مواضيع اليوم

التسامحية .. وأصول الفتنة (( رؤية مستقبلية ))

عبد الهادي فنجان الساعدي


بعد الفتنة التي حدثت في اواخر عهد الخليفة الثالث وانتهت بمقتله ، تم اختيار علي بن ابي طالب كخليفة رابع . وبغض النظر عن اعتبار البعض له كخليفة من ضمن الراشدين واسقاط البعض الاخر له من هذا التعداد العربي الاسلامي الذي ولد كنتيجة حتمية لما هو اسوأ في العهدين الاموي والعباسي .. تبرز عقد وانعطافات في التاريخ تضطرنا الى أن نأتي بها للاستدلال والاستفادة فانها في رؤيتنا المستقبلية لعملية التسامح والتسامحية كمستقبل يختاره الناس لسلوكه بعيدا عن كل عقد الماضي والنظرة المبتورة للدين والحياة والخروج من اطار التخلف وذلك بمسح التراب عن رؤوسنا بدل وضعه كدليل على الحزن العميق والأخوة اللعينة .
ومن هذه الانعطافات التي تبين سعة الافق الفكري لبعض الصحابة والتابعين وضيق الافق للبعض الاخر حيث استدعي احد ابناء الصحابة ليبايع الخليفة الرابع بين فتنتين فقال له (أنا لا ابايعك) .. فاستقبلها الامام علي بن ابي طالب بسعة افق فكري لا يمكن ان يتكرر بسهولة الا بعد نفض التراب عن رؤوسنا وقبول الاخر كبديل موضوعي للعداء الساذج والمر الذي يغلف علاقاتنا منذ اربعة عشر قرنا، اجابه الامام (وانا في حل من بيعتك) لقد وظف هذا الامام مبدا التسامح ليجعله نصا قانونيا استعمله في كثير من المواقع وبصيغ شتى مع الناكثين والقاسطين والمارقين(1).
(لا شيء ادعى الى جعل العالم مسرحا داميا للاضطراب والمذابح من تقرير هذا المبدأ القائل بان كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم ان يبيدوا سائر الاديان . ان هذا يؤدي الى ارجاع الجنس البشري الى نفس الحال التي يتحدث عنها رجال السياسة والتي كان فيها كل فرد سيدا وله الحق في كل شيء ما دامت لديه القوة للاستيلاء عليه . ان من الواضح ان الدين الحق ايا ما كان لا يحق له ان يدعي أي امتياز يخول له العنف مع الديانات الاخرى ولا يحق له ان يدعي أن الافعال التي يرتكبها هو بريئة لكنها تكون جرائم اذا ارتكبها الاخرون)(2).
ان حديث الفرقة الناجية هو من اكثر الاحاديث التي ولدت جدلا عنيفا وعقيما في المجتمعات الدينية الساذجة وحتى في المجتمعات التي تعتبر من الملل الكافرة في نظر معظم الملل والاديان السماوية .. حتى هذه الملل تعتبر نفسها في احاديثها القدسية المحصورة في خلاياها التثقيفية دينيا من ارقى الملل وانها هي الفرقة الناجية وبقية الملل هالكة . وفي لحظات الاشراق التي تكتنف العلاقة في لحظاتها الحميمة بين الملقن الديني وبين الفرد العادي نجد أن الاعتقاد يستمر حتى اليوم التالي وهو يحمل اثار الافيون الذي وزعه الملقن في عقول وقلوب الجمهور المتحسس لقضاياه الدينية المصيرية بعد أن طرحنا العلم جانبا وكانه الجانب الدنيوي البذخي الكمالي الذي يجب ان لا ينظر اليه الا من الجانب المادي الدنيوي الفاني .
(هذا التعدد الهائل في الفرق والمذاهب افضل من المذابح والمشانق والغارات الهمجية وكل الاضطهادات القاسية التي سعت الكنيسة الرومانية (الكاثوليكية) بواسطتها الى المحافظة على الوحدة دون ان تفلح في ذلك ابدا)(3).
في نفس الوقت والدورة الحياتية نفسها تتكرر في بقية الاديان ومذاهبها اذ يتكرر دون النظر الى الدرس السابق كل ما دار بالامس من مذابح وهذيانات مذهبية تصل حد اللعنة .
وفي غياب الفكر العقلاني تصل الصراعات حد الحروب الصليبية وبعدها الحروب بين اصحاب الدين الواحد ثم الحروب بين ابناء المذهب الواحد . ويضيع الانسان من خلال الانتساب الذي يرثه دون ان يعلم اصل الفكرة وهل بنيت اصلا على اسس سليمة أم على اسس واهية .
(لا التشيع هو الاسلام الخالص والحق المحض ولا التسنن على الرغم من ان اتباع هاتين الفرقتين لا يرون هذا الرأي فيما يخص حقيقتهم، لا الا شعري حق مطلق ولا الاعتزال ولا الفقه الجعفري ولا تفسير الفخر الرازي ولا تفسير الطباطبائي ، لا الزيدية ولا الوهابية . لا كافة المسلمين ينزهون في توحيدهم وعباداتهم عن الشرك ولا جميع النصارى يصح ان يقال عن وعيهم الديني انه مشوب بالشرك وليس فيها حق صراح في جانب وفي الجانب الاخر باطل محض)(4).
اننا ازاء كم هائل من الهذيانات الطائفية والملية في الوقت الذي يفكر فيه الاخرون على الجانب الاخر من العالم باجتياز القرن الذي هم فيه ليدخلوا في قرن اخر قبل ان يخرج عالمنا من القرن الماضي. وحين يستفتح العالم القرن الجديد بانقلابات في عالم الصناعة والاتصالات والفتوحات العلمية المذهلة الجديدة نستقبل نحن دخولنا المتأخر الى القرن الجديد بطرق واساليب مبتكرة للغباء ومعالجة الامور بدونية لا يمكن ان تقارن بدونية عصور ما قبل التاريخ او عصر انسان نياندرتال .
كل العقد التي توصف بانها مستعصية تم حلها الا العقد التي يكون فيها المسلمون طرفا فهي من العقد التي ليس لها حلول نهائية الا بالقضاء على هذا الجانب المظلم من اطراف الصراع .
لم أجد مشكلة مستديمة الا وقد كان احد اطرافها مسلما او عربيا !! انها لعنة ابدية وليست انتماء دينيا او قوميا ، كل هذه اللعنات تؤشر بداية انقراض بشري اممي في حالة غياب الفكر العقلاني .. والا فلماذا نجد ان اكبر الكوارث تقع وتجد في اليوم التالي حلولها التي تدخل من كل المنافذ التي كانت بالامس مغلقة، اننا نختار اكثر مواطنينا حمقا لنوليه رقابنا وكأنه رقية تبعد عنا الحلول الفكرية الصائبة والتي لابد من وضعها على هذه الرقاب الغليظة والملامح الهزيلة.
لقد اوردَنا هذا الكم الهائل من القواد الحمقى المهالك (اذا قادا أحمقٌ قوما اوردهم المهالك) .. وقد فعلوا !! وما زلنا نبكي على اغانينا اكثر مما نبكي على هزائمنا وخيباتنا .
ما هو الحد الفاصل بيننا وبين العصر ؟!! ان الفكر العقلاني الذي كان يقودنا عبر اسيا وافريقيا واوربا حتى القرن السابع الهجري والذي فرقنا فيه بين الحياة والموت لافكارنا فاخترنا الموت وهكذا عشنا هذه القرون السبعة الباقية ننحدر نحو الاعماق وتقودنا الهاوية الى هاوية اخرى حتى لقد فقدنا التوازن ونحن ندخل القرن الهجري الخامس عشر وما زلنا لا نعرف الفرق بين التسامح واللاتسامح وما يقود الى احدهما.
(ليس لاي انسان السلطة في ان يفرض على انسان اخر ما يجب عليه ان يؤمن به او ان يفعله لاجل نجاة روحه هو ، لان هذه المسالة شان خاص ولا يعني أي انسان اخر، ان الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي انسان ولا لاية جماعة ولا يمكن أي انسان ان يعطيها لانسان اخر فوقه اطلاقا)(5).
لقد قرات مسودة (قانون النفط والغاز) وهي مجموعة ملاحظات كتبها الاستاذ فؤاد قاسم الامير بعد نشرها في احد المواقع الالكترونية وقد هالني ما فيها من ملاحظات حول ازمة الانسان العراقي ازاء ما حدث وما يحدث وما سيحدث . وقد تكررت الحالة بعد قراءتي لملاحظاته التي عنونها (مرة ثانية ملاحظات حول مسودة قانون النفط والغاز) . وقد التقت وجهات نظرنا في الكثير من الجوانب عند طرحها في المقالات السابقة .
أن اشد حالات الالم التي تنتاب الانسان هي عندما يجد حالة التدهور المريع في المجتمع ولا يجد من يشعر بهذا التدهور والانحدار الشديد نحو الكارثة وذلك لشدة العوز والذهول الجماعي الذي وضعته فيها قوة قاهرة تغيب قوة الخالق لشدة الصدمات التي تخلقها له وهول الواقع المزري الذي يعيش فيه .
لقد غابت عنا فكرة التسامح والتسامحية ونحن نخوض في دماء بعضنا البعض .. انها تمثل حالة القطيعة بين الشعور واللاشعور . لقد خاض البعض في دماء البعض الاخر وهي احتفالية تسيح على جوانبها سوائل ممزوجة بالدم والنفط .
كانت التسامحية الخطوة الأولى لكل شعوب العالم في سيرها بعيدا عن حالة الغرق في أوحال الجاهلية ، وهي تُعد في وادينا اولى الملاحظات التي يجب ان نكتبها في دفتر ملاحظات الخروج من وهم الخلافة الراشدية الجديدة الى الوعي بواقع الصراع الدموي من اجل النفط .
الحواشي:
(1) قال الرسول (ص) للامام علي (انك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين).
(2) انظر جون لوك رسالة في التسامح ترجمة د. عبد الرحمن بدوي ص35-36.
(3) المصدر نفسه ص37 .
(4) التعددية الدينية بين النفي والاثبات / د. عبد الكريم سروش / مجلة قضايا اسلامية معاصرة العدد 20 ص157 .
(5) جون لوك رسالة في التسامح ص47 .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !