مهند حبيب السماوي
في الكتاب الرائع الذي يحمل عنوان The Making Habits, Breaking Habits: Why We Do Things, Why We Dont, and How to Make Any Change Stick للسايكولوجي الشهير جيرمي دين مؤسس موقع PsyBlog الذي يزوره كل شهر حوالي مليون قارئ، يوضح مؤلفه، وهو المختص بسلوك الانسان وعاداته وما يقوم به، ان الانسان غالبا ما يقوم بالعديد من الاشياء من غير ادنى تفكير مسبق او عقلانية واضحة وان ظن عكس ذلك، فالسلوك الانساني، سواء كان فرديا او جماعيا، مزيج من افعال عقلانية ولاعقلانية ولا يمكن للإنسان الاعتيادي ان يزعم ان كل تصرفاته تأتي على اساس معقول او تستند الى بديهيات جلّية بذاتها تخلو من اللامعقولية والشطحات والقرارات المسبقة التي لا تخضع لرؤية متزنة وفكر واضح وملامح موضوعية.
في التظاهرات التي انطلقت في محافظة الانبار، وهي مظاهرات سنية بامتياز من حيث الماهية والاهداف والتوجهات، نلاحظ ان السلوك الجماهيري فيها قد اتخذ منحنيات مختلفة ومسارات متناقضة، وهي قد جسّدت في حركتها وانتقالاتها من منحى او مسار الى آخر جدل اللامعقول والمعقول في السلوك الانساني سواء كان هذا السلوك فرديا يصدر من شخص واحد او كان هذا السلوك جماعيا تقوم به مجموعة من الناس، وان قراءة تحليلية بسيطة لهذه التظاهرات تكشف عن اللامعقول الذي ظهر في بداياتها، اذ ان اللامعقول الجمعي يظهر دائما في بداية التظاهرات اذا انطلقت بصورة عفوية تحت تأثير الغضب والانفعال، وقبل ان يتم السيطرة عليها وتشذيب شعاراتها وتهذيب عباراتها وجعلها اكثر مقبولية وواقعية، وان كانت دون المستوى المطلوب من الشرعية والواقعية، وبالنسبة لهذا اللامعقول فقد وجدنا انه قد اطل بوجهه، القبيح، بوضوح شديد وبما لا يقبل او لا يدع مجالا للشك في خمسة أشياء لاحظتها شخصيا: اولا: رفع صورة رئيس وزراء تركيا رجب طيب اوردوغان المعروف بمواقفه المناهضة للحكومة العراقية، ثانيا، رفع اعلام الجيش السوري الحر الذي هو تشكيل طائفي بامتياز، ثالثا، رفع اعلام النظام السابق الذي له عند الشيعة انطباع سلبي وكارثي، رابعا، ترديد شعارات طائفية وشتم غير مقبول لرئيس الوزراء المالكي، خامسا، المطالبة بجملة أمور تعتبر لا معقولة وغير مبررة اطلاقا كإطلاق سراح جميع المعتقلين، والغاء هيئة المساءلة والعدالة.
كانت هذه السمات الخمسة اللامعقولة واضحة للعيان ونقلتها وسائل الاعلام بشكل يستحيل معه اي محاولة لنفي وجودها او التشكيك بها، لذلك سارعت الشخصيات التي تدير التظاهرات وتسيطر عليها، ولو على نحو نسبي، ان تمنع تكرار بعضها وترفضها بشدة لأسباب سياسية وبراغماتية حتى يمكن تمرير وشرعنه اهداف التظاهرات او البعض منها وتحقيق مطالب المتظاهرين الذين كشفت اول تظاهراتهم حقيقة توجهاتهم وما يخفون تجاه الحكومة العراقية بالنسبة لبعضهم وتجاه الشيعة بالنسبة لبعضهم الاخر، فالجمهور المتجمع في هذه التظاهرات ننظر له، تحليلا وتفكيكا وتأويلا، طبقا لطروحات المؤرخ والفيلسوف الفرنسي الكبير غوستاف لوبون واستنادا لما قدمه في كتابه الذائع الصيت سيكولوجيا الجماهير، من حيث اعتبارها، اي التظاهرات، كيان وجمهور نفسي يجتمع بصورة مؤقتة يختلف في رؤيته ووجهة نظر عن الفرد العادي المستقل من جهة والتجمعات الاعتيادية من جهة اخرى لانها تمتلك وحدة رؤية مبنية على اساس عاطفي انفعالي وتتحرك وفقا لمعطيات لا واعية واسس لاشعورية، ولان شأن التظاهرة شأن العديد من الظواهر التي لا تخضع لضوابط السيطرة العقلية فأنها يتم السيطرة عليها او التحريض فيها من قبل قيادة تمتاز بخطاب يتوجه نحو العاطفة والغرائز التي يخفي المتظاهرون التصريح بها وهم على شكل افراد معزولين ضعفاء، لذا تجد ان هؤلاء المتظاهرين يتفاعلون بشكل كبير مع كل خطيب يتحدث امام الجمهور ويُناغم في ذلك كل التصورات الخيالية والرؤى اللاعقلانية والهوامات النفسية والاطياف التضليلية والافكار اللاشعورية وكل ما يمكن ان يمس تلك المناطق المظلمة والفراغات المسكوت عنها والمساحات المتروكة المكبوتة لدى المتظاهر.
ان تمظهر اللامعقول في بداية التظاهرات وانزوائه بعد ذلك تحت مطرقة النقد الذي تعرض له من قبل بعض المعتدلين أو البراغماتيين ممن يحاولون التخفيف من وطأة وحدة التوترات، كل هذا يكشف عن لامعقولية واضحة يمتاز بها السلوك الجماعي للمتظاهرين في المحافظات السنية، والأنكى من ذلك، وما نخشى منه في الحقيقة، ان يقوم بعض الساسة بتجييش الشارع العراقي المضاد في المحافظات الشيعية واطلاق عقال التصريحات والشعارات والنداءات اللاعقلانية التي يمكن ان تفجر الوضع على الصعيد الشعبي كنوع من رد الفعل، الذي يعتبره البعض مشروعا، على المس بالهوية الطائفية لأغلبية الشعب العراقي من الشيعة، وان التظاهرات الشيعية التي انطلقت يوم السبت الماضي والتي كانت داعمة للحكومة ورئيسها هي بداية الرد على الجانب اللامعقول في التظاهرات السنية في شمال وغرب العراق، وهي تظاهرات مسيطر عليها ومعقولة الى حد ما ويمكن التحكم ببوصلتها، لكن الخوف كل الخوف من تظاهرات كبرى تجتاح العراق للرد على لامعقولية بعض المتظاهرين، الذين يسيئون للطلبات المشروعة والدستورية للانسان العراقي في المحافظات السنية التي لا نختلف معه أبدا في مشروعية بعض مطالبه وحقه المطلق في المطالب بها، وذلك عن طريق ما يقومون به، أولئك الذين يتحدثون بلغة اللامعقول، من تصرفات تكشف عن ذلك الجانب المظلم الطائفي في نفسيتهم، وما طلب اطلاق سراح جميع المعتقلين الا نموذج بسيط لهذه اللاعقلانية التي تطالب بشيء مخالف للعقل والمنطق واسس العدل قبل ان تكون ضد الدستور والشرعية القانونية.
التعليقات (0)