الانتخابات البلدية والفراغ السياسي في عشر نقاط
1ـ في دلالة الأرقام
أبرزت الأرقام المعلنة حول القائمات المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة حجم الفراغ السياسي في البلاد والذي تجسده الهوة القائمة بين الحزب الحاكم وبقية الأحزاب بمختلف تصنيفاتها.
يبلغ عدد البلديات في تونس 263 بلدية تقدم الحزب الحاكم في جميعها في حين تقدم الحزب الذي يليه في ترتيب القائمات وهو حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في 43 بلدية بعد أن كان طموحه المعلن في الصحف الوصول إلى ستين قائمة، وتقدمت الأحزاب الأخرى في دوائر مختلفة بقائمات أقل بكثير.
إذا اعتبرنا أن الانتخابات هي المحطة الأهم والأكبر في أي عمل سياسي باعتبارها مقياس الأحجام السياسية للأحزاب، وقدرتها على الفعل والممارسة، وجدارتها في تقديم مقترحات وحلول تساهم في تطوير البلاد والنهوض بها، إذا اعتبرناها في الأصل كذلك فإنها في تونس ومن خلال الأرقام الناطقة بذاتها تبرز الثغرات السياسية المفزعة التي قادت إليها سياسة الحزب الحاكم على امتداد عشرين سنة لقتل كل مظاهر العمل السياسي الجدي والمثمر، ومن ثمة إفراغ الانتخابات من أي رهان حقيقي.
2ـ ثقافة "كول ووكّل"
هناك جملة معبرة باللغة الدارجة التونسية برزت في المعاملات بين التونسيين هي "كول ووكل" تستعمل لتسيير الأمور بطريقة غير شرعية عندما يقدم لك شخص في مركز ما خدمة معينة يجب أن تقدم له مقابلا فيستفيد بعد أن استفدت بدورك. وبمرور الزمن خرجت هذه القاعدة غير الشرعية من دائرة المعاملات التجارية والإدارية إلى الفضاء السياسي العام، سواء بين الحزب الحاكم/ الدولة وبين الأحزاب الأخرى الدائرة في فلكه، أو داخل عدد من أحزاب المعارضة التي تنعت تجاوزا كذلك والتي استبطنت تلك الثقافة وعمقتها.
بات من المعلوم في تونس أن العديد من الأحزاب التي تصنف في خانة المعارضة تم الاعتراف بها لتنويع الفضاء السياسي وإضفاء مسحة من التعددية الجوفاء عليه. وبما أنها ولدت كذلك وهي مدركة لطريقة ميلادها فعليها في إطار هذه القاعدة أن ترد الجميل بالإشادة المستمرة بالسياسة الرسمية وإبراز جدواها، والمزايدة في ذلك من أجل نيل أكبر الامتيازات مقارنة بالأحزاب الأخرى. وإذا كانت مثل تلك الممارسات تمثل في السابق نوعا من الخجل والحرج وربما العار لمن بأتيها، فإنها مع تغير الأجيال السياسية أصبحت ربما مدعاة فخر عند أصحابها، ودليلا على مهارتهم السياسية، ومؤشرا على الذكاء في فهم الواقع الراهن، وقدرة على التطبيق الجيد لثقافة "كول ووكل".
ولا يقتصر الأمر على علاقة تلك الأحزاب بالسلطة بل تجاوزه إلى الممارسة المعتمدة داخلها، فهي لم تعد ترى حرجا في ملء قائماتها بأشخاص لا علاقة لهم بالسياسة، ففي القائمة الواحدة وحتى تكتمل يمكن أن نجد الزوج والزوجة، والأب والابن، والأصهار، والمؤجر وأجيره، كما نجد من يُحشرون حشرا في القائمات بمختلف وسائل الإغراء حتى يكتمل النصاب، ولا دراية لهم أصلا بالسياسة ولا بالبلدية ولا بالعملية الانتخابية.
3ـ سياسة بلا أخلاق
بتواصل تلك الممارسات على امتداد دورات انتخابية ساهمت السلطة في قتل الضمير لدى هذه الفئة التي تأتي مثل تلك الممارسات فتصمت عن كل التجاوزات التي تحدث في حق المواطن والوطن مقابل تلك المنافع الظاهرة.
وإذا أردنا ترجمة قتل الضمير سياسيا يمكن أن نفسر به وجود قادة سياسيين لا لون ولا طعم ولا رائحة لهم. لأن تلك الخصائص تكتسب من خلال المواقف الضرورية في الأوقات المناسبة والتي تجعل لرجل السياسة المكانة التي هو بها جدير لدى الجماهير التي تعد محرك السياسة وروحها بما تضفيه عليها من نكهة ضرورية. وبما أن أولئك القادة لا مواقف لهم فلا نكهة لهم ولا حضور جماهيري يميزهم.
4ـ انتخابات بلا جمهور
إن ممارسات الأحزاب المذكورة التي تضاف إلى قمع السلطة هي التي نفرت الجماهير من العملية السياسية ومن الاهتمام بالشأن العام وأفرغتها من روح المواطنة، ولذلك ليس من المبالغة القول بأن ما يجري هو انتخابات بلا جماهير تبدو متحمسة لهذه القائمة أو تلك أو معنية بها أصلا، وهي انتخابات بلا منافسة باعتبار أن الهوة السياسية التي اشرنا إليها لا تسمح بالمنافسة الحقيقية كما أن التناغم بين حزب حاكم متغول وبين أغلب من شكلوا القائمات لا يمكن أن يسمى في العرف السياسي واللغة المسرحية منافسة بقدر ما هي إشارات ركحية لتسابق الحزب الحاكم مع ذاته .
5ـ سياسيون في دائرة مفرغة
أبرزت الانتخابات البلدية أيضا نموذجا آخر من السياسيين عندنا فهم في مواقفهم يختلفون اختلافا كليا عن الفئة التي كنا بصدد الحديث عنها. فمواقفهم ثابتة في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومسار العديد منهم النضالي محترم غير أنهم أشبه بحواريي السيد المسيح الذين خاطبهم بقوله إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.
فهم يشاركون في الانتخابات ويهزمون بطريقة قمعية واضحة لا تخلو من إذلال وإهانة ومع ذلك يؤكدون في تقييمهم أن مشاركتهم كانت إيجابية ويعاودون الكرة وهم يدركون أنهم يشاركون في لعبة لا قواعد لها ولا قانون يحكمها، ولا نتائج إيجابية مرجوة منها باعتبار أن نتائجها معلنة مسبقا. فكأن هناك نوعا من الازدواجية بين المواقف المعلنة وبين المشاركة التي تكرس الأمر الواقع منذ أكثر من عشرين سنة. فالعجز واضح في مثل هذه الحالة في تأسيس خطاب جديد يقطع مع الأوهام السلطوية التي فرضها الحزب الحاكم بالقوة.
6ـ "ضباط بلا جيوش"
في العديد من الدول التي عاشت مرحلة التحول الديمقراطي لم تصل إلى ذلك إلا بتغليب نخبتها السياسية مبدأ التوحد على نزعة التذرر لاعتقادها الراسخ أنها متفقة على المطالب الأساسية وأن توحدها هو الذي سيقودها إلى تحقيق أهدافها، أما عندنا فالقاعدة أصبحت هي التذرر، فكلما برز شخص في حزب ما إلا واعتقد انه امة برأسه وانه قادر على الزعامة وعلى تكوين حزب جديد. وعادة ما يقع ذلك بتغذية من السلطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة لأنها هي التي لها المصلحة الكبرى في تذرر منافسيها وخصومها. وجل هذه المجموعات عادة ما تغرق في "الوعي الكتبي" النظري أو الايدولوجيا المغلقة فتعتقد أنها بمجرد كتابة تقييم ما للساحة السياسية أو نقدها لأطراف سياسية فاعلة، قد حققت المقصود ووصلت إلى مبتغاها في حين أنها تجسد العجز باعتبار أنها تبقى منحسرة من الناحية العددية ومن الناحية السياسية لتبريرها في كثير من الحالات سياسات السلطة في إطار التباين مع خصومها السابقين فتعالج الخلاف بخطأ أفدح منه تستفيد منه السلطة في نهاية المطاف.
7ـ التعويم والقمع
كانت إستراتيجية السلطة تقوم على التعويم والقمع. تعويم الساحة السياسية بأحزاب مفرغة من المضامين والأدوار الضرورية للأحزاب ، وقمع كل الأحزاب التي تقف في وجهها وتطالب بإصلاحات ديمقراطية جوهرية تقود إلى انتخابات فعلية.
وإذا كانت الانتخابات التشريعية تبرز نوعا من التباهي الأجوف بين أحزاب تفاخر بأنها شاركت في كل الدوائر الانتخابية بقائمات محدودة العدد تصل إلى مرشحين اثنين فقط في بعض الدوائر، فإن الانتخابات البلدية تبرز العورات الحقيقية للسياسة التونسية باعتبار كثرة البلديات وارتفاع عدد أعضاء المجالس البلدية الذي يصل إلى 4478 عضوا في كامل البلاد.
8ـ المواطن الأسير
واضح أيضا أن الحزب الحاكم لا يريد أن يفرط في البلديات باعتبار أنها عماد العلاقة مع المواطن وهي أسس التنمية المحلية بما تتوفر عليه من ميزانيات مرتفعة. لكنه يريد في المقابل أن يشرّك معه أحزابا لا وزن لها، ومرشحين لا إشعاع لهم ليبقى هو الماسك بخيوط اللعبة فيعطيهم نسبة محددة ويتحكم في من يدخلها من المرشحين، فحتى القائمات التي لا إشعاع لها يتم الفرز داخلها حسب التقارير المسبقة. وبذلك يبقى الحزب الحاكم محتكرا للخدمات الأساسية فيبقى المواطن أسيرا له، فيغذي بذلك الزبونية السياسية القائمة على القول بأنك إذا أردت أن تحقق مصلحتك عليك أن تنتمي إلى الحزب الحاكم أو في أحسن الحالات عليك أن تتمسح على أعتابه لأنه وحده القادر، وبقية الأحزاب عاجزة حتى تلك الموالية له لأنها لا تملك أي خيط من خيوط السلطة الفعلية حتى ولو كانت محلية في علاقة بخدمات بسيطة.
9ـ نسب بلا معنى
أدخل الحزب الحاكم القوى السياسية الموالية له في سياسة حسابية يسعى من ورائها إلى إبراز التنوع والتعدد في القائمات الانتخابية بتخصيص حصة للشباب وأخرى للمرأة بما يوحي بوجود تغيير وديناميكية. غير أن ذلك دخل في خانة السياسة الميكانيكية بما أن هذا التنوع لا معنى له إذا لم يعبر عن اختلاف فعلي في الآراء والمقاربات، فكم من شاب لا تختلف لغته الخشبية عن الشيوخ، وكم من امرأة تصمت على انتهاك حقوق النساء .
أصبحت هناك براعة في السياسة التونسية السائدة في إفراغ المبادرات المطلوبة من مضامينها فرغم التنوع الحسابي الذي تبرزه النسب والدلالات التي تتفتق قريحة بعض الصحف في إبرازها فانه يمكن أن نصفه بتنوع الدائرة المغلقة الذي يقود إلى نفس الخطاب ونفس الممارسة ويرفض كل أشكال التنوع الحقيقي.
وتلك نسب لا تعبر عن التنوع في الحزب الحاكم ذاته الذي يخضع منذ فترة إلى أحادية حزبية محكمة ينعدم فيها التعدد ولذلك ليس من الغريب أن تجد دستوريين قدامى يتحسرون على ما كان يتسم به حزبهم من تنوع في الاتجاهات والأجنحة واختلاف في الآراء بلغت صداه الصحافة على الرغم من أنها كانت ذات لون واحد لكنها نشرت نصوصا معبرة عن الاختلاف داخل الوحدة وهو ما لا يتوفر اليوم داخل الحزب الحاكم بعد عقود من الزمن.
10ـ الحد الأدنى القانوني والديمقراطي
لا معنى لانتخابات في أي بلد في العالم ما لم تتوفر فيها ما اصطلح على تسميته بالحد الأدنى القانوني أو الحد الأدنى الديمقراطي. وتغاضي النخب عن ذلك الحد الأدنى ببعض خصائصه المذكورة سابقا هو الذي جعل التجربة السياسية التونسية تتراجع وأفرز انتخابات دون رهان انتخابي وسياسي.
وإذا كان لا بد من مدخل يعيد للنخبة كرامتها وللعملية السياسية البعض من هيبتها فلا مناص من أن تتفق القوى السياسية الجادة التي تغلب مبدأ الضمير على ممارسة السياسة للسياسة، على جملة من المبادئ الدنيا التي لا يمكن الحديث عن انتخابات بدونها فتعمل موحدة على بلوغها وإلا فستبقى السياسة في مكانها، وتبقى النخبة تتراشق بالتهم في جمل أدبية، قد لا تخلو من شاعرية وجمالية وقدرة على التعبير، لكن تبقى السياسة هي الخاسر الأكبر وتبقى الانتخابات تفرز نفس النتائج.
لطفي حجي
حق المواطنة والتوسع المعنوي
تقوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر على التوسع المادي الذي يتمثل في جملة من الأسس القانونية الوضعية لا ترتقي بها من رتبة المواجدة في الوطن الواحد الى رتبة المشاركة في الصلة الواحدة اي المؤاخاة كما يحصل مع التوسع المعنوي الذي يتيحه التطبيق الاسلامي لمفهوم المواطنة كركن من اركان روح الحداثة. فالمؤاخاة تنهض بشروط المواطنة الصالحة لأنها تتأسس على القيم لأخلاقية التي ترتفع بالانسان الى اعلى الرتب.
ان الأخلاق ليست رتبة واحدة وانما رتب متعددة ومختلفة، فأخلاق المنفعة أو الواجب لا تستوعب كل الأخلاق وهي حقيقة أغفلها الفلاسفة الحداثيون وتفطن لها العلماء المسلمون عندما رتبوا الناس أخلاقيا الى ثلاث اصناف: العامة والخاصة وخاصة الخاصة، ويقابلها أخلاق الاسلام وأخلاق الايمان واخلاق الاحسان. ويمكن تصنيف الأخلاق اليوم الى ثلاثة مراتب 1- الأخلاق المجردة التي تبقى خارج نطاق الدين وهي بدون يقين من نفع مقاصدها، 2- الأخلاق المسددة [أخلاق الاسلام] والأخلاق المؤيدة [أخلاق الايمان] الناتجة عن اتباع اخلاق الدين وهناك يقين بنجاعة مقاصدها ووسائلها 3- وهي اخلاق الاحسان وهي عبارة عن اخلاق مؤيدة تراعي روح النص فضلا عن ظاهره. والتوسع المعنوي في أخلاق الايمان [التي نجدها في كل الأديان] لا يتم الا بواسطة اخلاق الاحسان كما جاء بها الدين الخاتم باعتباره آخر الأطوار لمسار الأديان السماوية التي سبقته.
أما مفهوم المواطنة فقد اقترن بالفصل بين دائرتي الحياة العامة التي تضم كل القوانين والمؤسسات التي تتوسل بها الدولة في تنظيم الحياة الاجتماعية حفظا للصالح العام، والحياة الخاصة هي كل ما اختص به الأفراد من حريات وحقوق لاتشملها سلطة القانون ولا تخضع لنظام المجتمع. فالمواطنة تقوم على أساس نظرية مخصوصة في العدل مبنية على هذا الفصل الحداثي بين الدائرتن، بحيث التمتع بالحقوق العامة يتم بمعزل عن الاختيارات والانتماءات الخاصة.
1- المواطنة والأخلاق
أ- التوسع المادي والمواطنة
ففي الفكر السياسي الأمريكي مثلا هنالك موقفين متباينين من هذه المسألة حيث يفرق الأول بين المواطنة والأخلاق [موقف الليبراليين] حيث المواطنة هي جملة من الحقوق الفردية تحددها نظرية العدل التي وضعت خارج نطاق الأخلاق التي تعتبر أمرا ذاتيا لا يخص المجتمع، على عكس المواطنة التي هي شأن عام بلا منازع. وهكذا فان فصل الأخلاق عن الحقوق يجعل هذه الأخير عبارة عن مصالح مادية وحظوظ فردية. [هناك توسع مادي فقط في مفهوم الاخلاق]. أما الموقف الثاني فهو يجمع بين المواطنة والأخلاق [ موقف المفكرين السياسيين المعاصرين] حيث المواطنة لا توجد الا مقترنة بموقع من المواقع في المجتمع، لأن كل مواطن يرتبط بتاريخ وتراث مخصوصين وثقافة يشترك فيها مع نفس المجموعة التي ينتمي اليها. هو تصو جماعاني للمواطنة لا يخرج عن التوسع المادي لمفهوم الأخلاق ولا يرتقي الى التوسع المعنوي الروحي لها.
- مظاهر انفصال المواطنة الليبرالية
وهي مواطنة تقوم على مفهوم التجرد من القيم والأهداف والظروف الشخصية حتى يصل الى حد الجهل بكل شيء عن وضعه الخاص، باسم المساواة أمام القانون والمواطنة. وهذا المعنى يورث انفصالات ثلاث: 1- انفصال المواطن عن أي ممارسة سلوكية وقيمية وأخلاقية حية مقابل مشاركته الاجتماعية بصفة فاعلة في الحياة العامة. 2- انفصال المواطنين كذوات فردية في المجتمع عن بعضهم البعض [الفردانية وتضخم الحياة الخصوصية] فيصبحون غير معنين بتمتين علاقاتهم بالمجتمع وأفراد العائلة والجيران وزملاء العمل. 3- ان الذات التي تأتي بهذا التجرد ليس لها اية مقاصد او قيم اخلاقية عامة ومشتركة رغم وجود رؤى اخلاقية خاصة بكل مواطن وهو انفصال بين ذاته المتخلقة كفرد وذاته غير المتخلقة كعضو اجتماعي.
- مظاهر انغلاق المواطنة الجماعانية
وهي مواطنة تقوم على مفهوم الجماعة وتفرز انغلاقا يتم في ثلاثة مستويات: 1- انغلاق في الجماعة التي تعتبر نفسها متميزة في تارخها وثقافتها عن الجماعات الأخرى. 2- انغلاق في الخصوصية الثقافية يؤدي الى المطالبة بالحقوق الثقافية الخاصة بها بدل الاندماج في الفضاء الاجتماعي العام 3- انغلاق في العوائد الخلقية حيث أنّ اخلاق الجماعة عادة ما تكون محافظة وجامدة كي تميزها عن غيرها وتضمن وحدتها. وهكذا يتبين لنا كيف أن كل من التوسع الحداثي الليبرالي والجماعاني يؤديان كلاهما الى الانفصال والانغلاق في مفهوم المواطنة.
التوسع المعنوي والمؤاخاة
ان مفهومي التجرد والجماعة المستخدمين في مسألة المواطنة هما بالأساس مفهومين دينيين. فالتجرد يعني ترك متع الدنيا والانقطاع لأعمال الآخرة، والجماعة تعني مجتمع المتدينين الطاهرالذين اختاروا أن تكون لهم حياة مشتركة وفق نظام خاص. ثم وقع تطوير هذين المفهومين بنلء على فكرة التعاقد والتساوي في الحقوق. ولما كانت أخلاق الآحسان هي آخر أطوار التجربة الدينية الروحية فقد أتخذ فيهاهذان المفهومان صورتين نموذجيتين وهما الإخلاص والأمة.
1- مفهوم الإخلاص واتصال المواطنة
لا يأتي المواطن فعل الاخلاص من أجل الوصول الى مبادئ للعدل يضعها من عنده، وانما من أجل الوصول الى الله ونيل رضاه وذلك باتباع احكامه العادلة. وهو اخلاص يتمّ عبر التجرد من أسباب الظلم للنفس والآخرين، أي بالمجاهدة والجهاد. والاخلاص ممارسة لا تنتهي مثل التوجه الى الله وتقواه. فهي مراتب عدة. حيث يرتقي الاخلاص الى العدل الذي يرتقي بدوره الى الفضل, الذي يرتقي بدوره الى المحبة. اذن ينبني الاخلاص على دوام التجرد من أسباب الظلم + دوام التوجه الى الله، فكيف يحقق هذا الاخلاص الاتصال في المواطنة؟ يمكن أن يكون ذلك عبر ثلاثة سمات:
أ- اذا كان التجرد الليبرالي ينبني على الانفصال بين واقع المشاركة السياسية ووهم العقد الاجتماعي المفترض الذي تنبني عليه هذه المشاركة، فان الاخلاص يجعل المواطن يحيا مشاركته وهو مطمئن الى أن واقعيتها مستمدة من الأصل الروحي الديني الذي بنيت عليه والذي يمده بالعون والثبات. فهذا الاتصال هو حقيقة الهية لامتناهية.
ب- واذا كان التجرد الليبرالي يؤدي الى الانفصال بين حقوق الذات الفرد وحقوق الغير حتى أضحى تكاثر هذه الحقوق الفردية يهدد الحياة الاجتماعية [الحق في الزواج المثلي، في البغاء، في السكر...]، فإن الاخلاص يجعل المواطن ينظر الى حقوقه على انها حظوظ يختبر بها صدقه واخلاصه في مشاركته وتجرده من الأنانية والظلم الى خدمة الصالح العام كما ينظر الى حقوق غيره على انها شرعها له العدل الالهي الأسمى، فيتعامل معها تعامله مع حقوق الله
ت- إذا كان التجرد الليبرالي يجعل المواطن يعني انفصالا بين ذاته قبل التخلق[مواطن] وذاته بعد التخلق [فرد] حيث سمة الأولى التجرد وسمة الثانية العدل، فان الاخلاص هو ممارسة تخلقية صريحة ومعيار لصدق أخلاق المواطن وهو تحرر دائم من النزوات والشهوات والمصلحة الذاتية الضيقة. وهكذا فان ذات المواطن المخلص لا تتصل الا بممارسة حريته واختياره لمبادئه وقناعاته. فهي إذن مواطنة متصلة ترتقي الى مرتبة المؤاخاة: " لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" " انما المِؤمنون اخوة"
ولكن كيف يمكن لمفهوم الأمة – بعد أن رأينا مفهوم التجرد_ ان يؤدي الى مفهوم المواطنة وارتقائها هي الأخرى الى مرتبة المؤاخاة؟
2-مفهوم الأمة وانفتاح المواطنة
ليس الوجود الجماعي داخل الأمة تكتلا من أجل تحصيل المزيد من الحقوق، وانما هو تجمعا من أجل القيام بمزيد من الواجبات، لأن الواجبات هي الأصل في اكتساب التخلق وليس الحقوق. فالأمة هي جماعة أخلاقية بالأساس تقوم على ركنين اثنين:
أولا: ان الأمة تمكن من التحقق بالماهية الأخلاقية أو الانسانية ذاتها [آدميته]، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الانسانية، وكلما تقلصت خلق الانسان اقترب من الحيوانية. فالأمة وفق هذا المنظور هي الفضاء الذي يحقق فيه المواطن شرط انسانيته حيث يتمرس على أسمى القيم الأخلاقية، حتى يوشك أو يصل الى أفق علوي مرموق [ التخلق بصفات الله]
ثانيا: الأمة تزودنا أيضا بالقدرة على ابداع القيم حيث ترتقي الأخلاق من رتبة الأوامر والنواهي الى رتبة المعاني الجمالية والحضارية التي تملأ الوجدان، وهذه الأخيرة ترتقي بدورها الى رتبة المقاصد المعرفية التي تنير العقل. وفي كلمة، الأمة هي الفضاء الذي تثمر فيه القيم السلوكية قيما جمالية تثمر بدورها قيما معرفية. ومتى صارت أسباب السلوك العملي اليومي موصولة بأسباب الوجدان والعرفان [المعرفة] أضحت معينا خصبا للإبداع. فتجد من يتفنن في الاتيان بالخلق الطيب تفنن الحاذق والملهم حتى كأن الخلق من صنعه الخاصأ أو حتى كأنه التجسيد المثالي لتلك القيمة لخلقية [كرم حاتم الطائي، عدل عمر، تواضع عمر ابن عبد العزيز...]. وهكذا قد يرتقي التخلق في الأمة الى رتبة ممارسة فنية صريحة، بحيث يصبح أهلها مبدعون بحق. فالأمة تنبني إذن على ركنين وهما التحقق بالماهية الأخلاقية الانسانية [ تحقيق انسانية الانسان] + تحصيل القدرة على ابداع القيم.
وبناء على ما تقدم يمكن تقديم الملاحظات الثلاث التالية:
- وإذا كانت الجماعة في الحداثة الغربية، تجعل المواطن ينغلق فيها، متعلقا برجالها ورموزها وطقوسها حتى ولو تم تلفيقها، فان تعلق المواطن المسلم بأمته هو وسيلة تدفعه الى مزيد التخلق من خلال روابط الصحبة والأخوة التي تجمعه بأبنائها جميعا وتلزمه بآداب عالية تمنعه من الانكفاء على الأقارب والأصحاب فقط ، وتحثه على الانفتاح على غيرهم من الأشخاص حتى لو كانوا من غير أمته، لأنه لا يلتفت الى خصوص مصالح فئة ما وانما الى عموم مصالح كمال الانسانية فيهم.
- إذا كانت الجماعة تعل المواطن ينغلق في خصوصيته الأنانية مهددا وطنه بالانقسام ومواطنيه بالتشردم، فإن الأمة الاسلامية لا تحفظ الوطن وتجمع شمل المواطنين فحسب، بل توسع مفهوم المواطنة ليشمل مفهوم الانسان بصفة عامة، وهو ما تدعيه العولمة اليوم بالقول، ولا تلتزم به في الواقع.
- إذا كانت الجماعة تجعل المواطن ينغلق في العادات والسلوك الخاصة بها، فإن الأمة الاسلامية لا تتأسس على الأخلاق الموجودة فقط بل تبدع فيها وتجدّدها الى ان تبلغ درجة اخلاق الاحسان، بل ويجب عليها ان تتولى تقويم كل أخلاق أخرى [ أعراف ، عادات، قيم، حقوق...] لأنها قادرة على الارتقاء بها من وضع التقليد والجمود الى وضع الابداع والجمالية [ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين]، إذ أن الأخلاق قد تبلى في القلوب، فلا يخرجها من هذا التبلي الا القبس الروحي الذي تنفخه فيها أخلاق الاحسان ومن هنا قيمة المسجد والجمعة والتواصل الروحي بين المسلمين.
خلاصة القول ان الأمة لا تنحصر في جماعة انسانية خاصة بل تتسع لتشمل الانسانية كلها [ وهو ما تدعو اليه العولمة اليوم ولكن بصفة مشوهة]. فالبعد الكوني للأمة يجعل منها، من زاوية التطبيق الاسلامي لروح الحداثة، مفهوما حداثيا بحق، رغم أن مفهوم الدين الذي تقوم عليه الأمة يختلف اختلافا جوهريا علىنظيره عند الحداثيين الغربيين
جابر القفصي
التعليقات (0)