عبد الهادي فنجان الساعدي
الفلسفة .. تلكم الكلمة المرعبة التي نتصورانها شيء بعيد المنال ولا يمكن الدخول الى عالمها الغريب بسهولة ، تشكل في نفس الوقت مكونات الانسان – كل انسان – وهي التي تحدد مستقبله ، اذ ان مستقبل الانسان يتكون من مجموعة التشكيلات النفسية والثقافية والمكتسبات وطرق الاستقبال لهذه المكتسبات .. وتشمل الفلسفة – ايضا – التكوين الأولي الفكري للانسان والتقنية الذاتية التي بامكانها صياغة تلكم الفلسفة وصقلها وجعلها ظاهرة للوجود . أن الفلسفة التي نقراها هي تحصيل حاصل الافكار الفلسفية التي تم التوصل الى صياغتها من خلال الدراسات الفكرية المعمقة للظواهر الكونية والانسانية . صحيح أن هناك فلسفات عديدة جدا وموزعة على الماديات والروحيات او الطبيعة وما وراء الطبيعة ولكننا في دراستنا هذه نقصد التكوين الفلسفي للانسان وكيف يبدا ، وكيف يتحكم بمستقبل الفرد .
تبدأ الامنيات الداخلية في نفس الطفل ولا نقصد الامنيات التي يجمع عليها الاطفال في الظاهر اذ يريد اكثر الاطفال أن يكونوا اطباء ومهندسين وطيارين وقلما يشذ طفل عن هذه القاعدة فيقول بانه يريد أن يصير – كناسا مثلا – وقد رايت بعض الاطفال بمسيرة حياتي يشذون عن الاماني الجماعية فمنهم من اراد ان يكون – منظفا واخر طلب ان يكون فراشاً لأن اخاه طلب أن يكون دكتورا . ليست هذه الاماني الجماعية هو ما نقصده انما نقصد الاماني النفسية الداخلية التي تختمر في ذهن الطفل وعقله الباطن . فمنهم من تجذبه البطولة ومنهم من تجذبه الجريمة بصورتها البطولية العنيفة ومنهم من تجذبه اركان الهدوء او الخيبة او الخذلان وهناك صور عديدة مثل ان يكون غنيا او ان يمتلك سيارة او ان يكون اميرا للشعراء او مغنيا مشهورا . كل هذه الصور للخيالات المبكرة تكون اجزاء من تكوينات فلسفة الانسان وعلى هذا الاساس سيكون مستقبله او ما يقارب ذلك التصور التكويني الفلسفي الأولي . ولهذا فالنشأة الأولى لها التاثير المباشر في مستقبل الانسان فضلا عن الفرص العديدة والعوامل المساعدة وهكذا نجد أن ثلاثة اخوان تختلف مصائرهم المستقبلية وقد تتشابه وذلك تبعا للتكوين الفلسفي لهؤلاء ، فمنهم من يصبح طبيبا مشهورا في الحين الذي نجد اخيه يراوح في ادنى سلم الدرجات الوظيفية وقد استمر في حياة اللهو والعربدة حتى يصبح الفرق واضحا بينه وبين اخويه .
ذلك التعليل يشمل الوطن وفلسفته والامة وفلسفتها . وهنا تصبح القضية اسهل للتمييز اذ ان الوطن او الامة تتبع فلسفة معينة من ضمن عدة فلسفات موجودة في العالم مثل الفلسفة الاسلامية او الراسمالية او الاشتراكية وهذه هي النظم الفلسفية وقد تتبع فلسفة معينة فلسفة اخرى وكمثال على ذلك فالفلسفة الاشتراكية هي وليدة الفلسفة الماركسية كما ان الفلسفة الراسمالية هي وليدة فلسفات عديدة علمانية ساهم بصياغتها الكثير من فلاسفة الغرب . وهذه الفلسفات الثلاث هي التي تتفرع عنها بقية الفلسفات العالمية المادية والروحية وهي في نفس الوقت تتكون من مجموعة من النظريات التي ساهمت في تكوين تلكم الفلسفة . ولذلك نرى أن الدولة التي تتبع الفلسفة الاسلامية يؤطر تعاملاتها مبدأ الحلال والحرام بشكل رئيس . أما الدولة التي تتبع الفلسفة الراسمالية فتكون مبادئ سياستها مرتكزة على اهمية حرية الفرد بشكل رئيس وان حرية الفرد لا تقف الا عند حريات الاخرين . اما بالنسبة للنظام الذي يتبع الفلسفة الاشتراكية او الماركسية فهو الذي تنبع مبادؤه من خلال التفسير المادي للتاريخ وللظواهر عموما وهو يقف عند حدود الماديات ولا يتصل بالروحيات نهائيا، بل لا يعترف بها .
ومن هنا يولد الاقتصاد الذي يتبعه الفرد كممارسة فردية او الدولة كقوانين وانظمة وضوابط وتعاملات وبيع وشراء . فالدولة التي تتخذ الفلسفة الاسلامية كمبدا للحياة نرى أن اقتصادها يتركز على التعامل الاسلامي من باب الحلال والحرام "دع ما يريبك الى مالا يريبك" أو قول احد الائمة الافذاد (من اراد ان يعمل بالتجارة فليتفقه في الدين) وهنا نعرف ان الارتباط اصبح قانونيا وشرعيا بين التجارة والفقه الديني لان نهاية المطاف هي الاخرة والتي تشتمل على الحساب الذي يؤدي اما للجنة او للنار وهذا يعتبر من الضوابط الدينية الشديدة الحساسية في النظام الإسلامي .
أما في النظام الرأسمالي فالاقتصاد رأسمالي ويتبع ما تمليه عليه الفلسفة الرأسمالية من حيث أن (ما لله .. لله .. وما لقيصر.. لقيصر) وأن الدين عبادة فردية لا علاقة لها بالتجارة والتجارة (عرض وطلب) وهكذا. لذا نرى أن الحياة الاقتصادية الرأسمالية تنبع كممارسة من الفلسفة الرأسمالية التي هي مادية قائمة على عدم تدخل الدولة الا فيما ندر .
أما الاقتصاد الاشتراكي فيتبع الفلسفة الاشتراكية التي هي حلقة وسطية بين ما كان وما سيكون . انها الحلقة الوسطية المهمة التي توصل الى النظام الشيوعي، حيث شيوع امتلاك وسائل الانتاج ودكتاتورية البروليتاريا وما يتبع ذلك من تغييرات جذرية في المجتمع . والاقتصاد الاشتراكي بتحليله المادي يعتمد على الفلسفة الاشتراكية التي تقول بسيطرة الدولة في المرحلة الأولى على وسائل الانتاج وتوزيعها على المواطنين على مبدأ (من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته) والذي يوصل في النهاية كما قلنا الى تطبيق مبدأ سيطرة البروليتاريا او دكتاتورية البرولتياريا كل ذلك يتم بعيدا عن الممارسات الفردية للانتاج .
نصل بعد ذلك الى الحلقة الثالثة والمهمة التي هي المجتمع حيث أن المجتمع وممارساته العديدة يصبحان انعكاسا للاقتصاد الموجود في ذلك البلد . فالاقتصاد الاسلامي يولد مجتمعا اسلاميا وكذلك الاقتصاد الراسمالي يولد مجتمعا رأسماليا بكل مفاصل حياته الاجتماعية او بعضها وكذلك الاقتصاد الاشتراكي سيولد مجتمعا اشتراكيا يمتاز بثقافة خاصة به وبممارسات خاصة تختلف في العديد من الوجوه عن بقية المجتمعات التي تعيش في ظل اقتصادات مختلفة .
أن الدولة او الحكومة ستولد حتما من رحم مجتمعها وهي تشبهه الى حد بعيد . فالمفروض ان الحكومة التي ستولد من مجتمع اسلامي ناتج بدوره عن اقتصاد اسلامي ، وهذا الاقتصاد ناتج بالضرورة عن فلسفة اسلامية ستكون بدون شك حكومة اسلامية لكي تتلاءم مع تكوينات الحلقات الثلاث الأولى واي خلل في احدى الحلقات السابقة سيولد حتما حلقة اخرى تشكو من الخلل وحتى نصل الحلقة الاخيرة وهي الحكومة حيث ستولد حلقة مشوهة ، أي حكومة اسلامية مشوهة غير مكتملة الشروط .
أما في حالة المجتمع الرأسمالي فلا نعتقد بانه سيولد حكومة اسلامية او اشتراكية محضة . سيولد حتما حكومة راسمالية تسير ضمن ضوابط المجتمع الرأسمالي والذي يسير ضمن تاثيرات الاقتصاد الراسمالي والذي ولد من رحم الفلسفة الراسمالية. وكذلك الحال بالنسبة للحكومة الاشتراكية ، واي خلل سيولد حتما تشوها في البنية الحكومية التي تعتمد على البنى الاخرى في ولادتها وفي تقنيتها.
وهناك سؤال مهم طالما سمعناه في العهود السابقة يقول (لماذا لا تشبه حكومتنا ، حكومات العالم اجمع . فهي تختلف من حيث النشأة والتطبيق والممارسات اليومية) نعود لنفس الحلقات السابقة فنجد أن حكوماتنا السالفة قد انبثقت من رحم مجتمع غير متكامل المواصفات ويحمل العديد من الاختلافات الجينية والتكوينية ولا يتصف بصفة اقتصادية واحدة والسبب الرئيس هو اختلال في الحلقات الأولى ولدّ اختلالا او تشوهات في باقي الحلقات فنحن كشعب او كوطن لم نعتمد على فلسفة واحدة انما اعتمدنا على عدة فلسفات ولدت اقتصادات متنافرة وهذه الاقتصادات ولدت بدورها مجتمعا غير متشابه مما ادى الى اختلاف وجهات النظر في تكوين الحكومات السابقة وهكذا .
فالفلسفة اذن هي الحلقة الأولى التي تعتبر التكوين الاساسي للفرد وللدولة وللامة التي بامكانها ان تولد اقتصادا مشابها ، والذي بدوره سيولد حتما مجتمعا مشابها والحلقة الاخيرة هي الحكومة التي ستولد حتما مشابهة لهذا الجين الذي ولد منه . ورحم الله الفيلسوف الاسلامي (محمد باقر الصدر) الذي وضع اللبنات الأولى في هذه الدراسات الانسانية العظيمة والتي بدانا نستقي منها ما نشاء من الدراسات الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
التعليقات (0)