التكبر الأيماني
يتعامل نسبة من المؤمنين مع الاخر الملحد او الاخر الديني او الاخر المذهبي أو الاخر الغير ملتزم بالعبادات على انه مجرد شيء منحرف عن جادة الصواب , مجرد شيء غبي , مجرد رمز لتغييب العقل , مجرد شخص يعرف طريق الصواب ويتعمد سلوك طريق اخر . والواقع يقول ان للحقيقة اكثر من وجه . وأحد وجوهها هو الأيمان بدين معين والالتزام به .
لا يوجد مشكلة تذكر حين يشعر الانسان المؤمن أنه متنعم بنعمة الأيمان ويحمد الله عليها حين يشاهد شخص غير ملتزم دينيا . ومن الجميل أن يدعو له بالهداية . فهذا امر جيد . ولا يوجد مشكلة حين يسعى المؤمن الى دفع شخصا ما الى تقوية علاقته مع الله , فمن الجميل ان يتمنى المؤمن الخير للاخرين ويتمنى لهم تذوق حلاوة الايمان . ومن الجميل أن يستطعم المؤمن جمال الأيمان فيتمناه لغيره . كل هذا أيجابي ولا غبار عليه طالما انه كان في دائرة احترام خيارات الاخر ورغباته وعدم تخطي حدود خصوصياته .
بعض المؤمنين من هذا الطراز الذي كرس نفسه للعبادة . وتحري الحلال والحرام في أبسط الأمور . قد تصيبه لعنة الغرور مع انه قد يذم صفة الغرور ويعتبرها صفة غير حميدة . بمرور الزمن سيشعر أنه بعباداته وتحريه الحكم الشرعي في الصغيرة والكبيرة وصل الى درجة عالية من الأيمان التي تجعله أرفع وأسمى من باقي البشر . ويؤدي به ذلك الشعور احيانا الى ( سوء الخلق ) . من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر . ويبدأ بالتحدث مع الفاسقين من تاركي الصلاة أو مع الفاسدين من شاربي الخمور بطريقة متعجرفة ملؤها الاحتقار ولو أمتلك القدرة على الاخرين لأعطى لنفسه الحق في سلب أرادتهم وتحقيرهم . لأنه يقوم حسب قناعته بعمل فيه فائدة للاخر أذ يبعده عن النار ويقربه من الجنة . ان هذا الغرور الايماني هو أسوء انواع الغرور لأنه يشعر صاحبه انه يملك الحق في دفع الناس نحو الفضيلة بأسم الله . ولو وجد رد فعل سلبي سيقول في نفسه (هؤلاء ليسوا وجه نعمة فأنا أتمنى لهم الخير وأدفعهم الى دخول الجنة وهم يريدون دخول النار ) . لدى البعض تجليات خاصة مع الله تعطيه شعور بأنه من رجال الله وأحبائه وقد يشعر احيانا أنه سيف الله ورمحه . مما يجعله يبرر لنفسه الكثير من السلوكيات الغير مقبولة وحين يعاتب عليها سرعان ما سيقحم الله فيها ليبرر فعله . بعض المؤمنين يشعرون أنهم اوصياء على الناس ومن حقهم سلب أرادتهم وتحقيرهم وسبب ذلك هو شعور داخلي بالأفضلية والسمو والرفعة لأن علاقته الأجتماعية مع الاخر مبنية على اساس أنه متصل بالسماء والاخر منكب على الارض .
يقول الكاتب حسن أبراهيم أحمد :
مجتمع المؤمنين لا يجد سنده ومبرراته في الواقع المعاش من قبل جمهور الناس الاخرين , بل يجده في القوى المتعالية , قوى الغيب , قوى الفوق , المتحكمة بقوى التحت , والمؤمن لا يرضيه قال فلان الكاتب او الاديب أو المفكر أو العالم , بل يرضيه قال الله أو أحد أنبيائه أو احد أوليائه , أو أحد أفراد السلالات المقدسة المتناسلة عبر الايام . أذن المشروعية الفكرية والثقافية للعقل الايماني ليست راضية بل مرتبطة بقوى السماء الموجهة لقوى الارض وبالتالي هي أعلى منها رتبة , وكلما علت مرتبة المرجع الذي يتم الرجوع اليه كلما علا مكان وموقع المرتبطين به . التعالي ياتي من الارتباط بقوى فوق الطبيعية وتمثيل هذه القوى في ارض الواقع .(1)
قد يصل أحدهم الى مركز مسؤولية مرموق بسبب أنتمائه لحزب معين أو بسبب قرابته من سياسي معروف أو بسبب أجتهاده فيشعره ذلك بانه محاط بعناية السماء فيفسرحصوله على المنصب على أنه توفيق ألهي مرة وأختبار ألهي مرة أخرى وفي كلتا الحالتين المحور في حصوله على المنصب هو السماء . قبل فترة تم تقديم طلب صرف مكافئات لمجموعة من الموظفين في احدى الوزارات فكان جواب الوزير ( لا يصرف سحت وحرام ) والواقع يقول ان ليس هناك مفردة سحت وحرام في القانون هناك مفردات قانونية دارجة وليس مفردات فقهية . ولا نعلم ان كان الموظفين يستحقون المكافأة أم لا وفي كل الأحوال جواب الوزير دلالة على شعوره بانه يمثل الله في الوزارة . وهذا الشعور ليس له اساس على ارض الواقع . فالوزير يمثل القانون ولا يمثل الله .
قرر هذا الوزير بعد أستلامه الوزارة أقفال الطابق الذي فيه مكتبه عن باقي الموظفين والتعامل معهم عن طريق البريد قد يكون السبب لأشعارهم بالرفعة والقوة والقدرة وقد يكون هناك سبب اخر وهو محاولة التعتيم على قلة الخبرة أو أنعدامها لدى كادر الوزير وفي كل الاحوال خلقت هذه الحالة شعور بالطبقية بين موظفي الوزارة ومكتب الوزير وخلقت حاجز نفسي كبير يؤدي الى شعور بالنفور وعدم الارتياح مما يؤثر سلبا على مستوى أداء الموظف ومدى حبه للعمل .
أن أفقال الطابق واستخدام مصطلحات فقهية توحي بلون جديد من ألوان التصوف الاداري . فهو يريد ان ينقطع عن الناس العاديين ويفتح التواصل على مصراعيه مع السماء . أنه في الواقع يمثل صورة من صور الوفاء للسماء . هو يعتقد على الارجح ان للسماء دور في وصوله للمنصب . وقد يعتقد ان هذا المنصب هو ابتلاء وأمتحان لمدى أيمانه .
لا يخصنا مستوى علاقة المسؤول مع الله ولا يخصنا تجلياته مع الله ولا يخصنا بكائه عند الدعاء ولا يخصنا ان كان يصلي صلاة الليل ويصوم في تموز . ما يخصنا هو مدى ألتزامه بمفردات القانون اللفظية والأجرائية . والواقع يقول ان كل هذا ليس مهم والحقيقة المطلقة هي ان الكتلة التي ينتمي أليها هي من أوصلته الى منصبه . نحن أبناء الارض ونلتزم بمنطقها ولا يخصنا بشيء ان كان هذا الانسان مسدد من الله أو باء بغضب من الله فالامر سيان . وهناك وزراء وصلوا الى مناصبهم وليس لديهم أي علاقة تذكر مع الله .
تسبيحة الديمقراطية
على من يشعر انه خاصة الخاصة والباقي هم عامة العامة . أو يشعر بوجود هالة فوق راسه ويشعر بوجود ملاك حارس يحميه . على هؤلاء ان يمسكوا السبحة (أم 101) التي لا تفارق أياديهم الطاهرة وبعد القيام بالتسبيحات الشرعية التي تحميهم من كيد الفجار وشر الاشرار ان يرددوا التسبيحات التالية بشكل يومي :
- سأتفاعل مع الجميع . ليشعر بوجودي الجميع 101 مرة
- أنا مجرد موظف 101مرة
- الشعب ولي نعمتي من حقه محاسبتي 101 مرة
- راتبي يصرفه لي الشعب 101 مرة
- يجب أن أتفاعل مع المجتمع بصدر رحب 101 مرة
- لست المؤمن الوحيد في العالم 101 مرة
- علاقتي مع الله مكتومة ولا تخص احد وتخصني وحدي 101 مرة
ويستحب حسب الفقة الديمقراطي أن يرددها بصوت مرتفع ومسموع ويستحب اكثر أن يرددها وهو واقف امام المراة ليرى نفسه كم هو انسان عادي وكم هو مثير للشفقة لانه لا يعلم أنه أنسان عادي . وهذه التسبيحة مجربة ومضمونة للشفاء من مرض التكبر والغرور الفارغ الذي يدل على الخواء الفكري .
يقول علي الوردي :
أن جلاوزة العراق ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون الى أبناء الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار . ولعلهم لا يشعرون بهذا الأحتقار الذي يكنونه لأبناء الشعب , أذ هو أحتقار كامن في أغوار اللاشعور في أنفسهم , فهم ينساقون به وقد لا يعرفون ماتاه أحيانا . (2)
يبدو أن الحال لم يتغير كثيرا منذ منتصف القرن العشرين حين كان علي الوردي يمسك قلمه ويكتب كلماته عن زماننا هذا ما خلا مفردة جلاوزة فهي نسبية الى حد ما كون الواقع السياسي الحالي نتاج الشعب الى حد كبير .
التكبر الألحادي
- حسنا يا سيدي ... أنت تؤمن بوجود الله
أجاب رجل الدين بصوت خفيض :
- أجل أنا اؤمن
قال الملحد في أبتسامة الواثق من نفسه :
- وأنت توافق أيضا على أن محيط الأرض 28000 ميل اليس كذلك؟
- من غير شك .
- أرجوك أذن أن تخبرني عن حجم الهك وأين يمكن أن يوجد .
- حسنا أذا صدق ظننا فأنه يقيم في قلبينا نحن الأثنين .
- (أجاب الملحد) كفى كفى لا تحسبني طفلا ! وأعتصم رجل الدين بصمت متضع .(3)
حصلت هذه المحاورة أمام المهاتما غاندي اثناء حضوره جنازة أحد الملحدين البارزين وحضر فيها جمهرة كبيرة من الناس وعدد قليل من رجال الدين ليؤدوا واجب الأحترام الاخير . وبعد دفن الجنازة وأثناء أنتظار القطار جرى الحوار بين رجل دين وملحد متحمس كما يصفه غاندي . ويقول غاندي أن هذه المحاورة زادته كرها للالحاد .
السبب الرئيسي الذي جعل غاندي ينفر من الالحاد الذي كان قد تأثر به في ايام شبابه الاولى هو غرور وأستعلاء الملحد في طريقة محاورته لرجل الدين . ويبدو أن نسبة من المحلدين المعاصرين يتصفون بنفس الصفة .
أن السبب الذي يجعل العقل الألحادي يميل الى التكبر والغرور في التعامل مع الاخر أحيانا هو الأيمان بفكرة ان منبع الالحاد هو أحترام العقل وأحترام العلم وعدم الايمان بالخرافات . لذلك يشعر الملحد بانه مميز ويملك عقل أكثر رجاحة من عقل الاخر . فالاخر يؤمن بوجود ملائكة وشياطين لا يوجد دليل واحد على وجودها . والاخر يؤمن أن قراءة بعض الكلمات من القران قد تحميه . والاخر يؤمن أن هناك حياة أخرى بعد الموت . ومن يؤمن بهكذا أفكار هو في الواقع يغيب عقله (في نظر الملحد) . لذلك يجد الملحد نفسه عبارة عن أنسان تمكن من أيقاد شعلة التفكير في عقله وتجاوز حاجز الممنوع في التفكير مما يعطيه شعور بالتفوق والتميز عن البقية . والمشكلة ليست في الشعور بالتفوق بل في التعامل مع الاخر من منطلق هذا الشعور .
حين يجري حوار مفتوح دون قيود بين مؤمن وملحد من تلك النسبة التي تتعامل بكبرياء وأستعلاء . قد تجد أن الحوار سيتسم بالتفاخر . فسيتفاخر المؤمن بنعمة الايمان ورجاحة العقل وحسن العاقبة وسيتفاخر الملحد بالجراة في التفكير دون قيود والأيمان بالعقل والعلم والنظريات العلمية التي تدعم الالحاد . كلاهما يشعر بأن الاخر خاوي وغبي ولديه في راسه بدل الدماغ ضفدع .
التكبر الايماني منبعه الشعور بالسمو لمتانة علاقة المؤمن بالله التي تجعله يترفع عن الاخرين . والتكبر الالحادي منبعه الشعور بالسمو العقلي والأيمان بالعلم والابتعاد عن الخرافات التي تسيطر على الاخر ولا يستطيع تجاوزها .
قبل فترة كان يتحدث احد الأصدقاء من العلمانيين المؤمنين عن الخطب الدينية فقال : (أن هؤلاء جهلة ولن تقوم لهم قائمة ) . يبدو أن هناك الكثير في مجتمعنا يدعون العلمانية والديمقراطية وقبول الاخر لكنهم ليس لديهم قدرة على أحترام عقل الاخر .
الاستعلاء على الاخر واتهامه بالغباء والجهل هو تصرف بعيد عن العقل الديمقراطي . وبعيد عن الفكر الليبرالي الحر . فالمحاضرة الدينية هي بالنسبة لمن يحضروها قيمة عليا ولحضات تجلي مع الله يجب أحترامها طالما أنها لا تؤثر على الاخر ولا تلغيه .
من الغريب أن نجد ان نسبة من الملحدين والعلمانيين المؤمنين يتقبلون أي شيء يصدر من الغرب مثل مهرجان الطماطم في اسبانيا او مصارعة الثيران . أو غيرها من الثقافات الغريبة . لكنه لا يتقبل أي شيء من مجتمعه . لأنه باختصار يشعر بعقدة نقص من مجتمعه . يشعر بخزي غير مبرر من سلوكيات المجتمع وشعائره الدينية .
ليس من حق أي أنسان أن يتهم مجتمع كامل بالجهل طالما ان ممارسات هذا المجتمع لا تؤدي الى ألغاء الاخر أو ايذائه . الجهل كل الجهل يكمن في عدم تفهم الاخر وعدم أحترام عقله .
قد تأتي نظرية علمية حديثة تلغي نظرية قبلها كان الملحد يستند عليها في أثبات ما يؤمن به أو ما لا يؤمن به . كل النظريات العلمية قابلة للنقاش ومحل نزاع بين العلماء والعقل نسبي وأحكامه نسبية ومن يقول غير ذلك يضحك على نفسه . فما كنت اؤمن به قبل عشر سنوات أشعر الان أنه قمة في الغباء . وقد أقول نفس الشيء بعد عشر سنوات عن أفكاري الان . من الممكن أن تضحك على عقلي خدعة ساحر يجعلني ارى ما فعله حقيقة لا تقبل الشك لكنها خدعة وخفة يد . العقل غير مأمون الجانب وأحكامه نسبية . ولا يجب أن يدفعك أيمانك بفكرة تجدها مطلقة الى الغرور . فقد تتغير قناعتك بعد أطلاعك على فكرة أخرى . كل العقول يجب ان تحترم مهما كان ما تؤمن به يبدو مثير للسخرية . فهو لا يثير السخرية في نظر المقتنعين به .
أكثر ما يميز الشعوب السامية هو احترام عقول الاخرين وقناعاتهم وأفكارهم . الجدير بأصحاب الفكر العلماني والليبرالي الحر أن لا يخجلوا من عقائد قومهم وعاداتهم طالما كانت لا تسلب أرادة الاخرين . وأذا لم يتمكنوا من أحترام عقول الاخرين فلا فرق بينهم وبين المتشددين الذين يتعاملون بغلظة مع مخالفيهم .
كل العقائد و فلسفات الوجود والافكار والنظريات مختلف عليها . وكل أنسان عليه أن يعلم أن ما يؤمن به مطلق في عقله فقط ونسبي بصورة عامة . وقد تتغير قناعته يوما ما . تفهم الاخر وأحترام عقله هو معيار الرقي والتحضر . طالما ان أفكار الاخر لا تؤدي الى ألغاء الاخرين . المشكلة ليست في ان يرى الأنسان نفسه أفضل من الاخر فهذا أمر طبيعي . المشكلة هي أن يتعامل مع الاخر من منطلق انه أرفع وأسمى . الواقع يقول ان الايمان حقيقة واقعة والالحاد حقيقة واقعة ويجب احترام جميع الحقائق .
1- حسن أبراهيم أحمد – العقل الأيماني – 138
2- علي الوردي – خوارق اللاشعور – 215 – 216
3- قصة تجاربي مع الحقيقة – المهاتما غاندي –90 -91
التعليقات (0)