرقان
كل ما أركب قافية تركبني أحزان
وفي مقطع ثاني من ذات القصيدة يقول الشاعر :
وأنت ساكت وصابر علي حالك
بعدما كنت شعر سيد زمانك
أصبحت تقيل حتى علي عيالك
ومن خلال جمل بدت أمرية ،بيدأن اللغة لم تكن آمرة بقدر ما جاءت ناصحة تارة ثم مالت للحث والرجاء مرات اخرى.
يؤكد هذا الجو الفني الذي يجعل الشاعر من نفسه فيه جزأين أحدهما يأمر أو ينصح أو يحث وعلي الآخرأن يستجيب ،يؤكد هذا انه باحث عن آخر يلقي عليه همومه ومشكلاته طالبا منه المشاركة في فعل الحل ...ففي قصيدة ((صحى النوم )) ص 115 ..نراها منقسمة إلي مقطعين غير منفصلين يبدأ كلاهما بنفس الجملة التى جاءت في عنوان القصيدة والديوان ((علميني إزاي أحبك)) ،إلا أن الأمر هنا غرضه الرجاء ، ففي المقطع الأول يتحرك الشاعر في إطار علاقة الفرد بأشياء مطلقة كالنوم والعالم والصخر والثلج والوهم والدنيا .
يريد الشاعر أن يأخذ من حبيبته الحب والصمود والصبر والخلاص والسهر علها تعينه علي قراءة الدنيا ومعرفة كوامنها ، ولعلها تكون عونا له علي الأيام ومخلصة له من رداء الحزن حتى يتهيأ الصبر والصمود ، شريطة أن تعيش داخله سنين التى ستجعل منه فارسا هماما بقلب سليم .
أما في المقطع الثاني فهو لا يريد أن يكون شمعة لنفسه فحسب ، بل يريد أن يفرح ولا يغضب ويصدق ولا يكذب ولا يسبح في الخيال الذي صار واقعا من براءة النار التى بين ضلوعه وتكوينه والذين أظماهم الحلم الهجير بالحزن.
كما ستساعده علي التعليم والفهم لمعنى الحب ، ومشكلته هو نفسه إذ يتعامل مع كداب ص 95 ((حتى مع الحبايب وأعز الناس)).
هذا النص كجل نصوص الديوان يطرح فكرة المخلص بنفس نسيجها المتعارف عليه ، المخلص الذي يرجوه الشاعر ليكون حلا لكل المشكلات الخاصة والعامة الحب البطالة الاهمال ، ولكن المخلص لا يأتي ، لم يقل الشاعر حسن محمد إبراهيم في قصيدته مباشرة لكن رجاءه المستمر للآخر الذي هو نفسه يثبت فكرة استحضار الخلاص فهو يبحث في أناة الآخر عنه لعله يكون مختفيا فيه إلي أن يفضح ذلك بسؤاله :
علميني إزاي أواصل علميني
والطريق كله مخاطر عن يميني
أما المحور الثاني الذي عنونه ب"وصية جدي" فتخلو الأغاني من صيغة الأمر بتنوع أغراضها ،كما تبرز المنولوجات التي تكدس بها الديوان ، وأرى أن هذا لم يأت اعتباطا ، فقد اتبع في الديوان الشاعر حسن محمد إبراهيم نهجا سرديا مستفيدا فيه من الشكل الشعري الغنائي في وصية الجد وبنتى حبيبتي يقول :
هي البسمة ف عز الأزمة
هي الفرحة بعد آهاتي
هي الفجر الحلو الآتي
وفي مقطع آخر يقول ص 107
في أي حال أنا باعيش
صعب ومحال ما يهمنيش
والحكايات العبثية كما في قصيدة "أغنية حزين في ذكرى العبور" والتي يبدأها باستغراب وسؤال :" كل ما أبص على حالنا استغرب إزاي احنا عبرنا ؟
والتي هى لغز ساخر يشبه مداعبات الكبار ذوي الحكمة والخبرة ، والتي تعتمد علي علاقات متشابكة بيد أنها لا علاقة بينهما في قلب من هو جناحه مكسور ...ويأتي الرجاء في نهاية القصيدة بكل أسى ومأساوية :
أرجوك تسامحنا
إلا أن تتبع الأبيات بمنطق جديد قد يصل بك إلى معنى قد يكون بسيط يجهش في البكاء له السامعون ويتأثر به الشاعر تأثرا بالغا وهو شاعر جاد له أسلوبه ودروبه الذي يدركه جيدا في شعر العامية المصرية.
حقيقة لا أجد ما أقدم به الشاعر المبدع حسن محمد إبراهيم بديوانه "علميني إزاي أحبك " أفضل وأنسب مما قاله شاعر العامية الكبير عبدالرحمن الأبنودي قبل سنوات في احدى أمسياته الجميلة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب بقاعة 6 اكتوبر فقد قال :" عار علي الشعر أن يناطح ما ثبتت شرفه ...وان الصمت حين تتضح الصور ويتأكد واقع الحال ...سوف نصبح كلنا صغار إذا لم ننم هذا الميراث المدهش ونزوده بمدهشات جديدة ..وإذا لم نسحب عباءته علي الواقع الجديد".
حسن محمد إبراهيم ...يعمل باقتدار علي انقاذنا من هذا المصير البئيس الذي تنبأ به الأبنودي ، فهو يصر علي انتشالنا من واقع الأدب النمطي الرتيب ويزودنا بمدهشة جديدة في هذا الديوان ((علميني إزاي أحبك)) .
فحين يغني غيره لواقع غير واقعنا ...ويبكي علي مآس ليست مآسينا ويستخدم أدوات مستوردة غريبة علي أسماعنا صادمة لأذواقنا ...يبقى الشاعر حسن محمد إبراهيم في ديوانه ((علميني إزاي أحبك)) يسير بخطى ثابتة واثقة علي طريق انقاذنا من مصير (الصغار) وذلك بتنمية ميراثنا من شعر العامية والغنائية علي وجه الخصوص ذلك أن تنمية هذا الميراث يكون بالانتماء اليه أولا وبالاعتزاز به ثم التحر من اسر تقليد رموزه وتراكيبه.
والشاعر حسن محمد إبراهيم في هذا الديوان "علميني إزاي أحبك" الذي بين أيدينا ...يثبت لنا أنه شاعر جيد وهو في الوقت نفسه غير تقليدي وغير نمطي وغير عادي ...له صوته الخاص به ، ولا يقلد أحدا ،ولا يكرر ما اثاره غيره من رؤى وأفكار وما صاغوه من تراكيب .
وبعيدا عن أجواء القصائد ...فشعر حسن محمد إبراهيم يبهرني دائما بصوره المزدحمة وأخيلته المبتكره ومعانيه المتتابعة المتلاحقة ، وكلماته قوية الواقع شديدة الجرس النفسي .
وهو -مع ذلك- واصف بليغ يمتلك قلما مميزا وأسلوبا متفردا يجعل موضوعه وفكرته وقصيدته ذات جو خاص بها نادرا ما تتذوقه وتحسه وتجده مع شاعر آخر.
شيء أخر يميز شاعرنا حسن محمد إبراهيم عن غيره ...وأجد هذا الأمر بالذات جليا ثابتا في كل ما قرأته له في ديوانه "علميني إزاي أحبك" ... وهو أنه لا يهتم كثيرا لمستوى المتلقي ولا يلقى بالا لذوق الجمهور ورغباته وطلباته ، فيتساهل مرة في الصياغة أو يخفف من وطأة الأخيلة وقوة الأداء وعمق الرمز .
يأبى الشاعر حسن محمد إبراهيم دائما إلا أن يحلق في سماء الإبداع السامقة ..ويرفض حتى أن يتدنى منا ويهبط لمستوى الصغار ..بل يجبرنا في كل مرة علي التسامي والارتقاءوالارتفاع اليه ، لنعيش معه اجواء الإبداع الحقيقي ولنتخفف من التبعية والنمطية ...ولنتحرر من أسر المعاني المستهلكة والافكار المهترئة.
أؤكد عن ديوان "علميني إزاي أحبك" أنه يحتاج إلي عدة دراسات مطولة ، ولكننى هنا أريد لفت الانظار إلي نقطتين في الديوان فحسب وهما :
الأولى : رمزية القصائد في الديوان ، فالقصائد في معظمها بعناصرها وأشخاصها وادواتها ومفرداتها ((الحياة- الموت - الانتظار- سؤال بينقر - ريحة عطب - النيل بيبكي - هتموت النهاردة - آه يا شعب - تتصوروا- خجل- بضحك كتير)).
كل ذلك التعبيرات وغيرها استخدمها الشاعر كأدوات ورموز ، واستطاع بخياله الخصب تحويل القضايا المصيريه التي نعيشها وتعيشها أمتنا العربية إلي صور وشخوص ناطقة نابضة بالحياة.
تحكي لنا بعفوية وحميمية تفاصيل واقعنا المرير.
واعتقد أن قراءة عادية للديوان "علميني إزاي أحبك" باعتباره مجرد ديوان شعر عامي غنائي من اشعار البؤس والظلم والقهر اليومي ، دون التحليق مع خيال الشاعر حسن محمد إبراهيم الخصب ، سوف تفقد الديوان أهميته وسوف تمحو عنه لمسته الجمالية وسيخرجنا في النهاية من بوابته الخلفية علي عجل بدون الوصول إلي الغاية الحقيقة التي من أجلها كتب الشاعر الديوان.
النقطة الثانية : ذلك الجمال المبهر الذى خرج بد اليدوان من يدي هذا الشاعر الفنان حسن محمد إبراهيم ، وسر الجمال يكمن في دقة التشبيه وروعة الأخيلة وفي مناسبتها لموضوع الديوان وهدفه وغايته ، تأمل مثلا كيف (مسقوط من رحم الحنين) ، وكيف (بشوف الكذب بيتجسد في ثوب الحقيقة) ، ثم كيف ( أرمي الهموم علي بابها ...أغسل دماغي في ترابها).
وفي النهاية نقدم تحية حب واجلال وتقدير للشاعر الجميل المبدع حسن محمد إبراهيم الذى تمتعت بقراءة ديوانه الشعري الحي والنابض "علميني إزاي أحبك" ودوما في رقي وسمو غي عالم الإبداع الشعري العامي الغنائي الساحر للقلوب .
انتهت
التعليقات (0)