التطور والارتقاء أصبح الآن اجتماعياً وثقافياً وتكنولوجياً ولم يعد بيولوجياًً
التطور والارتقاء للكائن الحي هو : اكتسابه خصائص وأعضاء أو أجهزة , وتصرفات أو طرق استجابات (أي برامج) تمكن وتسهل للكائن الحي التوافق مع بيئته , والعيش والتكاثر واستمرار ذريته أو نوعه , في ظل ظروف وأوضاع متزايدة التنوع والاختلاف مثال على ذلك :
تطور الزواحف إلى ثدييات أو تطورها إلى طيور, و تطور الرأسيات لتصبح قادرة على المشي على قدمين وتحرر يداها , و تطور الإنسان واكتسابه اللغة . . الخ . وتطور الكائنات الحية يلزمه عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من السنين , فليحدث التطور يجب أن يصبح موروث أي مسجل في الجينات الوراثية , وهذا يلزمه وقت طويل .
وكذلك تطور الإنسان وارتقى عندما ملك اللغة وبالتالي الثقافة والحضارة وأصبح الإنسان صانع للأدوات والأجهزة , فنشأت البنيات الفكرية ( الأفكار والمعارف والمعلومات ) وصارت تتطور وتنمو وتزداد دقة , وكذلك نشأت البنيات التكنولوجية بكافة أشكالها بدء بالدولاب وحتى المحطات الفضائية والكومبيوترات والذكاء الصناعي , والتي صارت تتطور وترتقي باستمرار , وقام الإنسان بتطوير جسمه وفكره و ذاته .
والتطور والارتقاء يحدث أيضاً للبنيات والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بكافة أشكالها , والتي بدورها مع البنيات الفكرية المتطورة والبنيات التكنولوجية المتطورة , تعود وتساهم في تطور وارتقاء الإنسان .
ية .
لقد كان دوماً يحدث جدل عن أيهما أكثر تأثيراً على كيفية تصرف الإنسان , الوراثة , أم المكتسب ( البيئة والمجتمع ) . وكذلك كان هناك جدل عن أيهما أقوى تأثيراً التصرفات الغريزية والانفعالية والعاطفية , أم التفكير والمعرفة .
فالوراثة أو الموروث البيولوجي , وما يكتسب نتيجة الحياة , هما ما يقرر تصرفات الإنسان وبالتالي منحى تطوره . يمكننا تشبيه الموروث البيولوجي بالهاردوير في الكومبيوتر , والموروث الاجتماعي أو ما يكتسبه ويتعلمه الإنسان نتيجة حياته الاجتماعية والمادية , يمكن تشبيهه بالسوفتوير في الكومبيوتر, وهناك تشابه كبير بين الأفراد من ناحية الهاردوير أو الموروث البيولوجي , ولكن ما يكتسبه الإنسان أثناء حياته وبشكل خاص حياته الاجتماعية( السوفتوير أو البرامج ) يمكن أن يختلف بشكل كبير , نتيجة الأوضاع المادية والاجتماعية التي عاش ضمنها الإنسان .
لم يعد تطور وارتقاء النوع الإنساني بيولوجياً فقط , لقد أصبح تطوره وارتقاءه مرتبط بما نشأ من بنيات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية . فلقد أصبح الإنسان الفرد جزء من بنية اجتماعية تتطور وتنمو . وارتبط تطوره وارتقاؤه بطبيعة وخصائص البنيات الاجتماعية الموجود ضمنها , وأصبح لهذه البنيات الاجتماعية وخصائصها ومدى تطورها التأثير الأكبر على تطور الإنسان .
فأي فرد مهما كانت خصائصه البيولوجية جيدة ( الذكاء والنشاط والفاعلية ...) إذا عاش في مجتمع متخلف لا يمكن أن تنمو وتتطور قدراته ويحقق نتائج جيدة , كما لو عاش في مجتمع متطور يستطيع توظيف وتنميه قدرات هذا الفرد ليحقق نتائج جيدة . وهناك الكثير من الدلائل التي تثبت ذلك . . فتخلف أنظمة وثقافة وحضارة الدول أو تقدمها , له التأثير الأهم على تطور وارتقاء أفرادها .
فلإنسان نتيجة عيشه ضمن جماعة متعاونة ومتفاعلة مع بعضها قد أكسبه خصائص وتصرفات جديدة تناسب أوضاع وخصائص بنية المجتمع الذي يعيش ضمنه . وكان التواصل واللغة من أهم العوامل التي سارعت في تطور الإنسان بشكل ليس له مثيل , ونشأت نتيجة لذلك المجتمعات والبنايات التي لها خصائصها وتأثيراتها الحاسمة على حياة وتصرفاته , وأصبح تأثيرها هو الذي يحدد منحى وطبيعة تطوره .
ماذا يورث أو ينقل المجتمع لأفراده ؟
يكسبهم اللغة والقيم والعقائد والثقافة والحضارة بكافة أشكالها . و تنظيم وتعديل الموروث البيولوجي كالانفعالات والغرائز التي أصبحت غير مناسبة للأوضاع الموجودة الآن نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية .
إذاً هناك أولاً الدوافع البيولوجية( الغرائز والدوافع والأحاسيس والانفعالات الموروثة بيولوجياُ ) , وهناك الدوافع الموروث الاجتماعي , العادات والتقاليد , والانتماءات والدوافع والغايات , والعقائد والأديان , وكل أشكال الثقافة التي يطبعها مجتمعنا فينا فتوجه غالبية تصرفاتنا .
وأيضاً هناك تأثيرات المنجزات في كافة مجلات العلوم والمعارف , وتأثيرات المنجزات التكنولوجية بكافة أشكالها وبشكل خاص الأجهزة الإلكترونية ومجلات الاتصالات والذكاء الصناعي . . . الخ .
وبالنسبة للإنسان أصبح المكتسب أثناء الحياة يشمل تأثيرات البيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحضارية والتي تشمل المنجزات التكنولوجية بكافة أشكالها , وهذا أصبح تأثيره كبير ويمكن أن يفوق تأثير الموروث البيولوجي في أغلب الأحيان .
والموروث البيولوجي ويشمل خصائص وطبيعة الإنسان الفزيولوجية والجسمية , وأهمها " الدوافع " , و" الانفعالات " , وقدراته الفكرية , وكافة قدراته الجسمية . وهو يرثها من آبائه .
الدوافع : كل إنسان يملك دوافع كثيرة عند ولادته , دوافع فزيولوجية وعصبية موروثة وهي التي تنتج الغرائز أو العكس , وتنشأ لديه كثير من الدوافع أثناء حياته , فالدوافع لديه متنوعة وكثيرة جداً .
والدوافع التي تكون لديه عند ولادته " الموروثة بيولوجياً "هي طرف سلسلة من دوافع ( أو قوى فيزيائية و فزيولوجية ) موجودة قبل تكونه ، وبالتالي هي موجودة قبل إحساسه أو وعيه بها . فهناك دوافع أساسية نحو أهداف معينة مسبقاً , موجودة لدى الإنسان عند ولادته ، فالأهداف والدوافع له محددة مسبقاً , فهو يسعى نحو ثدي أمه دون أن يؤثر فيه أو يثيره هذا الثدي أولاً ، أي هو مبرمج مسبقاً على البحث والسعي نحو هدف معين محتمل وجوده . فهناك الكثير جداً من هذه الدوافع المعينة مسبقاً لدى الإنسان ، وآليات تكونها تكون موجودة فزيولوجياً ( أي موروثة ) وهذه الدوافع والأهداف تكوّنت نتيجة تطوره .
والدوافع لدى البشر تتشابه بصورة كبيرة ، فالدوافع الموروثة فيزيولوجياً ونفسياً وعصبياً تتشابه بينهم , أو تتطابق ، وكذلك تتطابق الأحاسيس الأولية الأساسية بين كافة الناس ، وتتطابق بشكل أقل المشاعر والادراكات والواعية . وهناك تشابهات كبيرة بين ( أنا أو ذات ) لكل منا , تمكننا من استعمال نفس الأحكام على دوافعنا . فهناك تشابهات كثيرة تسمح بالتعميم ، مع وجود اختلافات بين كل أنا وأخرى ، فالصفعة على الوجه هي مؤلمة لدى غالبية الناس . وكذلك تتشابه الحواس وآليات الإحساس والانفعال وهذا التشابه هو الذي يسمح بالتواصل بين البشر, بكافة أشكاله، ولولا هذا التشابه وخاصة في الأحاسيس لما أمكن قيام أي تواصل بين إنسانين.
فالوعي والأحاسيس والمشاعر المتشابهة هم الأساس لقيام التواصل بينا ، وبالتالي هم سمحوا بنشوء اللغة والثقافة والعلم.
وأهم الدوافع البشرية الأساسية والتي هي موروثة بيولوجياً
دافع المحافظة على الذات وعلى بقاء النوع واستمراره , وهو يتضمن دوافع كثيرة
دافع طلب اللذة وتحاشي الألم ، والسعي لتحقيق الأحاسيس المرغوبة وتحاشي الأحاسيس غير المرغوبة .
دافع اللعب والتقليد أو المحاكاة .
دافع النمو , والجمع , والسيطرة .
دافع الانتماء للجماعة , وهو موجود لدى الكثير من الثدييات.
دافع المنافسة والتفوق على الآخرين وتحقيق المكانة العالية , وهو أيضاً موجود لدى الكثير من الثدييات.
الانفعالات : إن الوظيفة الأساسية للانفعالات هي رفع جاهزية وقدرة الفعل والاستجابة التي تعتبر مناسبة وفعالة في مواجهة ما يتعرض له الكائن الحي , وهي موجودة فقط لدى الحيوانات الراقية, فهناك انفعالات أساسية نشترك بها مع الثدييات الراقية و الرأسيات, وهي انفعال الغضب والخوف والحب....., وهي انفعالات أساسية قديمة لدينا. وأحاسيس الانفعالات لا تنتج عن واردات أجهزة الحواس فقط , فهي تنتج بعد حدوث تفاعلات وعمليات في الدماغ والذاكرة بشكل خاص, بالإضافة إلى عمل وتأثيرات الغدد الصم , فالغضب لا يحدث لدينا إلا بعد معالجة فكرية , والتي تتأثر بالذاكرة وما تم تعلمه, وهناك تأثير متبادل بين الدماغ والغدد الصم, ويمكن المساعدة في إحداث الانفعالات باستعمال تأثيرات كيميائية وفسيولوجية .
وهناك دوافع نشأة نتيجة الحياة الاجتماعية , فالإنسان في الوقت الحاضر يوجد دوافع كثيرة جديدة باستمرار، فلم تعد دوافع الحياة الأساسية الموروثة هي فقط المسيطرة والمتحكمة بتصرفاته . فلقد أوجد بعض الناس دوافع قويةً جداً , ويمكن أن تتعارض مع دوافع الحياة الأساسية , مثل الدافع لتعاطي المخدرات . ., وجميع هذه الدوافع مهما كانت طبيعتها وقوتها إذا كانت لا تتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع فإنها سوف تقاوم أو تعدل لتتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع .
والأديان والأخلاق, والقوانين . . هي دوافع تسعى لخدمة بنية المجتمع ، ويجب أن تتفق مع دوافع الإنسان أيضاً ، فإذا أردنا المحافظة على بنية المجتمع وبنية الإنسان يجب أن نلبي دوافعهم الأساسية التي تمكنهم من الاستمرار و النمو و التطور.
أهم الدوافع الموروثة اجتماعياً
دافع الإنجاز ، وهو يغطي مجالاً واسعاً من السلوكيات الموجهة نحو تحقيق هدف .
دافع الانتماء - أو العنصرية -.
دافع المنافسة والتفوق على الآخرين وتحقيق المكانة العالية.
دوافع اجتماعية متنوعة , وهي نتيجة العلاقات الاجتماعية
دوافع فكرية، وهي دوافع عصبية متطورة نتيجة المجتمع والثقافة .
وأيضاً تطورت ونشأت لدينا نتيجة حياتنا الاجتماعية انفعالات جديدة وهي خاصة بنا, فهي تكونت نتيجة العلاقات الاجتماعية , و الحضارة والثقافة والعقائد..., وقد نشأت وتطورت أنواع كثيرة من الانفعالات نتيجة لذلك. والانفعالات دوماً تكون مترافقة مع أحاسيس خاصة بها , وهناك انفعالات إخبارية مثل الدهشة والتعجب والترقب والضحك, وهناك انفعالات مثل الحب والحنان والصداقة, والزهو, الغيرة, الحسد , والكراهية....., وكل هذه الانفعالات ترافقها أحاسيس معينة خاصة بكل منها.
دور وتأثير التكنولوجيا
يعزى البعض التغير الشامل والسريع الذي نتعرض له الآن إلى تقدم التكنولوجيا . والتكنولوجيا تشمل كل الآلات والأجهزة . . . الخ , بالإضافة للمعارف والمعلومات العلمية , أيّ النباتات هي الأصلح للأكل ، وأيّ الحشرات تحمل أمراضاً . وكذلك الكلمات والبنى القواعدية التي نتواصل بها ، ونماذج الواقع التي نفكر بها، و الترتيبات الاجتماعية التي وجدناها فعالة. وبالمعنى الأوسع يمكن تعريف التكنولوجيا بأنها القدرة على فعل الأشياء ، ولا يستثنى إلا المعرفة غير العلمية وقيمنا وتقييماتنا.
ونحن نشهد زيادة مستمرة في مستوى التعليم على نطاق العالم ، وصعود العقلانية في تنظيم العمل والتمويل والسياسة والأخلاق والدين . وكان استخدام المنتجات التكنولوجية المختلفة على مستوى العالم هو اتجاه لتشكل ظاهرة العولمة التي باتت تحيط بكل شيء.
إن الاتجاهات التي تعمل على تغيير العالم الآن هي المعارف والعلوم الجديدة، والتقنية أو التكنولوجيا الجديدة , ونتائجهم . وإذا أردنا أن نستشف المستقبل يجب النظر إلى دوافعنا وغاياتنا والقوى والغرائز الأساسية التي توجهنا ، بالإضافة لكافة التأثيرات التي نتعرض لها نتيجة حياتنا الاجتماعية والثقافية والعقائدية . فكل هذا هو الذي يقرر كيف سيكون المستقبل .
القدرات التي منحتنا إياها التكنولوجيا
سرعة الحركة والانتقال , العربات و السيارات والقطارات والبواخر والطائرات , وكافة منجزات الثورة الصناعية الحديثة . توسع مجالات وقدرات الاتصال السمعي والبصري , مهارات الأيدي والآلات , سهولة استخدام القوى وتعدد أشكل القوى الممكن استخدامها , مساعدة القوى البيولوجية في مقاومة الأمراض والتطورات الهائلة في مجلات الطب , الثور الزراعية والحيوانية المعتمدة على ما تم اكتشافه في مجلات الورثة , ثورة الإلكترونيات والكومبيوتر والبرمجة والذكاء الصناعي , منجزات الواقع الافتراضي . . . الخ
لقد تصور بعض المفكرين في بداية القرن العشرين أنه سوف يحدث انقسام أو تطور البشر إلى أنواع أو أشكال مختلفة نتيجة الثورة الصناعية , طبقة عمال متدنية الثقافة والتفكير وفقراء , وطبقة ميسورين ومثقفين ومتحكمين بالأمور . لكن الأمر ليس كذلك , فالثورة الصناعية و التكنولوجية لا يمكن أن تحدث فروق كبيرة بين البشر خلال لفترة صغيرة , فالاختلافات المؤثرة يلزمها عدة أجيال 5 أو 10 لتحدث فروق في التربية والأفكار وطريقة المعيشة , ونشوء بنيات وأنظمة اجتماعية تدعمها وترسخها , ومثال على ذلك الديمقراطية وحكم المؤسسات وأنظمة الدولة الحديثة جعلت حياة الأفراد الذين يعيشون ضمنها متكيفين معها , وهذا لم يحدث إلا خلال فترة عدة أجيال تطورت خلاله الأفراد والبنيات الاجتماعية , الثقافية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية .
إن التغيرات المتسارعة والمستجدات الطارئة التي يشهدها العالم , تثير كثيرا من علامات الاستفهام والتساؤلات عما سيكون عليه مستقبل المجتمع الإنساني و مصير الإنسان نفسه إزاء ارتياد العلم الحديث مجالات من البحث , لقد استطاع في الآونة الأخيرة أن يحطم كثيرا من تلك القيود, ويتدخل في أدق عمليات التكوين الفسيولوجي والبيولوجي لدى الكائنات الحية, لكي يستنسخ منها كائنات جديدة لها مواصفات وقدرات مختارة, على أن تمتد هذه التجارب إلى الإنسان نفسه بعد التغلب على الاعتبارات الأخلاقية والدينية, التي لا يزال الكثيرون يثيرونها احتراما لقداسة الكائن البشري .
يشير كورزويل في كتابه "حين يتسامى البشر" إلى اقتراب حدوث انكسار تاريخي جذري بالغ العمق من شأنه تغيير كل ما يؤلف طبيعة الكائن البشري . فهو يتوقع نتيجة التطور السريع لقدرات الكومبيوتر والذكاء الصناعي المترافق مع التقدم هائل في مجال التحكم في المورثات ، أن يؤثر ذلك على عملية التطور البيولوجية، وأن يصبح التحكم في التطور البيولوجي بيد المعارف العلمية.
وكذلك كان فون نويمان قد تنبأ بأن الجنس البشرى سوف يتطور بشكل سريع وغير متوقع نتيجة نمو التكنولوجيا وتطور الكومبيوتر.
وقال ستيفن هوكنج ما معناه: أدى نقل المعلومات عن طريق غير بيولوجي إلى أن يسيطر الجنس البشرى على العالم، فقد حدث منذ حوالي سبعة آلاف سنة أن أنشأ الإنسان اللغة المكتوبة وهذا يعنى انتقال المعلومات دون الاتصال المباشر أو الشفاهية، فقد توضعت المعلومات خارج عقل الإنسان وصارت هذه المعلومات تسير عبر الزمن وتنتقل إلى الآخرين بدقة وبعد موت منتجها بزمن طويل. لذلك نحن الآن على مشارف عصر جديد سوف نتمكن فيه من زيادة تعقيد سجلنا الداخلي من دون أن نحتاج إلى انتظار عمليات التطور البيولوجي البطيئة والتي تحتاج إلى عشرات الآلاف من السنين. ومن المرجح أننا سنتمكن من إعادة تصميم الإنسان بالكامل في الألف العام القادمة.
وفي مجال تكنولوجيا الإعلام والتواصل والذي هو أهم العوامل التي تتحكم في الكثير من الأمور نجد :
إن عملية تكوين الرأي عند البشر تتم من خلال برامج معمِقة للمعتقدات والأفكار الدينية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، بما في ذلك العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية .
لقد لعب الإعلام بكافة أشكاله الدور الأهم في التقدم العلمي التقني ، وتشجيع الإبداع الكامن داخل أفراد المجتمع هذا أو ذالك، والذي دفع باتجاه تطوير الوضع الاقتصادي والبنية الاجتماعية، وتعزيز التأثير السياسي، والتوافق والفهم الديني ، مما أدى في كثير من الدول إلى إعادة تشكيل المشهد الثقافي فيها .
ومن ناحية أخرى فان القراءة في مجتمعاتنا المعاصرة، واستخدام مصادر المعلومات أصبح استحقاق لا غنى عنه لكل فرد من أفراد المجتمع ، مشكلةً للحياة الثقافية والروحية و مربية لأفراد قادرين على التعاطي مع متغيرات جديدة ضمن ظروف العولمة واليات السوق الحاكمة، وتكوين الاقتصاديات المستقلة، والتطورات المتسارعة في التكنولوجيا والاتصالات والتعايش بين الأديان ، والتفاهم في الآراء والأفكار، وتفهم علاقة الخلاف في الرأي والدين.
إن المعلومات الآن و في عصر " اقتصاد المعلومات " الذي تزيد فيه قوة العمل في قطاع المعلوماتية عن القوة العاملة في قطاعات الاقتصادية الأخرى ، خلق اصطلاح المجتمع الواعي الذي يملك معلومات وأفكاراً و خبرات تمكنه من فهم ما يحيط به من أجل تطويره، وهذا لن يتم إلا من خلال توفير المعلومات اللازمة لتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً و سياسياً
والآن أصبحت الإنترنت من ركائز نجاح نشر المعارف والأفكار، وأصبحت تفرض نفسها باعتبارها تمنح امتيازا للتبادل وتشارك المعلومات , ووسيلة معتمدة للمناصرة والدفاع عن قضايا والترويج لأهداف والعقائد
, لقد زادت اليوم قيم الحرية والانفتاح ، إلا أن هذه القيم ليست واحدة بالنسبة إلى جميع الناس . فلكل فئة أو جهة أو فرد مفهوم خاص للحرية كما يضع كل فضاء حدودا معينة لها.
والرقابة على الإعلام والتحكم به موجودة دوماً وإن كانت بشكل غير ظاهر, فالتقييم والتوجيه لكافة أشكال الإعلام هو موجود دوماً , وإذا دققنا في التاريخ المروي أو المسجل , وهو شكل من أشكال الإعلام , وكذلك كل الإعلام الواصل إلينا , فإننا نره مراقب ومقيم وموجه من قبل راويه أو كاتبه . وكل من مارس أو يمارس الإعلام مهما كانت صفته , يترك بصمته عليه بطريقة من الطرق , فيمكن أن يذكر أشياء أو يتحاشى ذكر أشياء ,أو يستعمل طرق كثيرة أخرى معروفة ليترك بصمته (أو بصمت من يكون تابع له ) , وهذا نتيجة الدوافع والأفكار والقيم والمصالح التي يعتمدها , ودوماً الأقوى ( والأقوى يمكن أن يقون الأقوى فكرياً أو عقائدياً أو مادياً أو اقتصادياً ) هو الذي يفرض تقييماته وتوجهاته وينشر ما يحقق مصالحه . لذلك كان الإعلام غير دقيق وفيه الكثير من التحوير . بالإضافة إلى أنه كان قليل ومحدود مقارنة بالإعلام الموجود الآن .
لقد كان دوماً مسيطراً على الإعلام وموجه من قبل الأقوياء , ولكن الآن بوجود الانترنيت والإعلام الفضائي الذي سمح للكثيرين نشر أفكارهم ومعارفهم وقيمه , وضمن حرية واسعة , أصبحت قوة سيطرة الأقوياء على التحكم وتوجيه الإعلام مهددة , وإن بقيت موجودة . فيجب أن يستغل هذا الوضع من قبل الضعفاء لأنهم تحرروا من سلطة الأقوياء , والسعي لإظهار أفكارهم وقيمهم وتوجهاتهم , فهو الأفضل حتى وإن كان لهذا العديد من المحاذير المعروفة . لأنه في النهاية سوف ينتشر الإعلام الأدق والأفضل ( ولا يصح إلا الصحيح ) ويتوارى الغث والتافه والسيئ , ولن يكون هذا خلال وقت طويل . فيجب أن تتحقق ديمقراطية وحرية الإعلام وإن كان الثمن كبير.
لقد ساهمت الانترنيت في مزيد توسيع دائرة الجدل حول موضوع القيم , فالانترنيت تتيح للباحث فرصا كبرى لاقتصاد الجهد و تركيز بؤر البحث و الاستطلاع ، فبنقرة واحدة على ال " غوغل " مثلا ينكشف المبحوث عنه ، و ينطلق التسكع الفكري بين دروب المعرفة ، وزيارة المكتبات الكبرى و الإطلاع على أحدث النتائج العلمية في حقل تخصصه ، و في ذلك تشجيع مباشر على البحث العلمي و تكريس لديمقراطية المعرفة ، و من جهة ثانية فالشبكة أتاحت للكثيرين فرصا مهمة لتمتين عرى التواصل مع زملاء لي من دول مختلفة ، فالبريد الإلكتروني و المحادثة المباشرة توفر اليوم بديلا رائعا لأشكال التواصل التقليدية التي تتطلب وقتا أكبر و مصروفا مرهقا .
ويرى البعض أن الانترنيت حمل الكثير من الفوائد الجمة للكتّاب ، فاليوم لم يعد مفروضا على الكاتب أن ينتظر الأسابيع و ربما الشهور لكي ينشر له نص بالملحق الثقافي ، و لم يعد في حاجة أيضا للسؤال ، لعشرات المرات ، عن مصير نصه و سبب تأخره في النشر ، فطريقة " أضف مقالا " تعفيه من كل هذه المتاهات ، و تتيح له تصحيح نصه بنفسه و اختيار الإخراج الممكن له بنفسه ، كما أن بمقدوره لو كان يتوفر على بعض مال أن يحدث لنفسه موقعا خاصا به , والانترنيت حرر المبدعين من تجرع الكثير من الإهانات و المرارات التي يسببها طرق أبواب بعض الملاحق الثقافية التي استحالت مع توالي الأيام إلى ضيعات خاصة تنشر لفلان و لقبيلة فلان ، ترفض بالطبع كل صوت آخر لا يعزف لحن القبيلة و لا يعبد سيد القبيلة ، كثيرة هي الأسماء التي تلتمع اليوم في الشبكة و تكرس حضورها النوعي في أكثر من موقع و تستقبل إنتاجاتها بغير قليل من الاهتمام و الترحيب من قبل المشارقة و المغاربة ، كانت تقريبا ممنوعة من الصرف في كثير من الملاحق الثقافية ، لكن بمجرد ما اكتشفت عوالم الشبكة ، حتى أفصحت عن إبداعيتها و أصالتها الفكرية ، و في ذلك تأشير بالغ على الإقصاء الذي تنتهجه جملة من الملاحق الثقافية .
إذاً لقد تطورت القدرات والخيارات المتاحة للإنسان نتيجة تواصله مع الآخرين بواسطة اللغة ونقل أفكاره ونواياه ومعارفه لهم , فتراكمت المعارف ونمت وساهمت في تسريع تطور المجتمعات البشرة بشكل غير مسبوق .
والآن بنشوء المعارف والأفكار غير البيولوجية نتيجة نشوء وتطور الكومبيوتر تسارع نمو وانتشار المعارف والأفكار بشكل ليس له مثيل .
أمام تطور وسائل الاتصال الحديثة نعيش أكبر ثورة عالمية في وقتنا الحاضر , لقد ساهمت في تطور الفكر وأساليب العيش ورفاهية الإنسان . والعالم الرقمي الجديد كان أكثر إغراء بالنسبة للشباب ، الذي لم يعد بإمكانه الإفلات من حبال الشبكة العنكبوتية.
إننا ننظر إلى الانفجار الإعلامي نظرة غير واقعية فنتكلم عن كم المعلومات والمعارف الهائل ودقة بعضها العالية جداً وتوفرها في أي مجال نظري أم عملي , ولكننا ننسى قدراتنا الجسمية والعقلية التي تسمح لنا بالتناول والهضم والتمثل - المحدود جداً- لهذا الكم الهائل من المعلومات.
إن استطاعتنا للتعامل مع هذا الكم من المعارف والأفكار هزيلة جداً , فنحن نظن أننا قادرين على التعامل مع هذه المعارف, ولا ننتبه إلى قدرات جسمنا وعقلنا وذاكرته المحدودة جداً, وغير الدقيقة.
لذا فإن أصعب مهمة تواجهنا هي اختيار المجال الذي سوف يمتص أو يستهلك قدراتنا الفكر
التعليقات (0)