مواضيع اليوم

التكريم على طريقة البوكر

نزار يوسف

2009-12-06 19:52:02

0

التكريم على طريقة البوكر


تطالعنا في الصحف و الدوريات و الفضائيات ظاهرة التكريم للفنانين أو المبدعين أو المفكرين . و هي ظاهرة كانت موجودة من قبل و لكن ليست بهذه الضخامة و الكم و هذا الترويج الإعلامي الدعائي الذي نراه الآن . و ما يهمنا في معمعتنا هذه ، ليس موضوع و قضية التكريم بحد ذاته بل الطريقة التي يطرح بها و يتم بموجبها هذا التكريم ( و الحالة الشائعة هنا هي حالة الفنانين ) . و شروط عملية التكريم السليمة بنظرنا مرتهنة بالمعايير التالية :


1) - التكريم يجب أن يقع على شخص حي . فالفنان أو الممثل الذي يتوجب تكريمه يجب أن يكون حياً يرزق و موجوداً بذاته و عيانه أو ينوب وكيلاً عنه في حال تعذر حضوره لمرض أو طارئ أو مانع قسري معين . و ليس شخص متوفى منذ فترة طويلة .


2) - الفنان موضوع التكريم يجب أن يكون له تاريخ قديم في الفن أو التمثيل و على مستو واسع من الشهرة و له أعمال فنية متعددة . و ليس حديث الشهرة حتى و إن كانت قوية . فالزمن بنظرنا هو عامل مهم في قضية التكريم لأنه تعبير عن الأصالة و القدم و العتق تماماً كما اللوحة أو التحفة الأثرية .
3) - التكريم يجب أن يختص به الشخص موضوع التكريم فقط بحيث يعرف أنه هو صاحب التكريم دوناً عن الغير فلا يكرم فنان أو مفكر مثلاً و يكرم معه مجموعة من الفنانين أو الأدباء أو ما شابه بحيث تضيع الطاسة و يغرق هذا الفنان في بحر متلاطم من الأسماء الأخرى التي تغمره .


4) - التكريم عادة يكون محكوماً بالعلاقة التوافقية بين المكرَم و المكِرم ، فكلما كان الشخص موضوع التكريم مرتق إلى درجة عالية من القدم و العراقة و النتاج الفني أو العلمي أو الفكري أو الأدبي ، كان الشخص المكرِم على نفس السوية أو أعلى و يفترض أن يكون أعلى عادة ( رئيس جمهورية – ملك - رئيس وزراء .. و ما شابه ) و عادة أيضاً يقلد الشخص المكرَم وساماً رسمياً يمثل البلد أو الدولة .


و ما يجري الآن في بعض الميادين و الأوساط ، هو طرقة مخزية للتكريم ، و مهينة و تعبر عن استهزاء و جهل كبيرين بحق المكرَم من قبل المكرِم ، و بنظرنا هي طريقة مقصودة للإساءة إلى الشخص المكرَم . و أشهر طريقتين للإساءة إلى الشخص موضوع التكريم هما :


الأولى : التكريم بطريقة مبتذلة بحيث يكرم مع الشخص مجموعة أشخاص من بني جنسه المهني و لكن من مرتبة أدنى بدرجات عدة و ذلك لكسر قيمة و قدر ذلك الشخص ، فضلاً أنه يعطى بعد عمر طويل من العطاء و الشقاء و التعب المضني سواء في الأدب أو التمثيل أو المسرح أو الفكر أو التربية ، يعطى شهادة من الورق المقوى لكي ينقعها ويشرب منقوعها بعد غليه مع السحلب و اللوزينج ، كما يعطى علبة صغيرة فيها ولاعة أو قلم أو علكة شيكلس .


الثانية : تكريم الشخص المستحق للتكريم حصراً بعد وفاته ، أما قبل وفاته فهو لا يجوز عليه التكريم و تكريمه محرم شرعاً و فقهاً حتى و لو كان مخترع للقنبلة الذرية الفنية أو الأدبية أو الفكرية ، وفي نطاق حياته يكون في طي النسيان و مهملاً ، أكان ذلك على المستوى المهني حيث لا دور يحصل عليه و لا عمل يعيش منه حتى في مجاله هو .. أم على المستوى الاجتماعي حيث يكون مهملاً و يكون تحت نير تقصير إعلامي قاتل و الأضواء غير مسلطة عليه .


بعد وفاة هذا الشخص تفتح فجأة الأنوار و البلجتكورات عليه ، تماماً كما يحصل عند إضاءة ملعب فارغ لكرة القدم في ليلة ليلاء .. مقمرة سوداء . و يتم التحدث عن مزايا الفقيد الراحل و أعماله و آثاره و تظهر في أعمدة الصحف مقالات عناوين مثل ( و أخيراً ذهب أبو حمودة – وداعاً أبو حمودة – أبو حمودة وداعاً – أبو حمودة يترجل عن جواده – أبو حمودة يمتطي جواده – أبو حمودة في ذمة الله – آثار أبو حمودة في المسرح أو الأدب أو الفكر أو الفن ... الخ ) .

بينما أبو حمودة ( و يا شحّار أبو حمودة ) يكون مغموراً و مريضاً و في حالة من الضيق و الضنك لا يجد فيها من يمد له يده و يقف معه في محنته أيام وجوده حياً يرزق .


منذ مدة ليست قريبة ، كنت في زيارة لأحد أصدقائي أبارك له مكتبه الهندسي الجديد ، فشاهدت مقابلة تلفزيونية على إحدى الفضائيات مع أحد الأشخاص الذي كان مذيعاً مشهوراً و صحفياً و معد برامج في آن معاً فدار بيننا الحوار التالي .. قلت له :
ـ ياه .. منذ مدة طويلة جداً لم أر هذا الرجل في التلفاز .. يبدو أنه قد عاد للعمل مرة أخرى .
ـ و الله يا حبيب هذا الرجل أعطاك عمره قبل ثلاثة أيام .
ـ العمى ....!!! منذ ثلاثة أيام ؟؟؟!!!
ـ أي والله يا غالي .. منذ ثلاثة أيام .
ـ و ما قصة هذه المقابلة معه هل هي إعادة أم ماذا ؟؟!! .
ـ لا والله يا حبيب ... قال يا سيدي .. هذه تكريم له بعد موته عرضوها الآن و لأول مرة .
بعد يومين جرى للرجل حفلة تكريم في أحدى المكتبات الثقافية .


منذ مدة أيضاً قرأت في بعض الصحف إعلان عن تكريم أحد الكتاب و الباحثين ، و عند متابعتي القراءة ، فوجئت بأن هذا الرجل قد توفي منذ سبعين عاماً . و سوف يعاد تكريمه الآن في أحد المراكز الثقافية . و هي ظاهرة قد وجدت لها مكاناً في الوقت الحالي على ما يبدو .


هذه القضايا تذكرني بقصة الرسام الهولندي الشهير ( فنسنت فان كوخ ) الذي مات فقراً و جوعاً و برداً دونما سلاماً . و انتظره الذي انتظره في حياته ، حتى وفاته ليجعله في مصاف المشهورين و العظماء و لكي تباع لوحاته بالملايين من الدولارات ، و قبل حياته وصل إلى مرحلة من البؤس و الشقاء و النبذ من قبل الناس و المجتمع ، قيل أنه قطع فيها أذنه و قدمها لحبيبته التي هجرته لبؤسه .


منذ فترة عرضت إحدى الفضائيات فلماً وثائقياً عن ( فنسنت فان كوخ ) و كيف تباع لوحاته بأسعار خيالية ، ثم عرضت زوار قبره و كانوا جمهرة من الناس منهم من يلقي الزهور على ضريحه و منهم من يغني أغاني حزينة . لفت نظري أحد الشبان الذي أمسك كيتاره و أخذ يعزف عليه و يترنم بحزن قائلاً بصوت حاد ناعم ( مييييييييييي ... بييييييييييييي ... تييييييييييييي ) لم أتمالك نفسي فانفجرت مغشياً علي من الضحك ( شر البلية ما يضحك ) .


إنني أتساءل .. ما هو مغزى تكريمي و ما هي فائدة ذلك في حساب موتي ؟؟؟!!! ما هو جدوى تكريمي و التحدث عن مناقبي و فضائلي في حساب موتي و فنائي و في حساب أنني كنت مهملاً طوال حياتي . الإنسان عندما يموت يكون قد غادر هذه الدنيا و رحل عنها و تركها إلى الأبد .. هل حياة شخص ما نقيصة و عاراً عليه و على من يريد تكريمه ليكون مماته شرفاً و داع لتكريمه و مديحه و تمسيح جوخ كفنه ؟؟؟!!! .


لماذا مطلوب من شخص ما أن يفعل في حياته كما فعل ( فنسنت فان كوخ ) لا بل أكثر .. يقطع أذنيه و يقطع يديه و يقطش ......... من الحاجة و الإهمال حتى يكرم في مماته تكريم الأبطال .


زعموا أن .... لحظة لحظة ... ليش زعموا ؟؟ ... أنا زعمت .. طالما أن القصة من مخيلتي .. كان رجل مسافراً في الصحراء و تاه على ما يبدو في الطريق ، أو كانت المسافة طويلة . فانقطع زاده من الطعام و الماء ، و نفق حماره من العطش بعد أيام عدة ، و سقط هو أرضاً من العطش و ظل هكذا حتى وصل إلى مرحلة أخذ يحتضر بعد أن انقطع عنه الماء لفترة طويلة . و صودف أن مرت قافلة بالقرب منه فرأى قائدها من بعيد رجلاً مطروحاً على الأرض ، فأمر القافلة بالتوجه نحوه . كانت القافلة تحتوي ثلاث جمال محملة بصهاريج الماء الجلدية . وقف قائد القافلة أمام الرجل و سأله : ما بك يا أخي ؟


أشار الرجل إلى فمه بصوت ضعيف خافت من التعب و العطش : ماء ... ماء ... أريد ... ماء .


قال صاحب القافلة : ألا تعلم يا أخي وفقك الله أن هذه الصحراء شاسعة و طويلة فلما لم تتزود كفاية من الماء ؟؟ .


أشار الرجل مرة أخرى إلى فمه مستغيثاً : ماء ... ماء ... أريد ... أريد ... ماء .


أجاب قائد القافلة : سامحك الله يا أخي و وفقنا و إياك إلى مرضاته .. لو أنك تزودت بالماء لما وقعت في هذا المحظور .. فالعاقل يا أخي الحبيب هو من يحسب حساب الأمور .. بالله عليك كيف فاتك أن تتزود كفايتك من الماء .


رد الرجل بإعياء و تعب : ماااااااء ... مااااااء ... مااااعع .. ماععع .


قال صاحب القافلة : يا حسرتي عليك .. و الله إن قلبي ينفطر ألماً و حزناًَ و يتقطع لوعة .. آآآخ .. آآخ يا أخي .. إن هذه الدنيا غدارة .


تتهدج صوت الرجل الممدد على الأرض و قال : لكْ ماااء ... ماااء يا أخو الشَـ .... الشَـ ... هيئ ... هيئ ... هييييق . و لفظ أنفاسه مفارقاً الحياة من العطش .


بكى صاحب القافلة ألماً و حزناً و قال مخاطباً الرجل : رحمك الله يا صاحبي و الله لقد أبكيتني من القهر و الحزن عليك .. و الله إنك رجل شهم فاضل شريف .. و الله لقد مت موته محزنة . و أني لأرجو لك حياة في العالم الآخر خير من حياتك تلك و أرجو لك منزلاً خير من منزلك هذا و نعيم و جاه و عز و ألف جارية يدغدغن لك خِصـ ..لتيك . ( ثم صاح بغلمانه ) احفروا قبراً لهذا الفاضل الزاهد التقي و رشوا عليه الورد و الزعفران و كللوه بأكاليل الغار . رحمنا الله و إياك يا أخي .


كلمة أخيرة : من لم يكرمني في حياتي .. والله لن يكرمني في مماتي .. حتى و لو فعل ذلك .


نزار يوسف .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !