التفاوض من غير المباشر إلى المباشر
يذكرني غير المباشر في التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين بفضيلتين-على الأقل-من فضائل غير المباشر في البث الإعلامي المسموع والمصور.هذا الأخير يُتيح التحكم في المادة المراد بثها، قبل بثها، بما يقتضيه الحال من سطوة مقص الرقيب لاعتبارات فنية أو أخلاقية أو سياسية أو لكل هذه الاعتبارات متجمعة،فضلا عن اختيار توقيت البث،دون حاجة للحضور حينه لمكونات مادته بما فيها العنصر البشري الذي يؤثثها...وطبخة غير المباشر في البث الإعلامي لا ترتقي في بعض موادها إلى القيمة التي يبلغها المباشر،مثلا،في مباراة كرة قدم يرغب الجمهور في متابعة سيرها عن بعد وفوريا...
ولئن لم تستطع المفاوضات غير المباشرة بين سلطة محمود عباس وحكومة الكيان الصهيوني أن تُمهد لمفاوضات مباشرة جدية، فإنها لم ترتق حتى إلى فضائل البث الإعلامي غير المباشر إذ أتت رديئة منفرة لما شابها من تشويش البث المباشر عليها الذي فرضته إسرائيل بتعمدها فتح أكثر من واجهة-ليس أقلها تسريع نسق الاستيطان في الأراضي الفلسطينية بطريقة فجة ومستفزة للشرعية والرأي العام الدوليين- مؤكدة،بذلك وغيره،عزمها على إنهاء أية بارقة أمل في بعث دولة فلسطينية...
لم يستطع مقص الرقيب أن يضطلع بدوره المنتظر في مفاوضات غير مباشرة كان المفروض من اللجوء إليها أن تبث مشهدا بلا منغصات ولا إزعاجات يُضفي بعضا من المصداقية على الذين راهنوا على حل سلمي مع الكيان الصهيوني مقابل تنازلات لم يبق ممكنا منها إلا القبول بإنهاء الوجود الفلسطيني...
وللتذكير فهذه المفاوضات غير المباشرة التي استكملت مدتها ثم تمططت كانت بمظلة أميركية وتزكية عربية،وهي تزكية متضمنة لتهديد اللجوء إلى خيارات أخرى "أضعفها إيمانا" رفع القضية الفلسطينية إلى أروقة منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها،في صورة عدم إحرازها على تقدم ملموس...وهذا التقدم لم يحصل ولم يكن ملموسا ولا محسوسا إنما كان محبوسا بذات الإرادة الإسرائيلية التي حكمته منذ "كامب دايفيد وأوسلو ثم التصفية الجسدية لياسر عرفات لأن هذا الأخير لم يُلق بغصن الزيتون الذي بقي يُعول عليه،وهو محاصر،ويعول على الذين شجعوه على التمسك به...
وإزاء إخراج رديء لمفاوضات غير مباشرة ولبث إعلامي مماثل لم يكن ممكنا،في ظل توترات يشهدها الإقليم وتُطل من خلالها إيران بعنت غير معهود ولا مقبول من أميركا وحلفائها وأتباعها،كان لزاما التسويق لمفاوضات مباشرة والدفع عنوة لخوض غمارها لا إشفاقا على الفلسطينيين ولا رغبة في نيلهم ما تبقى من حقوق لهم لم تُهدر،إنما من أجل بث دراما على المباشر تُوحي فصولها بأنها تنشغل بتضميد الجرح الفلسطيني النازف،في حين أنها تُعمقه وتزيده تعفنا...
غاية المفاوضات المباشرة هي الإلهاء أطول وقت ممكن من أجل التفرغ إلى الإزعاج الإيراني بالدرجة الأولى،وهو إزعاج يمس من هيبة أميركا وإسرائيل،أساسا،كما أن العديد من الدول العربية ترى فيه خطرا عليها يفوق أو يُضاهي التعنت الإسرائيلي...
ومهما كان الحال،فالسؤال المحير:ما ضر سلطة فلسطينية تعيش بشرعية مؤجلة-إن امتنعنا عن التذكير بأنها منتهية-من أن تدخل الخلوة الإسرائيلية في مفاوضات مباشرة ؟..لم هذا التمنع وهذا الدلال، والجميع يعلم أنها سلطة ترعاها الرعاية الإسرائيلية وتُحدد لها تحركات قادتها في الضفة الغربية وتُحصي عليهم أنفاسهم وتحرسهم من غدر المتربصين بهم ؟..لم هذا الكبرياء المصطنع وهذه العنتريات التي نراها في البث المباشر،وما هذا البث إلا تمويه لحقيقة تختلف عما ظهر ؟...
ليس كل بث مباشر كاشفا لما يستوجب كشفه،هو أيضا تتحكم يد الرقيب...
إن الجلبة التي تُثار حول الدخول في مفاوضات مباشرة مع العدو/الولي الإسرائيلي لا مبرر لها،هي إخراج مبتذل للتستر عن عورة بغطاء شفاف...هل نحن بحاجة لنذكر أن التطبيع والحوار المباشر وتبادل الزيارات والمصالح والتنسيق في أدق مراحله هو الذي يحكم علاقة الواقع واتفاقيات السلام بين إسرائيل ودول عربية تحتضن السلطة الفلسطينية وتفرض شرعيتها المفقودة...
بعد هذا وقبله:ما عسى أن تفعله السلطة الفلسطينية إن رفضت الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل؟..إذا كان الجواب معروفا أنها في أسوإ الحالات ستُنهي وجودها،ولا نخالها ترغب،فإنه من فضائل الدخول في مفاوضات مباشرة-فضلا عن التعفف عن التمويه والاستبلاه-هو أن تغنم بمبرر رئيسي من مبررات وجودها لأنها ببساطة غير قادرة على غيره...وأحسب أنها ستُضيف إقامة حجة أخرى على أن إسرائيل تُريد من الفلسطينيين سلام الاستسلام،لا غير.
التعليقات (0)