مواضيع اليوم

التقنية تمنح الحرية وتسلبها أيضا !!

ممدوح الشيخ

2009-10-25 20:07:53

0


التقنية تمنح الحرية وتسلبها أيضا !!

بقلم / ممدوح الشيخ


تعد التقنية أحد أهم صناع التاريخ الإنساني خلال العصر الحديث وإذا كانت فلسفة التاريخ قد انشغلت طويلا بالتساؤل بشأن دور " البطل الفرد " في التاريخ فإن دور التقنية أصبح ستأهل أضعاف هذا الاهتمام . ومنذ ظهرت الآلة تغيرت حياة الإنسان على نحو درامي وبدا له أنه يتحرر بسرعة لم يتخيل وتيرتها من قيود الطبيعة فقهر المسافة وضاعف قدرة حواسه بآلات مشابهة صنعت بناء على مبدأ " المحاكاة " ، ولم يكن المعنى الرمزي الذي أضفته التقنية على حياة الإنسان مقصورا على اختفاء العبودية والمظاهر الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها كافة بل شاعت روح عامة بالإحساس التحرر من القيود ، قيود الزمان والمكان .
وإلى حد كبير حلت " ظاهرة الدولة " محل الطبيعة فأملت على مواطنيها إكراهات عديدة قلصت مكتسباتهم من الحرية ، وللمفارقة فقد أمدتها التقنية بالوسائل المادية التي مكنتها من فرض هذه الإكراهات فصارت التقنية أداة لزيادة مساحة الحرية وتقليصها في آن واحد .
وكانت رواية جورج أورويل "1984" التي تناقش هذه القضية علامة في تاريخ الأدب العالمي، وهي تدور في أجواء أسطورية نشرت عام 1949 وأصبح تعبير الأخ الأكبر الذي صاغه أورويل يختصر كل تاريخ القمع الذي شهدته البشرية منذ ظهور "الدولة القومية" وتغولها، وفيها تنبأ بمصير العالم الذي ستحكمه قوى تحول البشر إلى مجرد أرقام في جمهوريات هذا الأخ الأكبر الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء. وبهذه الرواية استحق أورويل أن يعد ضمن المؤرخين الكبار فقد نجا من شرك المقولات البراقة ونفذ إلى عمق بنية النظم السياسية فأدرك يقينا أن البشر ليسوا أحرارا وأنهم محكومون بالانصياع لقيود نظام ما أيا كان شكله وكل الأنظمة لديها المخاوف نفسها بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة ، لذا فإنها تراقب الناس ، ومع الكشف عن شبكة " إيشليون " التجسسية أخذت الظاهرة بعدها الكوني .
والأخ الأكبر ما زال يستنسخ في صور مختلفة فيما يمكن أن يوصف بالصراع المستمر بين سلطة الدولة وحرية الفرد وكلما منحت التقنية للإنسان أفقا أوسع للتحرك كلما استعانت الدولة بالتقنية نفسها لفرض رقابتها على هذا الأفق .. .. وهكذا بلا انقطاع . آخر مشاهد هذا الصراع شهدته العاصمة السويسرية جنيف خلال معرض الاتصالات الدولي " تيليكوم " الذي عقد قبل قليل . والقصة أن الاتصالات التقنية الحديثة ضاعفت أهمية القضايا المتعلقة بحماية الحريات الشخصية ، فالتقدّم لا يشمل فقط وسائل الاتصال وتحسينها ، إنّما يشمل أيضا مضاعفة القدرة على مراقبة ما يجري من اتصالات ، ليس على مستوى الدول والمؤسسات ، وإنّما على مستوى الأشخاص العاديين أيضا . وهنا تبدو المشكلة للعيان في أنّ الجهات الأمنية الرسمية تريد الاستفادة من هذه التقنيات كما تقول في مضاعفة قدرتها على ملاحقة الجرائم ، فمستخدم أي شبكة اتصالات يترك على الدوام أثرا له ، سيّان أيّ موقع يزور أو أي رسالة ألكترونية يبعث بها ، ويمكن متابعة ذلك عن طريق الشركات المضيفة ، فإذا أراد جهاز أمني أن يعلم شيئا عن الشخص المعني ، توجّه إلى تلك الشركات المضيفة .
وحاليا يقوم فريق من علماء جامعة درسدن الألمانية بتصميم نظام شبكي يسمح لمستخدم شبكة الهاتف المحمول باستخدامها دون أن يترك وراءه أثرا يمكن متابعته على النحو المذكور ، ولكنّ الدائرة الألمانية للملاحقة الجنائية استطاعت مؤخرا أن تنتزع من العاملين في الجامعة حق الحصول على محضر يتضمّن معلومات شخصية في قضية جنائية ، وهو ما أزعجهم إلى حدّ بعيد لتناقض ذلك مع هدف بحوثهم الجارية ، ويحاولون تبرير ذلك بأنّه لا يمكن ضمان حماية شخصية مطلقة ، ولكنّ الميزة الرئيسة التي يريدون توفيرها هي الحيلولة دون تمكّن السلطات من فرض رقابة جماعية على استخدام الشبكة .
ولأن رسالة جورج أورويل تركت أثرها في العقل الغربي فإن جهات عديدة تحاول أن تقاتل على جبهة حماية الحرية الشخصية ، ومنها رابطة من مدينة بيلفيلد الألمانية هي "رابطة دعم الاتصالات العامة"، وهي إلى جانب منح جائزة سنوية لمن يعمل على حماية الحقوق الشخصية في الاتصالات الحديثة ، خصصت جائزة معاكسة ، لأشدّ الممارسات في انتهاك تلك الحقوق ، بهدف الكشف عمّن يرتكبها .
وما زالت التقنية تمحنا مزيدا من الحرية والوقت نفسه تمكن الأخ الأكبر من سلبنا هذه الحرية .. .. وهكذا دواليك .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !