مواضيع اليوم

التلقي ومشكلة التأويل ( الذكورة نموذجاً)

soshan mas

2011-08-02 20:42:07

0

 ربما كان السيجار مجرد سيجار

سيغموند فرويد
تأتي إلينا عين الكاميرا الانتقائية التي تلتقط وتسجل ما يفترض أن يتحول إلى إدراكات يحللها المرء ليعيد تركيبها من جديد، بالصور والأفلام التي نشاهدها. كما يستثمر المتلقي ما يصدر عن الكاميرا بوصفه واقعاً بديلاً  عما يمكن أن يكون واقعاً فعلياً.  وبهذا يمكن القول إن الكاميرا لا تتحدث عن الحياة الواقعية أبداً. بل هي تتحدث عن العناصر الأكثر إمتاعاً فيها، الجنس والعنف والجمال والفكاهة والأزمات وتجمعهم في شكل مكثف ومضخم. وبهذا فالأفلام السينمائية والدراما التلفزيونية وحتى أفلام الكرتون تتحدث عن التجربة الإنسانية، لكنها تفعل ذلك فقط عبر مرآة لغة النزعة الحسية. وللمرء أن يؤول ما يراه من وجهة نظره. فالشجرة قد تبدو بيتاً للبعض وشجرة لبعض آخر، وجنة لآخرين.
 ثمة من يقول "في البدء كانت الكلمة". و يقول آخرون "في البدء كان الفعل". لكن ومن دون ريب استبدلت الثقافة البشرية على مر العصور تلك المقولات بواحدة من عندياتها وكانت " في البدء كان الذكر". فسقوط الذكر من الفردوس جعل منه ضحية مزدوجة للإله الذي ضحى به، وضحية عجزه عن الانتقام من الله بتحويل انتقامه ضد " المرأة". ومن خلال كونه ضحية وجلاداً في آن استخدم الرجل قضيبه كسلاح وحيد يقهر به ليس المرأة فقط، بل العالم أيضاً. وما التاريخ سوى شاهد على سيطرته في المجتمعات منذ ظهور الخليقة. لقد ارتبط القضيب بالسيطرة والقوة. كما تجلت منظومته الرمزية في ميادين النشاط الإنساني عامة ومن ضمنها الفن. فمن يشاهد التماثيل الحجرية القديمة لعارف بأن الأقدمين ثبتوا مفاهيمهم عن الرجل الفحل من خلال تصوير قضيبه وتجسيده عبر أشكال شتى. فإدراكات الجندر[i] التي كانت سائدة في اليونان القديمة تعكس مجتمعاً تمركز إلى درجة كبيرة حول الذكر. وانتشر الكثير من القيم والعادات التي كرست مفاهيم البطرياركية والغلمنة والجنس المثلي بوصفها معايير مجتمعية. كما أعلت تلك المفاهيم من شأن القوة البدنية والعسكرية التي يجسدها الذكور في المجتمع وترافق ذلك مع تمجيد للعري الذكوري الجميل بحسب اليونانيين وتجسيد الفالوس سواء نحتاً أم رسماً. هذا في الوقت الذي أقصيت فيه النساء على نحو شبه كامل من المشهد العام. باختصار انتقل مفهوم الفالوس ليشمل كل شيء، بدءاً من إنسان الكهوف وصولاً إلى ناجز الفن الذي تُوِّج بالسينما في أواخر القرن التاسع عشر  وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين.
 تجَذَّر استخدام الرموز القضيبية  في ثقافة الفيلم إلى درجة غير مسبوقة. وهذا شيء ليس بجديد، فالثقافة السينمائية منتج " ذكوري". فمن أفلام الويسترن التي تبرز البطل  الأوحد الذي يمتطي صهوة الحصان والذي يقضي على جميع من الفيلم  بمسدسه" قضيبه" الآخر أو ببندقيته " القضيب الأكثر فاعلية"، إلى أفلام الهنود الحمر التي تجسد رجالاً "بالغي التوحش مقارنة بالأبيض" وصولاً إلى ظاهرة البطل الفرد التي جسدتها على خير نحو أفلام شأن " رامبو" و" بريديتور" وغيرها كثير. وبالطبع لكل بطل أسلحته التي يستخدمها للتعبير عن ذكورته. فالبنادق والأسلحة النارية بجميع صنوفها والتي تظهر في أفلام الويسترن  والآكشن والأفلام البوليسية إن هي إلا دلائل على امتلاك البطل لأكثر من قضيب يستعملهم عندما يخيب أحدهم. فها هو جيمس بوند في نسخه المختلفة ابتداء من روجر مور وصولاً إلى بيرس بروزنان يستخدم كل ما يمكنه من أسلحة للقضاء على خصومه، الرصاص والبنادق والتوربيدو والسيارات الحديثة الخ وجميعها تشبه القضيب إن لم تتطابق معه. وأيضاً ما الحركات البهلوانية التي يقوم بها أبطال السينما الخارقين سوى التواءات و هي تشفير لحركات يقوم بها القضيب أثناء الممارسة الجنسية.
وإذا كانت البنادق والطلقات النارية وحتى القنابل رموزاً توجه إلى أشخاص أي أنها لا تبتعد كثيراً في الفضاء، فإن الصواريخ والمقذوقات الهائلة والتي صُمِّمت على شكل القضيب المدبب تنطلق في الفضاء الرحب الذي يمثل فرج امرأة واسع.
أما في الأفلام التاريخية وتلك التي تتحدث عن الهنود الحمر فنرى أن الأسلحة التي تستخدم فيها تعبر وبشكل صارخ عن أكثر أشكال القضيب بدائية وجُلّها هنا مصنوع من المعادن. فالرماح والسيوف والخناجر والفؤوس إن هي إلا أعضاء ذكورة تخترق الأجساد كما يخترق القضيب الفرج. والسلاح المستخدم هنا يشبه القضيب الحقيقي إلى درجة بعيدة في عمله فهو يُسيّل الدم مباشرة.
كما أن المركبات لم تخل هي الأخرى من هذا التشابه اللافت، سيما القطارات الحديثة بالغة السرعة ومترو الأنفاق الذي يدخل رحم الأرض. وأما الطائرات  فهي تخترق الفضاء وكذالك السفن التي تمخر عباب المياه.
وحتى ما يمكن أن نطلق عليه بأكسسوارات يستعين بها مصنعو الأفلام يمكن تأويلها على هذا النحو. فهناك السيجار دلالة القوة والسيطرة والذي يدخنه في الغالب رجال فحول ( كاسترو- صدام حسين). هذا السيجار الذي لعب دور قضيب حقيقي في قضية مونيكا لوينسكي و الرئيس الأمريكي السابق كلينتون. (الطريف في الأمر أن  الأمريكيين بدؤوا يبدون حساسية حيال هذا الأمر حتى أنهم لا يفوتون مشهداً يُدَخّن فيه السيجار من دون أن يعلقوا ويلمحوا إلى قضية رئيسهم السابق بالرغم من أن المشهد يأتي في سياق برئ.)
وحتى نوافير المياه والآبار وخراطيم المياه جميعها تشي بشكل القضيب. ولمن رأى فيلم " سايكو" لسوف يبقى في باله مشهد الدش في الحمام. ولا يبتعد الأمر عن الملوك والأباطرة والأساقفة الذين يظهرون في الأفلام فجميعهم يحملون صولجانات رمز قوتهم الأكيدة.
كما تظهر الأفلام أيضاً الأعمدة هائلة الحجم والمباني الشاهقة وناطحات السحاب شأن الإمباير ستيت الذي يظهر في فيلم " كينغ كونغ" أو المونوليث الذي يظهر في فيلم :" أوذيسة الفضاء 2001" وجميعها تقترن  بالقوة والتسيد الذكوري. أما نصب واشنطن والمداخن والأبراج وأبراج الكنائس والأعمدة والسلى التي يحفظ فيها علف الدواب فجميعها شقت طريقها إلى المنظومة الرمزية للقضيب. وثمة مشهد طريف في الفيلم الكوميدي " ذِ نيكد غن" يبدي البطل وهو يتسلق أحد المباني جُعِلت أعمدته على شكل أعضاء ذكورة صريحة.
 وليس من قبيل المصادفة أن يظهر "الغرباء الأشرار" القادمين من كواكب ومجرات أخرى في السينما وكأنهم أعضاء ذكورة متحركة. فمن شاهد سلسلة أفلام " ألينز"[ii] سيعرف هذا. كما أن من يدقق في الشخصيات التي تظهر في حرب النجوم سواء كان "دارث فادر" أو الجنود سيجد دليلاً على ذلك. وبالطبع هذا غيض من فيض. كان هذا فيما يتصل بالسينما ولكن ماذا عن الدراما التلفزيونية. لا يمكن قول الكثير عن دراما التلفزيون في الغرب ذلك أنها تستخدم تقنيات السينما بحيث يكاد المرء لا يشعر بأنه أمام مسلسل تلفزيوني. لذا نجد لزاماً علينا أن نتحول إلى الدراما العربية المصرية منها والشامية.
فمن يشاهد المسلسلات الدرامية المصرية وتحديداً تلك التي تتحدث عن الصعيد المصري، أو المسلسلات الدرامية الشامية التي تتحدث عن فترة بدايات القرن العشرين وصولاً إلى خمسينياته سوف يدرك مدى حجم " الفحولة" التي وُظِّفت فيها بحيث يُغيَّب كل شيء ليخلي السبيل إلى مفهوم القضيب ومنظومته الرمزية. فالوجوه التي يتم اختيارها لأبطال تلك المسلسلات يجب أن تعبر عن ذكورة كاملة وإلا فإن الشخصية ستكون أقرب إلى النساء منها إلى الرجال. ففي غالب الأحيان نرى " البطل الفحل" وقد شوّه وجهه ندبٌ أو جرح  ربما بفعل سكين أو خنجر. وأما الصوت فلا يكفي أن يكون جهورياً وعريضاً بل يجب أن يبدو وكأنه خارج من الأعماق أو فلنقل من المعدة مع إبراز نوع من الصدى يفترض أنه سيهدم الجدران إن وقع عليها، مع نظرة من العينين توحي وكأنها ستفترس الآخر افتراساً.وللشارب حكاية أخرى، إذ لا يمكن أن  يكون الفحل " فحلاً من دونه فهو أيقونة الرجولة ورمز الذكورة بل إنه يلعب دور القضيب البديل عندما يغيب الحقيقي ( انظر باب الحارة سامر المصري وعباس النوري وغيرهم كثير). وللشارب شكل معين، إذ يجب أن يكون كثاً، وفي الغالب مفتولاً على الجانبين بحيث يبدو طرفاه كنصل الخنجر. ولمن تابع الدراما الشامية يجد هناك مسلسلاً  بنُيِت ثيمته على الشارب. ثمة من يقول إن الفترة التي يتحدث عنها المسلسل و الثقافة السائدة آنذاك تقتضيان ذلك. ربما كان هذا صحيحاً لكن أن تظهر الشوارب في كل مكان بحيث تملأ الشاشة فهو أمر يحتاج إلى تأمل و تمحيص. وقد برع في هذه الأدوار كل من سامر المصري، وعباس النوري مجسدين الشارب البديل على خير مايكون.  إذا كنا قد استعرضنا في عجالة ما يمكن أن يتلقاه المرء على أنه منظومة رمزية قضيبية سواء في السينما أو في دراما التلفزيون، نجد لزاماً أن نستعرض حادثة طريفة لكن  بطلها هنا فيلم كرتوني للأطفال.
فقد اتُّهِمَ غلاف فيلم الأطفال" لتل ميرميد" ( حورية البحر الصغيرة)، والحكاية بالطبع "لوالت ديزني" بأن أحد أبراج القلعة التي رسمت عليه هو قضيب ذكورة رسمه فنان عن عمد.
فبحسب الكثيرين كان ثمة تطابق لافت بين البرج والقضيب. آنذاك سرت شائعات اتهمت  الفنان الذي رسم الغلاف بأنه تعمد أن يبرز قضيب الذكورة بعد أن أطلق الفيديو كاسيت إلى الأسواق بوقت قصير. وقيل حينذاك إن الفنان كان ساخطاً من المؤسسة التي يعمل فيها أو أنه كان يودِّعها عندما علم بأنها ستطرده. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فالأمر حصل وتلقى الناس البرج على أنه قضيب. أثارت القضية الكثير من الجدل في الولايات المتحدة الأمريكية وتناولتها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ما جعل محلات والت ديزني وفوينكس تسحب الفيلم من الأسواق، لتعيده بعد أن تم إجراء تعديلات على الغلاف.
للمرء أن يؤول ما يشاء. وله أن يرفض أو يقبل. لكن ما هو أكيد أن الجنس تحول إلى دالٍ ومدلول في آن، وقبع في لاشعور جمعي كرَّسته ثقافات ذكورية منذ فجر الخليقة إلى يومنا هذا. ثقافات تسيدت التاريخ والجغرافيا ما يلزم المرء أن يصحح من مسارها ولو بقليل من تأويل.
صخر الحاج حسين
 نشرت في جسد اللبنانية العدد الثاني
 



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات