يتخذ التكفير مكانة تتسع باضطراد ضمن الفضاء الاعلامي والجدلي وبمناح تتجاوز ثنائيات السبب والنتيجة الى محاولة فهم الاسس التي استطاعت منها هذه الثقافة المدمرة التسلل الى المشهد السياسي والامني للعديد من دول المنطقة, خصوصا مع التهديدات الجدية -بل الوجودية - التي تفرضها هذه الثقافة مستهدفة الأمة في عمق نسيجها الوطني, ومبشرة بمنظومة علاقات تتعارض تماما مع مبدأ التعايش بين مكونات المجتمع المبنية على حرية الاعتقاد والتعبير عن المتبنيات والقناعات الايديولوجية والفكرية والتي تشكل الاساس المكين لأي تشكل مجتمعي تجاه بناء الدولة المدنية الجامعة الضامة المستندة الى العدالة الاجتماعية ومبادىء حقوق الانسان..
ولو اردنا مقاربة موضوعة التكفير, مع مراعاة السير بخطى متئدة - وتعفف فكري- على هامش منزلقات الفقه ومتاهاته, نجد انه يمثل الحكم على احد ما - ومجموعات كاملة في بعض الاحيان- بالكفر والخروج عن ثوابت عليا معينة توصم صاحبها بالارتداد عن المعلوم بالضرورة من الدين, وهذا ما يشكل في بيئة متخمة بالانغلاق والامية ومأزومة بالفورانات العاطفية المؤثثة بالاحكام المسبقة, دعوة صريحة الى القتل وهدر دم الافراد او الجماعات المعنية بالامر, وهذا ما افضى بالعديد من العلماء والرموز الفكرية في الدعوة الى التؤدة المحفوفة بالحذر البالغ في التعاطي مع التكفير كونه شأناً في منتهى الخطورة، والاحتراز عن التهاون في رميه على الناس ما استطاع الفقيه الى ذلك سبيلاً, لأن "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد". على مايرى حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي الذي دعا , والعديد معه من علماء الامة, الى حصر هذا الحكم بيد السلطات الشرعية في اعلى مستوياتها..
ولكن بعض -بل قد يكون جل- هذه السلطات , ولتعشقها المتقادم مع مراكز القرار السياسي اسهمت في تحول موضوعة التكفير الى سلاح فعال في حسم الصراعات بين القوى السياسية المتلفعة والمتمترسة بخطوط الصد الفقهية والمذهبية, بل ان موضوعة التكفير تمددت الى ان تكون وسيلة بيد الحكم تجاه الافراد الذين تبدر منهم اشارات ما يمكن تفسيرها- ولو بجهد جهيد- الى انها تدعو الى تقويض سلطة الحكم او تدعو الى الحد من سطوته على المجتمع, وهذا ما انتج لنا قوائم متطاولة من ضحايا التكفير, من غيلان الدمشقي وابن رشد والحلاج وابن عربي، الى طه حسين ومصطفى عبد الرازق وصادق العظم وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد والكثير الكثير غيرهم من دعاة الحقيقة والتفكير النقدي الحر.
فالتكفير والتفسيق لم يعد من الأحكام الشرعية التي ترد بالضرورة الى كلام الله "عزوجل" او الى سنة نبيه الاكرم" ص", بل تشوه الى حالة من السعار الاستئصالي الاقصائي المنفلت, تلغي الآخر وتصادر حقه في الاختلاف, ولا تعترف بالسنن الكونية التي ترعى حرية الإنسان في التعبير والتصرف والاعتقاد وفق مبادىء الحرية والتعددية وحقوق الانسان. وتحاول انتاج ثقافة ماضوية ملتبسة ناتجة من اجتهادات فقهية محدودة, ودون مراعاة الاختلاف في السياق الثقافي والإجتماعي والسياسي ما بين واقعنا المعاصر والقرون الماضية التي انتجت تلك المراجعات.
ان المجتمع الاسلامي , ومن خلال قواه الفكرية والسياسية, مطالب بالتصدي الحازم لهذا المد التكفيري الافنائي الجارف, من خلال إجراءات حقيقية وفعالة لمواجهة محاولات تكميم الأفواه باسم الدفاع عن الإسلام من خلال التعامل مع مثل هذه التفلتات باطارها الجنائي بوصفها جريمة تستوجب العقاب لكونها تسيء إلى ركن أساسي من أركان الحرية والعدالة الإنسانية.
وبذل الجهود في تنقية التراث الاسلامي من الفتاوى التي تساهم في إذكاء شعلة التطرف والتشدد. لعدم امكانية التنبؤ بتداعياتها وسط ذلك التبسط بالتأويل والاستنباط والتوظيف السياسي لكل ما من شأنه أن يخدم مشاريع التطرف.
ان دول المنطقة المبتلاة - حد الحصر- بهذه الآفة , مدعوة الى تحريك المبادرات القانونية اللازمة للتعاطي مع هذا المعضل الثقافي والحضاري لحماية حق الآخر في التعبير والقضاء على اي ممارسة تستهدف التحريض على العنف والقتل تحت أي مسمى من المسميات. والاهم من ذلك , هو المضي قدما نحو الديموقراطية والمدنية وحماية الحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير والمعتقد في إطار القوانين والمواثيق الدولية التي تنسجم مع كونية حقوق الإنسان.
التعليقات (0)