التعليم في الدول والمجتمعات التي تعاني تمايزات عنصرية وعرقية، دائماً ما يحمل في فلسفته ومناهجه، ونظمه، ومضمونه أثقال التركيبة المجتمعية المتوترة، وينعكس ذلك في الحياة التي يعيشها الناس يوماً بيوم في أماكن العمل، والأسواق، وفي المواصلات والمحاكم والمدارس.
هذه المعاناة المجتمعية عاشتها دول جنوب أفريقيا، قبل إنهاء حكم الفصل العنصري «أبرتاييد» Apartheid، ومازالت انعكاساتها سارية حتى الآن رغم ما يشهده المجتمع من عملية تغيير سياسي واقتصادي هائلة يوماً بعد يوم نحو اكتمال مجتمع لا عنصري.
كانت السنوات من 1991 إلى 1995 مزدحمة بالمناقشات على المستويات كافة، لإجراء تعديلات دستورية تمهد للوصول إلى مجتمع غير عنصري، وكان التعليم إحدى قضايا هذه المناقشات. وظهر ذلك جلياً في المشروع الذي تقدمت به الحكومة -آنذاك- فيما يسمى «استراتيجية تجديد النظام التعليمي» كما أن المقترحات التي تقدم بها المؤتمر الأفريقي الوطني، أكدت أن تغييرات جوهرية في النظام التعليمي في البلاد أمر مهم لإحداث تغييرات مجتمعية مطلوبة.
وتتسم جنوب أفريقيا بتنوع عرقي وثقافي واسع، وينعكس ذلك في عدد اللغات، واللهجات التي يتحدث بها سكان البلاد الذين بلغ تعدادهم في عام 1990 حوالي 31 مليون نسمة. فاللغة الأم لمعظم البيض إما أن تكون «الأفريكانية» التي يتحدث بها 56% منهم، وإما الإنجليزية التي يتحدث بها 36%. أما الذين يتحدثون لغة «الزولو» فهم حوالي 7.6 مليون شخص، والذين يتحدثون «أكسوزو» حوالي 3 ملايين، والمتحدثون بلغة الـ «سوزو» حوالي 7.6 مليون، ولغة الـ «تسونجا» أكثر من 1.5مليون من السكان، أما الـ «فيندا» فيتحدثها 200 ألف.
هذا التنوع العرقي والثقافي يشكل أحد أهم المشاكل التي تواجه نظم وترتيبات التعليم، إلى الحد الذي احتلت فيه قضية الوسيط التعليمي المناقشات الساخنة التي جرت لمعالجة أسس التعليم.
ولكن هل التنوع العرقي والثقافي كان هو المشكلة الأساسية في توحيد نظم التعليم، أو تنوعه بما يستجيب إلى رغبة وتطلعات السكان..؟
مشكلة التعليم في جنوب أفريقيا يصعب انتزاعها من أسس وبناء النظام العنصري الذي كان سائداً حتى عام 1994. فالصفة الأساسية للتعليم في تلك البلاد الأفريقية مستمدة من فلسفة «الفصل العنصري التعليمي» لمختلف المجموعات العرقية. وقد بدأ هذا بصورة رسمية بعد الحرب العالمية الثانية بإنشاء إدارات منفصلة للتعليم الخاص بالسود «التعليم الخاص بالبانتو».. وقد كان لكل مجموعة سكانية -أساسية- مدارس منفصلة. فللبيض مدارسهم، وللسود مدارسهم، وللآسيويين مدارسهم، كما للملونين مدارسهم الخاصة. ففي عام 1990 كان من بين سكان البلاد - البالغ عددهم 30.8 مليون نسمة- 21 مليون مواطن أسود، و3.2 مليون ملون، و5 ملايين رجل أبيض، و956 ألف آسيوي.
قانون تعليم البانتو
والتمييز العنصري في التعليم كان واضحاً في قانون تعليم البانتو الذي صدر في 1953م ووجد من السكان السود مقاومة مستمرة إلى أن استبدل بقوانين جديدة في نهاية النظام العنصري.
كيف كان الطلاب والآباء السود يرون قانون تعليم البانتو؟
جودي ملويا، أب من أميدني في مدينة «سوتيو» يقول:
إن التعليم يجعل المرء حينما يقف أمام المرآة يرى نفسه «دونياً»، وهو يجبرك على أن ترى نفسك أفقر الفقراء. لأنه بالنسبة لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية، فإن الله أرادك أن تكون في هذا الوضع، والتعليم يقنعك بألا تثير أي تساؤلات حول هذا الوضع «الدوني» الذي افترض عليك مسبقاً!
أحد الطلاب في المدارس العليا وعضو في المؤتمر الوطني الأفريقي يقول:
كي يحافظ نظام الفصل العنصري «أبرتاييد» على حالة الأمر الواقع في جنوب أفريقيا فإنه وضع نظاماً للتعليم يتسم بعدم العدالة في توزيع المعرفة.
وتساءل هذا الطالب: ولكن ماذا يعني هذا النظام بالنسبة للأغلبية السوداء في البلاد؟
يجيب الطالب بنفسه: إنه منذ فرض هذا النظام فإن السكان السود ظلوا يقاومون «تعليم البانتو»، فتاريخ المقاومة يمكن إرجاعه إلى بداية الخمسينيات. ومنذ ذلك الوقت أضحت قضية التعليم متصاعدة في البلاد وبقيت فيه (أزمة التعليم) موضعاً ساخناً على الدوام.
ولكن ما هو جوهر هذا النظام؟ وإلى ماذا يهدف..؟
يقول أحد الآباء السود إن نظام التعليم صُمِّم «لتأهيل أبنائنا ليكونوا عمالاً فقط»!
وكان الآباء السود يحتجون دائماً بأن مدارس السود تتلقى ميزانيات أقل كثيراً من حاجاتها، كما أن نوع التعليم الذي يتلقاه التلاميذ يعد فقيراً وضعيفاً. وأشار بعض الآباء إلى أنهم يدفعون ضرائب لحكومة تحكم بلا تفويض على أبنائهم الذين يتعلمون في مدارس البانتو، كي يبقوا في مستوى وضيع.
أما المعلمون فهم يدركون أن كل المشكلات، والنزاعات، والاضطرابات التي تحدث في المدارس ما هي إلا نتاج لسياسة الفصل العنصري في نظام التعليم. أحد المعلمين قال: إن الأسباب الرئيسة وراء النزاعات التي تحدث في المدارس تعود إلى نظام الأبرتاييد في التعليم، والذي يتحكم في التمويل، والإدارة، والتشريع.
ومعلم ثان أشار إلى التشويه الأيديولوجي المضمن في منهج التعليم خصوصاً في عرض تاريخ جنوب أفريقيا.
وآخر يرى أن معظم المواد التي تُدَرّس لا علاقة لها بالتطبيق اليومي في الحياة، لأن التعليم يُنْظَرُ إليه على أنه منفصل عن المجتمع، وأن المؤسسة التعليمية تسير في اتجاهها الذاتي، وتتطور في اتجاه مختلف عن اتجاه تطور المجتمع.
وقد لخَّص طالب في المدارس العليا هذه المشكلة في قوله: إن الكتاب المدرسي والمعلم هما اللذان يتوليان التفكير للطلاب.. وإن النظام التعليمي في مدارس السود يدعو الطلاب إلى ترك عقولهم في البيوت قبل الذهاب إلى المدارس.
أوضاع المدارس
وكان الآباء، والطلاب، والمعلمون يشكون من أحوال المدارس وأعدادها، وتجهيزها. فمثلاً في «سويتو» يرى المهتمون بأمور التعليم أن المدارس في أسوأ حالاتها بسبب ما شهدته سنة 1987 من اضطرابات طلابية، ومصادمات مع قوات الأمن، وبسبب قلة التمويل. والمعلمون والطلاب ظلوا يتحدثون باحتجاج عن التدريس في فصول بلا نوافذ، أو بأبواب مخلعة في مدينة يجتاحها برد قارس في الشتاء.
وربما كان من أوضح مظاهر الفصل العنصري في التعليم أنه حتى عام 1987 كان على الطلاب السود أن يشتروا الكتب، والكراسات المدرسية، في حين أن هذه الوسائل تقدم إلى الطلاب في مدارس البيض مجاناً.
وهناك اعتقاد راسخ لدى العديد من الطلاب أن نظام الاختبارات صُمِّمَ ليكون ضد الطلاب السود، أولاً بسبب الظروف غير الملائمة التي يتعلمون فيها، وثانياً بسبب طريقة وضع الاختبار، وطريقة تصحيح الأوراق. ويعيش الطلاب السود حالة تنازع بين رفضهم الكامل لكل نظام تعليم البانتو، واحتياجهم العملي إلى الجلوس لاختبار الدخول للجامعة بأمل أن يجدوا وظيفة محترمة، أو مكاناً في الجامعة. وقد تغيّر الأمر كثيراً عام 1987 عما كان في الخمسينيات، والستينيات، حيث لم تكن هذه الوظائف مفتوحة للسود. إلا أن السنوات الأخيرة من الثمانينيات شهدت عدداً محدوداً من ذوي الياقات البيضاء، وأصحاب المهن وسط السود.
دعوة التعليم الشعبي
في ظل هذا الوضع العنصري، وأمام القيود الكثيفة في سياسات التعليم، ما كان للسود إلا أن يطلقوا شعاراً موحياً هو «التعليم الشعبي» للانعتاق من أسر الحكم العنصري، والإدارة العنصرية للتعليم. وأول انبعاث لهذا الشعار كان من «سويتو» وصدر أولاً من مجموعات أولياء الأمور، ولكنه سرعان ما قمع، فقد كان صعباً أن تتحول مثل هذه الشعارات إلى واقع، وخصوصاً في نهاية الثمانينيات، إلا أن أهمية هذه الانطلاقة كانت في التعبير عن الرفض الشعبي للسياسات العنصرية في التعليم، كما أنها حاولت أن تضع تصورات لكيفية وضع التعليم في جنوب أفريقيا في المستقبل.
وقد كان لدى معظم الذين أدلوا بآرائهم حول موضوع «التعليم الشعبي» أفكار جيدة وقوية حول ما يجب أن يكون عليه التعليم في جنوب أفريقيا، وما يجب تغييره من سياسات، ومعظمهم أكد أهمية إيجاد علاقة جديدة بين المعلمين، والآباء، والطلاب.
وعبّر البعض عن أن أهم هدف لنظام تعليمي جديد ينبغي أن يعمل على نقل الخبرات في مجتمع ما بعد مرحلة الفصل العنصري، وأن يفتح فرصاً جديدة للمواطنين السود.
أحد المعلمين قال إنه يريد أن يؤسس النظام التعليمي الجديد على قواعد دينية.
وآخر قال إن الفكرة العامة لنظام تعليمي جديد يجب أن تهدف إلى تعليم الطلاب على أن يكونوا ناقدين، وأن يفكروا لأنفسهم، وأن تنتهي العلاقة السلطوية بين الحكومة والمدارس، لأن النظام التعليمي الحالي -كما قال أحد الطلاب- يعامل المعلمين والطلاب والنظار «كأطفال صغار».
هذه المناقشات التي جرت عام 1989 حول التعليم الشعبي بينت أن عدداً كبيراً من السود يريد إلغاء العلاقة بين الحكم العنصري والمدارس.
ومن البدهي أن تكون تجربة التعليم العنصري قد كونت اهتماماً كبيراً ومتسعاً بدور المجتمع في التعليم، وبأهمية تغيير العلاقة بين الآباء، والطلاب، والمعلمين. ولكن هل كان لهذه المناقشات والتجارب أثر في مشروع «إصلاح التعليم» في جنوب أفريقيا بعد إنهاء سياسات التمييز العنصري؟
بداية الانفراج
لقد كان المشهد السياسي في جنوب أفريقيا منذ عام 1948 تحت هيمنة الحزب الوطني الحاكم بإرادة الناخب الأبيض. إلا أنه في عام 1990، رفع الحظر على النشاط السياسي وأسقطت التشريعات العنصرية مثل قانون المنع المنفصل، وقانون تسجيل السكان، مما مهد الطريق لمفاوضات نحو بناء مجتمع غير عنصري. وفي مواجهة التعنت العنصري صدرت مشروعات عدة مقترحة لإصلاح التعليم، في يونيو 1991 في شكل «استراتيجية تجديد التعليم»، وفي نوفمبر من العام نفسه صدر «نموذج لمنهج تعليمي» أعدته لجنة رؤساء التعليم. هذه المقترحات اتبعت منهجاً وظيفياً يعتمد على معرفة مناطق المشكلات الأساسية، وأشارت هذه المشروعات إلى أنه - بعد مشاورات واسعة ومكثفة مع الخبراء، والهيئات التمثيلية- يمكن أن تصدر المقترحات لاستراتيجية الإصلاح التعليمي. وقد وجد أن لب المشكلات يكمن في الامور الآتية:
- تراكم أعمال غير منجزة متعلقة بالمعلمين وفصول الدراسة وخدمات تعليمية أخرى، خصوصاً تلك التي لها علاقة بمدارس الطلاب السود الذين تتزايد أعدادهم بسرعة كبيرة نسبة للنزوح، أو الهجرات بين المدن، أو نسبة لزيادة المواليد بين السود، وللظروف الاقتصادية السيئة التي يعانيها الطلاب.
- المحتوى السياسي للنظام التعليمي كنتيجة للأسس العنصرية التي يقوم عليها، والذي يقود بالطبيعة إلى مصادمات ومقاومة من السود، وإلى انهيار «الضبط والربط» في بعض المناطق الجغرافية.
- المشكلات الاستثنائية المتصلة بعملية الإعداد المدرسي في مجتمع يعاني انقسامات عميقة، عرقياً وثقافياً، واقتصادياً.
ولخصت مقترحات الإصلاح التعليمي في أربع نقاط هي:
أن يكون التعليم غير عنصري ولا تمييزي.
أن يمنح فرصاً تعليمية متساوية.
أن يحوز قبول ودعم أغلبية الناس.
أن يترك مجال للتعليم الذي يعتمد على جهود المجتمع لمن يرغب في ذلك.
التصحيح الأكبر
وظلت هذه المقترحات في الأضابير إلى أن جاء عام 1994 حينما صدر الدستور المؤقت الانتقالي الذي قرر نظاماً تعليمياً جديداً. وهكذا استمرت التطورات في حقل التعليم إلى أن تسلم الرجل الأسود مقاليد حكم بلاده، وأدخلت تعديلات كثيرة لإصلاح نظام التعليم في البلاد، وإن كان تطبيقها ما زال يسير ببطء، لأن «المجتمع العنصري» الذي سادت قوانينه وتقاليده سنوات طويلة ما زال يرسم -حتى الآن- بآثاره خطوط العلاقات بين البيض، والسود والملونين والآسيويين في جنوب أفريقيا.
وقد كان الزعيم الأفريقي «نيلسون مانديلا» الذي أصبح رئيساً للبلاد بعد انتهاء فترة الحكم العنصري على حق حين قال: «لقد أوجدت سياسة «الأبرتاييد» العنصرية جراحاً غائرة مستديمة في شعبي، وسنقضي سنوات عديدة إن لم يكن أجيالاً لنُشفى منها».
الحزب الوطني «الأبيض» !
استمر حكم الحزب الوطني «الأبيض» لفترة طويلة، حيث بدأ منذ عام 1948م وانتهى في التسعينيات من القرن العشرين الميلادي، حيث سيطر فيها حزب الأفريكانيين، وظهرت سياسة الفصل العنصري منذ عام 1950م حين ظهر قانون التسجيل السكاني، الذي يمنح السكان مدارس، وجامعات ومناطق سكنية وخدمات عامة لكل مجموعة سكانية عنصرية.
اشتد الاحتجاج على سياسة الفصل العنصري منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين، حيث طُولب السود بضرورة حمل بطاقاتهم الشخصية من أجل الحد من تحركاتهم. وفي عام 1960م ظهر شعور ضد سياسة التمييز، وقامت المظاهرات، وأطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين، فقتلت حوالي 69 من السود.
قامت الحكومة بحظر نشاط حزب المؤتمر الأفريقي، وظلت الحكومات المتعاقبة في الفترة من عام 1960-1990م تضرب بيد من حديد كل المعارضين لسياسة التمييز العنصري. وفي السبعينيات، والثمانينيات من القرن العشرين ألغت الحكومة بعض قوانين التمييز العنصري، واعتمدت البلاد دستوراً جديداً عام 1984م، لكن الدستور الجديد لم يمنح السود أي حقوق سياسية، مما أدى إلى أعمال العنف في مدن السود.
وبعد تنحي الرئيس بوتا عن الحكم لمرضه اختير دي كليرك خلفاً له في سبتمبر عام 1989م. وفي ظل حكومة دي كليرك أسرعت الحكومة نحو الإصلاحات السياسية، فرفعت الحظر عن حزب المؤتمر الأفريقي، وأطلقت سراح بعض السجناء السياسيين ومنهم نيلسون مانديلا. وبدأت الحكومة الحوار مع أحزاب المعارضة حول مستقبل البلاد. وفي عام 1991م أعلن دي كليرك عزمه على إلغاء ما تبقى من قوانين الفصل العنصري. ففُتحت المدارس لجميع الأجناس، وكذلك أنواع الرياضات المختلفة. كما أعلن دي كليرك عن تكوين حكومة متعددة الأعراق، وعن حق جميع الأعراق في التصويت.
وقد أجربت بالفعل لأول مرة انتخابات حرة في شهر مايو 1994م اشترك فيها البيض والسود، وفاز فيها نيلسون مانديلا ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا التي ظلت خاضعة للفصل العنصري لمدة ثلاثة قرون.
التعليقات (0)