مواضيع اليوم

التعصب

نزار يوسف

2010-05-28 09:37:09

0

التعصب

 


مع تطور الخلافات العربية في العصر العباسي ، وانقسام المجتمع العربي إلى مذاهب وطوائف متعددة ، وبتأثير الأحداث الحاصلة مع مرور الزمن ، وصل الأمر فيما بعد إلى بروز مفهوم جديد في حياة الإنسان العربي وهو مفهوم التعصب الديني ، الذي هو النتيجة النهائية للخلافات والصراعات الدينية بين العرب . وقد ساعد التعصب الديني على تكريس التجزئة والتناحر بين مختلف الطوائف الإسلامية وأدى - نتيجة لذلك - إلى فسخ الرابطة الإسلامية وإراقة دماء كثيرة بين المسلمين .


إن التعصب الديني يختلف عن العصبية القبلية في الجاهلية بمسألتين :


الأولى : العصبية القبلية ارتكزت في الأساس على الولاء للقبيلة . و هذا الولاء لم يكن ولاءً عقائدياً أو فكرياً أو دينياً بل كان عبارة عن محض ولاء اجتماعي ، مقوماته رابطة الدم والقرابة والطاعة لشيخ القبيلة الذي يدير شؤون قبيلته . أي أنه نوع من الولاء الإداري أيضاً أو ولاء الجماعة . كما أن التحمس للقبيلة في العصبية القبلية ، هو تعصب أفضلية ، تتوقف اعتباراته عند إبراز محاسن القبيلة والسعي لأفضليتها وتفوقها بين القبائل الأخرى . بينما التعصب الديني هو تعصب ومغالاة فكرية عقائدية دينية متشددة للفرقة أو الطائفة أو المذهب الديني ، وهو تعصب حق ومبدأ ، تنتفي فيه الأفضلية ، و يرتكز على الصواب والخطأ .. على الوجود أو عدم الوجود ، و هذا ما لا نلحظه في العصبية القبلية .


الثانية : إن التعصب الديني الطائفي ، اقترن بالكره و الحقد على الغير والإبادة ، بينما العصبية القبلية في الجاهلية لم تقترن بهذه الأمور ، حيث أن الصراع بين القبائل العربية لم يكن صراع وجود أو إبادة جماعية أو قتل لمجرد أن الغير ليسوا من القبيلة نفسها ، بل كان صراعاً مؤقتاً حيث أنه كان مقترناً بالغزو من أجل الماء أو الرعي أو الغنيمة وأحياناً الثأر ، أو لأجل خلاف معين وينتهي الصراع بانتهاء مسبباته وتعود الأمور بعد ذلك إلى طبيعتها ، كما أن القبائل العربية لم تكن لتكره أو تحقد على بعضها البعض أو تُحرِم الزواج من خارج القبيلة ، إذ كانت هنالك ، مناسبات عدة لالتقاء تلك القبائل التي وجدت بينها قواسم مشتركة ، حيث كان أي فرد من أي قبيلة إذا ما مر بقبيلة أخرى ينزل فيها ضيفاً معززاً مكرماً . وكان الزواج بين القبائل العربية شائعاً ومألوفاً . وهذا ما ليس له وجود في التعصب الديني . من هذا المنطلق نستطيع أن نلمس الفارق بين التعصب الديني والعصبية القبلية .


إن التعصب الديني عندما يبلغ مرحلة متقدمة أو إذا صح القول المرحلة النهائية من مراحله حيث يشتد التزمت و يفقد الإنسان صلاته بالغير ، فإنه في ذلك يكون قد أدخل هذا الإنسان في مرحلة من الشلل الفكري ، وفي هذه الحالة فإنه يأخذ مفهوماً آخر غير مفهوم الانتماء الديني أو المذهبي بل مفهوم السيطرة الدينية المذهبية الطائفية على فكر الإنسان وتصرفاته ، فتنتفي بذلك كل إمكانات الوعي لديه كما تنتفي إمكانية التحليل والمحاكاة العقلانية والمنطقية لديه ، ويصبح الإنسان في تلك الحالة ليس فقط مقيداً اسمياً للطائفة أو المذهب الذي ينتمي لهما بل مقيداً فكرياً وعقلياً وخاضعاً تماماً وبدون إرادة لعلاقات طائفته أو مذهبه مع الطوائف أو المذاهب الأخرى . وهذه المرحلة النهائية من التعصب قد انتشرت في جميع المناطق العربية منذ أن أفرزت الخلافات والصراعات العربية الفِرق والمذاهب الدينية ، وحصلت بينها عمليات تصفية وتكفير وإبادة .


والجذور الأولى لها بدأت منذ نشوء الكيان السياسي للدولة الإسلامية ونستطيع القول وبدون مواربة ، أن التعصب هو السبب الرئيسي لكل الصراعات والفتن وعوامل التخلف التي ألمت بالإنسان العربي فيما بعد وحتى الآن . فالإنسان المتعصب و بغض النظر عن دينه ومذهبه ، هو أشبه بالحجر ، إنه عبارة عن قطعة من الحجر لا تنطق ولا تتحرك ولا يمكن تحويلها أو تليينها ، وإذا ما حاولنا أن نغير في شكلها انكسرت فوراً .

 

ولعل العامل الأساسي الذي نشأ عليه التعصب الديني عند العرب إنما يعود إلى بداية نقطة اللاعودة تلك ، التي وصلت إليها الخلافات والأحداث الدينية الأولى في بداية عصر نشوء الدولة الإسلامية حيث وصلت المعارك والثورات والنزاعات والحروب في تلك الفترة إلى وضع لا يمكن إصلاحه أو إيجاد قواسم مشتركة فيه بين الأطراف المتنازعة لعدة أسباب منها : أن تلك الخلافات كانت بالدرجة الأولى خلافات عقائدية دينية روحية أساسها القتل وأول ما ابتدأت بمقتل الخليفة عثمان بن عفان ثم تلا ذلك مقتل الإمام علي بن أبي طالب ثم مقتل الحسين بن علي ، وارتباط كل هذه الحوادث بمعارك وحروب دامية كانت في البداية حروب آراء وعقائد ووجهات نظر ، انتهت بعد دخول السياسة بالدين ، بحروب أساسها السيطرة والحكم والدفاع عن الوجود والمصالح .


فأساس وبداية تلك الخلافات هو قضية الخطأ والصواب ضمن أمور معينة ، وهذه الخلافات كانت لها جذور ، و كانت ترتكز على محض أمور دينية أساسية .. على الأقل في نظر أصحابها ، لكنها ومع ذلك كانت هامدة ولم تظهر للعلن إلى أن جاء مقتل الخليفة عثمان بن عفان ، ففجر تلك الخلافات وأخرجها للعلن . لكنها بالرغم من ذلك ، بقيت خلافات خطأ وصواب ، خلافات عقيدة ومبدأ ، وجاءت الحروب المرافقة لها لتثبت تلك العقائد والآراء المتضاربة المتنافية مع بعضها البعض وترسخها في أذهان أصحابها ولتبرهن على صحتها ومصداقيتها وشرعيتها في نظر أصحابها .


والسبب الثاني .. هو دخول السياسة في النزاعات وظهور الدولة الإسلامية . فقد برز عن ذلك معطيات وأحداث ساهمت بشكل مباشر في تكريس التعصب وزيادة حدته وتحويله إلى قضية جوهرية وأساسية في وجود الإنسان العربي حيث أصبح التعصب لجماعة ما هو من أمن تلك الجماعة وأمن الفرد فيها ، فالسياسة والسلطة والحكم جعلت وجود فئة ما ينفي وجود فئة أخرى أو على الأقل يهمشها بشكل كبير ، وهذا ما حصل بالذات من خلال تعاقب الخلافة من العصر الراشدي إلى العصر الأموي ومنه إلى العصر العباسي وما بعده ، كما أن الاحتلال الأجنبي فيما بعد للأمة الإسلامية قد جاء أيضاً ليكرس هذه المقولة ويطورها .


ونحن هنا لن نعيد ذكر الأحداث التاريخية لتلك الفترة حيث أنه عند وصول كل فئة من الفئات المتنازعة إلى السلطة كانت الفئة الأخرى تتعرض للقتل والتنكيل والاضطهاد . وبالتالي فإنها ( أي تلك الفئة المضطهَدة ) تلجأ إلى رد الفعل إما من خلال الثورات أو تشكيل الجماعات السرية للإطاحة بسلطة الفئة الأولى وحالما يتم لها ذلك فإنها أول ما تبتدئ به هو تصفية الحساب مع الفئة الأخرى .
وخلال القرون التي تلت العصر الراشدي حصل الكثير من التعاقب على السلطة بين الفئات و الطوائف الدينية العربية وحصل معه بالتالي الكثير من عمليات تصفية الحساب الدموية والتي طالت الكثير من الناس .


لقد أبعد التعصب العرب عن كل شيء ، أبعدهم عن دينهم وعن أنفسهم ، وغفلوا بالتالي عن الأجانب الذين احتلوا أرضهم واستعمروهم مئات السنين وأعملوا السيف في رقابهم .


لقد جعل التعصب العرب في غمرة صراعهم وأوج معاركهم يبتعدون عن دينهم الأساسي ويلتفتون إلى طوائفهم ومذاهبهم . جعلهم ينسون شريعتهم ودينهم الذي يدعوهم إلى المحبة والتسامح ( حتى مع الغرباء ) ، ويدعوهم إلى الاتحاد ونبذ التفرقة والقتال . جعلهم ينسون دينهم وعقيدتهم التي وحدتهم وجعلت منهم أمة قوية واحدة متماسكة كانت نداً لأعظم إمبراطوريتين في ذلك الحين فجاء التعصب وهدم هذا الصرح الكبير ، ومزق الأمة الواحدة إلى أشلاء متنازعة ، و الوقت في نفسه أيضاً ، فإن التعصب قد جعل العرب لا يعون الخطر المحدق بهم من جراء صراعاتهم وحروبهم الدموية ، ولا ينتبهون إلى تغلغل الأعاجم في السلطة والذين كانوا هم ( أي العرب ) السبب في ذلك .


وحتى بعد احتلال الأمم والشعوب الأخرى للأرض العربية ، فإن ذلك لم يغير أبداً من تأثير التعصب على عقلية الإنسان العربي أو يخفف من حدته ، بل على العكس ، لقد سَخَرَ العرب احتلال الأمم والشعوب الأخرى للأرض العربية ، لخدمة تعصبهم وتثبيته ، فتغاضوا عن احتلال تلك الشعوب لأرضهم وتسلطها عليهم وتسخيرهم وتابعين لها ، بل و رحبوا بذلك ، وكل هذا إرضاء لغريزة التعصب لديهم ، وهم الذين كانوا يأنفون في الجاهلية تحكم الأعاجم بهم وتسلطهم عليهم .


نزار يوسف
من كتابي ( الزمن العربي الرديء ) .





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !