ترجمـة الأعمال الأدبيـة
د مسلك ميمون
لعلّه من المفيد الإشارة بادئ ذي بدء أنّ كلّ نوع من أنواع الترجمة له خصائص ينفرد بها و بخاصة إذا تعلق الأمر بين ترجمة نصوص علمية و أخرى أدبية .
إذا كانت النّصوص العلمية تتطلب الدّقة في اختيار المصطلح . و الإلمام التّام بالموضوع العلمي محطّ الترجمة . فإنّ النص الأدبي يتطلب سعة الخيال و دقة التعبير ، و حسن التّحكم في اللّغة ، و مدى الإلمام بجناسها و اشتقاقها ، و اختلاف تراكيبها و بنائها … و من تمّ ينبغي الفهم أنّ الترجمة ليست عملية نقل آلي من لغة إلى أخرى . و أنّ المترجم ليس ناقل أفكار غيره أو مشاعره . بل الترجمـة الأدبية هي فوق هذا و ذاك عملية إبداعية.والمترجم مبدع كباقي المبدعين . في كلّ ما يترجم مـن نصوص (( مبدع في لغة أخرى ، أو على الأصح ، مبـدع في اللغة . و من أجل ذلك ، فلا يكــــون عليه أن ينقـــل النص الأصلي و ينسخه ، و لا أن يهتم بتبليغ مـعناه الأصـلي ؛ إذ " لا علاقــة للترجمة بالتبليغ و الإخبار " [1] مهمــــة المترجم هي أن يسمح للنص بأنْ ينقل من ثقافة إلى اخرى ، و أن يمكِّنه من أن يبقى و يدوم ، و لا معنى للنقل إن لم يكنْ انتقالاً ، و لا للبقاء إن لم يكن تحـولاً و تجدداً، ولا للتجديد إنْ لم يكن نمواً و تكاثراً . )) [2]
و صفة الإبداع تبدأ من البداية حين يختار النّص الأدبي للترجمة . فعمليــــة الاختيار ليست عبثيـــة ، أو اعتباطية … فلاشكّ أنّ النّص خاطب مشاعر المترجم . و حرّك أفكاره . بل دفعــه للعمل و الحوار . و الترجمة عملية محاورة بين النّص و المترجم . و ككلّ حوار قد يؤدي الأمر إلى توافق و انسجام . و قد يختل ذلك لسبب أو آخر . و عموماً فالترجمة تكون في الغالب تلبيــة لدافعين اثنين : جمعي أو ذاتي . فإذا كان الدافع جمعياً كان متضمناً لكلّ ما هو ذاتي . أما إذا كان ذاتياً ؛ فتصبح الترجمة ذات صبغـــة حميمة تستجيب بشكل أحادي لرغبات و متطلبات المترجم . و في كلا الحالتين يبقى عنصر الإبداع وارداً .
و لإنجاح التّرجمة . و المحافظـــة على جوهــر النّص و معطياته … ينبغي فهمه و استيعابه . لأنّ النّص الأدبي له خصوصيات قد لا نجدها في غيره من النّصوص.فكلّ نص أدبي يتضمن رؤية للحياة بل هو رؤية الكاتب الخاصة للعالم . ثمّ إنّه إيحاء و إيماء . و فيه الشّكل يصبح غاية لا تتجزأ من المضمون . ثم إنّه يحتمل عدة قراءات لتعدد معانيه و هي عملية ليست بالسّهلة دائماً ؛ و بخاصة أنه ضـرب مـن المجــاز و الكنايــة و الاستعارة … و لهذا فترجمة نصّ أدبي لا تعني فقط البحث عن المقابل اللّفظي في المخـــزون الذّاتي الثقـــافي أو في القاموس. و لكن الأمر يتعلق بعمق الإدراك و الفهم لمقتضيات النّص و بعملية الغوص في متاهات التعبير و استغلال القدرة على التّخيل . وذاك هـو الإبـداع الحقيقــي في الترجمــــة الأدبيــة .
كما أنّ عملية الرّبط بين الجمل و الفقرات في كلّ اللّغات تكتسي أهمية بالغة . و في الترجمة يصبح الرّبط مفيداً في المحافظة على المعنى و إيصاله من جهة ؛ و المحافظة على روح النّص كما أراده المؤلف من جهة أخرى . و لعلّ الرّبط وحده لا يكفي و بخاصة إذا علمنا أنّ المترجم مطالب بفصاحة التعبير ، و بلاغة التركيب . و حسن اختيار اللّفظ الملائم . مع مراعاة دلالــة الألفاظ في اللّغة المترجم إليها . و الحــــرص على الإبانة و الوضوح …و الأمر في الترجمة الأدبية لا يقتصر على النثر، من : نثر فني و قصة و رواية و مسرح ، أو نقد و تنظير…فقد تهتم الترجمة الأدبية بالشّعر؛و في ذلك إشكال كبير تلخصه الدكتـــــــورة سسامية أسعد في مجموعة من الأسئلة : [3]
ـ هل نترجم النص ترجمة حرفية ، أي ننقل كلماته و جمله أم لا ؟ و هل ننقلها بنفس الترتيب الذي وردت به في النص الأصلي أم لا ؟
ـ هل نترجم الشعر الموزون المقفى إلى شعر موزون مقفى ؟
ـ ما الذي يمكن أن نترجمه : المعنى ، أم الصور ، و الإيقاع ، و الموسيقى ؟
ـ هل ننقل النص نقلاً أميناً أم نخونه بطريقة ما ؟
و تجيب باختصار :(( و مترجم القصيدة يمكن أنْ يترجمها نثراً أو شعراً … بشرط أن يحتفظ بجوهرها ، أي بالعناصر المكونة لشاعريتها ، و ألا يترجمها كما لو كانت نثراً .)) [4]
و في كلّ ذلك إبداع لا يمكن تجاهله أو إغفاله .غير أنّ الإبداع لا يظهر و يعمّ و يحتدّ أواره إلا بحركة دائبة مستمرة تجعل من الفعل الترجمي ظاهرة حقيقية واقعية … و هذه مسألة تكاد تغيب في الوطن العربــــــي قياساً لما هو عليه العالم الغربي . و قد تنبه إلى هذا الأستاذ محـمد عبد الغني حسن منذ الستينات القــــرن الماضي إذ قال في كتابه : (( الترجمة في الأدب العربي )) ( لعلّ من أغرب الأمور أنّ " فنّ الترجمة " لم يعالج في الإنتاج العربي بكتاب واحد ، على كثرة ما عولجت به فنون أدبية أخرى . و أنّ ما كتــــــب عن التّرجمة و النّقل من حيث الفن و الشّروط و أسلوب النقل لم َيعد أن يكون إشارات و آراء موجــزة هي أقرب إلى اللّمحة الخاطفة منها إلى الدراسة المتعمقة . ) [5]
فإنْ كنا نلاحظ في العالم العربي حركة في الترجمة ؛ فهي بطيئة و ضئيلـة . و لا تلبي كلّ حاجيات المثقف الـعربي . و بخاصـة أنها تعتمـد في الغالب لغتين اثنتين من الإنجليزية و الفرنسية إلى العربيـة . و هـذا يـعود لثقافتي الاستعمارين الفرنسي و الإنجليزي : الفرنسي في شمال إفريقيا و بخاصة دول المغرب العربي : المغرب و الجزائر و تونس . و الإنجليزي في دول المشرق العربي و بخاصة مصر . و قد حدث أن وزع مترجمو الوطن العربي المسؤولية تلقائياً و بدون سابق اتفاق . و قد يبـدو هذا غريـباً : إذ اهتم المشارقة بترجمة الأعمال الإبداعية و السياسية و الفكرية . بينما اهتم المغـاربة بترجمة الأعمال الأدبية النقدية .ربما يلاحظ في ذلك تكامل و تعاون . غير أنّ نقصاً و اختلافاً يجـعل هذا التكامل و التعاون غير ذي بال . بل يجعل خطاب الترجمة يتقلّص و يضمر بشكل رهيب ما جعل أحد المترجمين في المغرب يقول : (( أصبح خطاب الترجمة يجد من العوائق ما يفرغه من مضمونه . و هي عوائق فيها اللّغــــــــــوي ، و المعـرفي ، و السيـاسي الأيدلوجي . و صارت الترجمة إلى العربية تكـاد تكون ضرباً من الخيال ؛ لانتفــاء شروط مزاولتها في الوطن العربي .و من وجـوه ذلك ما أصبحنـا نلمس من تباين وفرة الإنتاج المصطلحي الغربي و ركود المعجم العربي ، و كذا تباين العلـوم التي تتغذى عليها الترجمة ، تستوي في ذلك اللسانيات ، و الأسلوبية ، و المعجمية ، و العــراقة و الإنـاسة و الحياوة ….و زاد من من تعقد الإشكالية الترجمية الفروق التي لا تني تتسع بين الحضارتين المنقولة و المنقول إليها . )) [6]
نحن لا ننكر أبداً ما صارت إليه الترجمة في عصرنا كعملية أساسها اللّغـة . لقد شهــد القـــــرن الماضي (عملية تنظير ) في إطار الترجمة.بغية ضبطها في قواعد قد تعين المترجم في القيام بمهمته. إلى أن وجدت ( نظريـة الترجـمة ) بل و ( مناهـج الترجمـة ) … و في غير هــذا أصبـحت الترجمة مادة تدرس و أعــدت فيها بحوث و أطروحات ،و نيلت في إطارها شهادات عليا . و كلّ ذلك تبلور عنـه ما يعرف الآن ب ( علم الترجمة ) و هذا كلّه يثبت مدى الجهد الذي بُدل في الغرب سواء من طرف أدباء مترجمين ، أو من طرف مثقفين مترجمين مختصين … الشيء الذي ينبغي أنْ يكون عندنا في العالم العربي ؛كما كان في طفرة من طفرات تاريخنا ؛ حين أدرك سلفنا ما للترجمة من أهمية كبرى في بنـاء الحضارة . و إنعاش روح الثقافة و المثاقفة .
و في جميع الأحوال لا يمكن اعتبار الترجمة صورة طبقاً للأصل . فالأصل باق و الترجمة مآلها الزوال . لسبب لا يمكن إغفاله، و هو أنّ اللغة فبي تطور مستمر . و اجتهادات وإمكانات المترجمين متعددة و مختلفة و متفاوتة… و من تمَّ نجد للنّص الواحد عدة ترجمات وكلّها لا تغني عن العودة إلى الأصـــل في بعض مضانه و في ذلك ما يجسد الإبداع (( فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النّصوص ، و تنقلها من ثقافة إلى أخرى ، و النّص لا يحيا إلا لأنّه قابل للتّرجمة و غير قابل للتّرجمة في الوقت ذاته . )) [7]
خلاصة القول ؛ مهما قيل و يقال عن الترجمة فهي سبيل للحوار الثّقافي ، و تقارب للأفكار ، و فهـــــم للآراء . و منعرج خطير لتفهم لغة الذّات ، و لغة الآخر ، و هي فوق هذا وذاك التّجديد المستمر للنّص الأصل ، و الفن والإبداع اللّغوي ، و العلم و المثاقفة التي لا تنتهي .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ w .Benjamin .’’ La tache du tradicteur ‘’ In Mythe et violence . trad M . de gaudilac / denoel . Paris . 1971. P 272
[2] ـ عبد السلام بنعبد العالي ، في الترجمة ، سلسلة شراع العدد40 ص 34
[3] ـ د سامية أسعد ، عالم الفكر ، المجلد 19 / العدد4 يناير فبراير مارس ـ ص 34
[4] ـ نفس المرجع ص 35
[5] ـ محمد عبد الغني حسن : فن الترجمة في الأدب العربي ـ الدار المصرية للتأليف و الترجمة ، مارس 1966 ـ ص3
[6] عبد الرحيم حزل ، أسئلة الترجمة ،سلسلة شراع العدد 55 ص 31ـ32
[7] ـ عبد السلام بنعبد العالي ، في الترجمة ، سلسلة شراع ، العدد 40 ص 45
التعليقات (0)