من معالم وبواعث القلق والتذمر وعدم الاطمئنان على الغد والخشية على ضياع المستقبل ما قيل ويقال عن إصلاح منظومتنا التعليمية المهترئة، والذي (أي الإصلاح الجذري) أضحى قضية حياة أو موت بالنسبة للأمة المغربية وكذا إعادة النظر في التعاطي مع البحث العلمي وترسانة من التدابير والقرارات غير الشعبية المتخذة والمفروض الاستمرار في اعتمادها حسب أقرّت به حكومة ابن كيران.
لقد أبرز الخطاب الملكي بمناسبة 20 غشت 2012 قيمة الثروة البشرية وضرورة إعادة النظر في منظومة تكوين العنصر البشري وتأهيله.
ومن بين القضايا، قضيتين تقلقان أغلب المغاربة، قضية مجانية التعليم العالي والقضاء على مختلف مظاهر الحيف والتفضيل التي تغتال العدالة الاجتماعية في قطاع التعليم العالي.
تخص القضية الأولى اعتماد أداء 1000 درهم سنويا للتمكن من متابعة الدراسة العليا في المؤسسات العمومية، وهذا إجراء – رغم أنه لن يتم تطبيقه خلال الدخول الجامعي 2012 – 2013 ، إلا أنه يقلق منذ الآن أغلب المغاربة، اعتبارا لكونه يستوجب أوّلا وقبل كل شيء بلورة وابتكار آليات مجدية فعّالة وقابلة للتطبيق بسلاسة للتمييز بين "الأثرياء" و"الفقراء ومحدودي الدخل" بالمغرب.
أما القضية الثانية، تتعلق بالحيف الذي كان يطال الطلاب المغاربة، إذ في عقر دارنا يتم تفضيل حاملي شهادة الباكالوريا الفرنسية لمتابعة دراستهم العليا بالمدارس والمعاهد والجامعات العمومية بالخارج. وهذا أمر يمكن تصحيحه توّا دون انتظار بمجرد قرار ليس إلا.
وفي مجال التعليم العالي تظل إشكالية البحث العلمي إحدى بؤر الخلل الهيكلي والمفصلي في منظومتنا التعليمية. علما أن إهمال البحث العلمي هو الذي ساهم بحصة الأسد في إيصال تعليمنا إلى ما هو عليه اليوم من رداءة، حيث تم السماح لعديمي الكفاءة أو محدوديتها وعدم المتألقين في مجالاتهم الاضطلاع بمهام ومسئوليات في المنظومة التعليمية. وكان المآل في نهاية المطاف إنتاج وإعادة إنتاج الجهل المركب، إنها حقيقة مرّة أخرى، ويبدو – إن لم تحدث مفاجأة مرّة – إن القائمين على تعليمنا العالي عازمين هذا الموسم على الشروع في إعطاء البحث العلمي ما يستحقه من أهمية قصوى ليشكل المعيار الأساسي لاختيار القائمين على الإشراف والتدريس بالجامعات والمعاهد والمدارس العمومية ببلادنا.
وهذا يجرنا إلى التساؤل حول دور الجامعة الحقيقي. هل هو تخريج حاملي شهادات يبحثون عن عمل، أغلبهم لا يعثرون عليه، منهم من يشارف على الهرم ولن يجده؟ لا ومليون لا، بل إن الجامعات التي تحترم نفسها والتي لا ترضى أن تكون غير فاعلة، هي الجامعات التي تقوم على تقاليد بحث علمي المتحول إلى مجالات قابلة للاستثمار وإشراك الخواص والفاعلين في المجتمع. هذا هو السبيل الوحيد –لا ثاني له- الذي من شأنه تأهيل العقل المغربي لخوض التحديات الكبرى. إذن لا مندوحة عن من سبر أغوار هذا المسار الصعب، لمنح جامعاتنا دورها الحقيقي للنهوض بفعلها العلمي والاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي. علما أنها تناسلت كالفطر عبر البلاد قبل التفكير في جعلها تضطلع بهذا الدور، كما كانت قد شرعت في الاستعداد إليه جامعة محمد الخامس عندما كانت الجامعة الوحيدة بالمغرب. لكن مع الأسف الشديد تم إجهاض هذا المسار بفعل فاعل، وهو نفسه الذي ضيع على البلاد مواعيدها الحاسمة مع التاريخ على امتداد أكثر من 3 عقود.
هذه هي المعركة الحقيقية التي وجب أن تخوضها جامعاتنا اليوم، إنها جبهة قتالها حاليا لكسب معركة تمكينها من البحث العلمي، إنها معركة مفصلية ومصيرية تتطلبها المرحلة قبل أن تلفظنا دائرة التاريخ ونظل في متاهة الاجترار المحكوم عليه بالتآكل المستدام والعقم المعرفي المتوارث جيلا بعد جيل، وهو واقع حال جامعاتنا اليوم.
إن خوض هذه المعركة المصيرية وضمان شروط الانتصار فيها يستوجبان اليوم – أكثر من أي وقت مضى- ضرورة وإلزامية إشراك المؤسسات المالية والاقتصادية والبلديات في تمويل الجامعة وتخصيص منح كافية لتمويل أبحاث رائدة وميدانية.
وهنا نتساءل عن دور العملاق "أونا" في هذا المجال، سيما وأن يدها موضوعة على جزء وفير من النسيج الاقتصادي ومصادر الثروات المضافة؟ كما نتساءل،كيف ستكون النتيجة لو تم تخصيص ميزانيات المهرجانات من قبيل "موازين" لمجال البحث العلمي عوض هدرها في الرقص و"البهرجة" والتمييع أحيانا.
ومما يحز في القلب حقا، معاينة بعض البلدان الأجنبية ومعاهدها وهي تقوم بتمويل دراسات سياسية في مجال العلوم السياسية تخص بلادنا- علما أن بعضها يدخل في نطاق الأمن القومي للوطن- ومازلنا نبارك هدر الملايير في التظاهرات والمهرجانات التي لا طائل وراءها، حتى لو افترضنا أن لها طائل ما، فإن شأنه يقل بكثير عن شأن البحث العلمي المهمل عندنا.
وهنا نستحضر رفض المبادرة التي عزم رجل الأعمال ميلود الشعبي على القيام بها والرامية إلى فتح فرع للجامعة الأمريكية الرائدة "يال" في المغرب، وهي مبادرة كان من شأنها - لا محالة- دفع جامعاتنا ومعاهدنا إلى الاستيقاظ من سباتها الشتوي "العضوي والمستدام". رغم كثرة تفكير وإعادة تفكير لم نفلح في فهم أسباب رفض الجامعات الخاصة والأجنبية، ولماذا غالبا ما تثير رفض القائمين على الأمور وحفيظتهم. فهل هذا الرفض مراده أن البحث العلمي سيساهم في ترسيخ أجواء الحرية وتوسيع هوامشها أكثر، وبهذا التكريس ستتجلى أكثر فظاعة الفساد والجرائم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية المقترفة في حق المغرب والمغاربة؟
التعليقات (0)