مواضيع اليوم

التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية المدنية:

فلسطين أولاً

2010-04-03 14:26:18

0

التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية المدنية:


إستراتيجية فعالة للنضال ضد النظام الاستعماري- العنصري الإسرائيلي
مارس الشعب الفلسطيني، منذ عام 1917 وحتى اليوم، أشكالا متعددة من النضال ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، ومن ثم ضد الاستعمار والعنصرية الإسرائيلية. وقد اتسمت كل مرحلة من تاريخ الشعب الفلسطيني بتقدم أحد الأشكال على الأخرى، وأحيانا تعايشت أشكال نضالية مختلفة في نفس المرحلة. فمنذ العام 1917 وحتى الإضراب الشهير عام 1936 كانت المقاومة الشعبية المدنية هي الشكل الأبرز؛ حيث عقدت المؤتمرات الوطنية والشعبية وقدمت العرائض وتم تنظيم الإضرابات، جنبا إلى جنب مع أساليب الحوار والتفاوض والاتصال مع سلطات الاستعمار. وبين عامي 1937-1939 كانت الثورة الشعبية المسلحة هي الشكل الرئيس السائد على الأشكال الأخرى. وفي أعوام 1947-1949 كانت الحرب النظامية مع العمل الفدائي المحدود هي التي ميزت شكل المواجهة بين العرب والفلسطينيين من جانب، وبين المستعمرين البريطانيين والإسرائيليين من جانب آخر. ومنذ 1948 وحتى العام 1968 كانت السمة الأبرز هي التوجه للأمم المتحدة والمطالبة بتطبيق قراراتها، كما شهدت أشكالا للمقاومة المدنية؛ مسيرات، مؤتمرات وإضرابات ضد التوطين وضد الأحلاف العسكرية.

ومنذ عام 1968 وحتى انتفاضة عام 1987 كان العمل الفدائي والكفاح المسلح هو السمة الأبرز، وبين عام 1988-1993 كانت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بكل مكوناتها من أساليب المقاومة المدنية هي الشكل الرئيس للمواجهة. بعد أوسلو تمت مأسسة الصراع من أجل احتوائه واستيعابه من قبل النظام الإسرائيلي؛ حيث بدأت الصورة بالتغيير مع اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول 2000. ومنذ ذلك التاريخ اتسمت المواجهة بتعايش أشكال متعددة للمواجهة، لكن طغت صورة المواجهة المسلحة العنيفة على هذه المرحلة حتى الآن، وغالبا ما كانت السياسة الإسرائيلية هي المسئول المباشر عن طغيان العنف على هذه المواجهة.

بعد الاستعراض السريع لمحطات المقاومة الفلسطينية ضد استعمار فلسطين؛ لا بد من تأمل بعض المفاهيم والدروس التي تساعد على فهم هذا السياق المتنوع، وهذه التجربة الغنية للكفاح الفلسطيني، وما هي العوامل المحلية، الإقليمية والدولية التي تحدد أشكال النضال؟؟ وكيف نقيم فعالية أشكال النضال المختلفة؟؟ وكيف يتوجب التعامل معها ضمن استراتيجيات ناجحة؟ وبالتحديد ما هو الشكل النضالي الملائم للمرحلة الحالية والمقبلة؟

حقا، يصعب الإجابة على كل هذه الأسئلة في إطار مقالة، وخاصة أن موضوعة أشكال النضال تثير جدلا دائما على كافة المستويات الدولية والفكرية، منها ما يتناولها على أساس مدى مشروعيتها، وغيرها على أساس مدى الجدوى والفعالية ومدى قدرتها على إجبار العدو على التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني، أو قدرتها على ردع الجلاد وحماية الضحية. ومما يزيد من تعقيد المسألة هو طبيعة العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي تستخدم كل وسائل القتل الفتاكة كسبيل رئيسي لإحكام سيطرتها وهيمنتها على الشعب الفلسطيني ومصيره، وطبيعة الاستعمار الإسرائيلي العنصري الإحلالي-الاقتلاعي الذي يهدف للسيطرة على الأرض ذاتها واستبعاد أصحابها الأصليين، وليس مجرد استغلال موارد البلاد كما في الاستعمار التقليدي غير الاستيطاني. وما يزيد من صعوبة المعالجة الهادئة هو ارتهان إسرائيل لأعظم قوة مادية في تاريخ البشرية، الولايات المتحدة، مما يجعل الجهود الدولية للبحث عن حل لهذا الصراع الدامي، إما أنها تذهب أدراج الرياح أو تميل للضغط على الشعب الفلسطيني لقبول المنطق الإسرائيلي، مما يزيد في استعصاء البحث عن حلول بالطرق السلمية.

في أشكال النضال ومحاولات التعميم

عندما تنجح تجربة كفاحية في مكان ما، يميل الكثير من الناس وخاصة المفكرين والثوريين والسياسيين إلى الاستفادة منها أو تعميمها أو نقلها إلى بلدانهم، وذلك بدون تمحيص وتدقيق وحتى بدون التعمق في مقدماتها وخلفياتها، فغالبا ما يتم النظر إليها في مرحلتها المزدهرة أو الفترة الزمنية التي تحقق حركة ما النصر عبر استخدام إستراتيجية أو تكتيك معين. فبعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 في روسيا جرى ميل عالمي لدى الثوريين لتبني إستراتجية الانتفاضة المسلحة، ولكن ذلك المثال لم يتكرر بنفس الشكل أبدا، وما أن نجح أسلوب حرب الشعب من الريف إلى المدن في الصين حتى وجد من يتبناه وينظر له ويحاول تعميمه، ولكن لم يتكرر أيضا. كوبا ثم فيتنام طبقتا حرب العصابات والحرب الشعبية المسلحة بأشكال أخرى وجدت لها أنصارها ومن يحاول أن يعممها أيضا. والبعض يشير إلى تجارب الكفاح المسلح ضد الاحتلال النازي في بعض الدول خلال الحرب العالمية الثانية كتجارب مهمة، بالرغم من كونها نوع من العمل وراء خطوط العدو كعنصر مساعد للجيوش المحاربة. وهناك من دعا بالنسبة لفلسطين المزاوجة بين الحرب النظامية (جيوش عربية) مع حرب شعبية فلسطينية. وأيا كانت المسوغات والدعوات التي ترى أفضلية لشكل على آخر، أو تصر على تقديس نموذج بعينه فإنها تظل ضيقة وقاصرة نظريا عن معالجة الصورة الأشمل؛ خاصة في الصراعات الطويلة والمعقدة. فمعظم الشعوب المكافحة ضد الاستعمار والاستغلال خاضت أشكال عديدة من الكفاح والمواجهات مع مضطهديها، سواء تعايشت تلك الأشكال معا في مرحلة معينة أم تتابعت عبر مراحل الكفاح الطويلة.

ويدور الحديث كثيرا هذه الأيام عن تجربة غاندي في المقاومة المدنية السلمية في الهند ضد التاج البريطاني، وعن تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، وفي كلا التجربتين الهندية والجنوب أفريقية عناصر متشابهة مع اختلافات وإن كانت المقاومة السلمية المدنية طاغية في الهند أكثر منها في جنوب أفريقيا. مع العلم أن كلا التجربتين تطورتا في سياق تاريخي طويل، واحتوت على أشكال متعددة للنضال إلا أن الشكل الحاسم كان المقاومة المدنية السلمية هي التي قادت تحقيق أهداف الحركتين التحرريتين. مع التأكيد على وجود الكثير من المعطيات والوقائع التي تشير إلى أوجه شبه كبيرة بين نظام الأبارتهايد السابق في جنوب أفريقيا وبين النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي، مع ضرورة التحذير من محاولة تعميم النموذج الجنوب الأفريقي في مطلق الأحوال؛ لكن يتوجب الاستفادة من الدروس الغنية لتلك التجربة.

ومع تناول التجارب المختلفة حول العالم، يجدر التأكيد أنه لا يمكن لحركة ما أن تقرر ما هو شكل النضال الرئيس؛ فأشكال الكفاح المختلفة تتقرر وفقا للعديد من العوامل المعقدة وضمن سياق تاريخي، وتتصل هذه العوامل بطبيعة الصراع وطبيعة العلاقة بين طرفي الصراع، وعوامل لها علاقة وطيدة بثقافة طرفي الصراع، والوسائل المستخدمة في السيطرة، والبدائل المتاحة للحركة التحررية مع الابعاد الإقليمية والدولية...الخ. وبالتالي لا يمكن تعميم أي شكل من نهاية ما أو في فترة نجاحه، وتطبيقه على حالة أخرى مهما كانت درجة التشابه بينهما؛ لأن ما يختزنه الشعب والحركة التي تقوده من تجربتها وثقافتها وتاريخها، وكذلك الطرف الآخر للصراع، يكون لها الدور الحاسم في سلوك طرفي الصراع، ومها بلغت المهارة لدى أفراد بعينهم ومدى معرفتهم ورغبتهم في تطبيق نموذج معين مارسته حركة أخرى في قيادة شعب ما، فإن ذلك لن ينجح أو يفيد في سياق الحالة التاريخية ومستوى تطور حركة شعب آخر. وعليه فإن الاستفادة من دروس الآخرين هو أمر ضروري ومشروع وله فائدة كبرى، وهو مختلف عن تعميم أشكال معينة أو محاولة نقلها وتبنيها كإستراتيجية مناسبة لكل الحالات أو كعقيدة أيديولوجية، فهذا سيكون خطأ قاتلا وغير ذي قيمة في الواقع الخاص.

تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة ومنظمة التحرير الفلسطينية

تؤكد تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة أنها، أيضا، تأثرت بتجارب الشعوب الأخرى. فمع بدايات تشكيل أنوية الفصائل الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات؛ تأثرت القيادات الفلسطينية بتجربة الحرب الشعبية المسلحة الناجحة في الصين، كما تأثرت بتجارب فيتنام وكوبا والجزائر، وفي ظل غياب أي دور فعال للأمم المتحدة ومع هزيمة الأنظمة العربية عام 1967 وصلت الفصائل الفلسطينية المكافحة إلى نتيجة مفادها أن العمل الفدائي هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين مستلهمة ذلك من تجارب عالمية.

جاء في المادة التاسعة من الميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968 أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك إستراتيجية وليس تكتيكا. ويؤكد الشعب الفلسطيني تصميميه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح والسير قدما نحو الثورة الشعبية لتحرير وطنه والعودة إليه..." وجاء في المادة العاشرة "العمل الفدائي يشكل نواة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية، وهذا يقتضي تصعيده وشموله وحمايته، وتعبئة كل الطاقات الجماهيرية والعملية الفلسطينية وتنظيمها وإشراكها في الثورة المسلحة". وجاء في المادة 21 "الشعب العربي الفلسطيني معبرا عن ذاته بالثورة المسلحة يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا، ويرفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية أو تدويلها".

وفي المادة 29 "المقاتلون وحملة السلاح في معركة التحرير هم نواة الجيش الشعبي الذي سيكون الدرع الواقي لمكتسبات الشعب العربي الفلسطيني". وجاء النشيد الوطني الفلسطيني ليعبر عن نفس الاتجاه: "بلادي بلادي ... يا أرض الجدود. فدائي فدائي... سأمضي فدائي وأقضي فدائي.. إلى أن نعود". ومن ثم أغاني وأناشيد الثورة الفلسطينية تشدد على تمجيد الفدائيين والعمليات الفدائية ؛ ولكنها غالبا ما ركزت على تمجيد البطولات الفردية؛ وعلى تمجيد القادة كأفراد أيضا.

وجاءت عملية تعديل الميثاق عام 1996 في الدورة الحادية والعشرين في غزة "إن المجلس الوطني الفلسطيني.. إذ ينطلق من وثيقة إعلان الاستقلال والبيان السياسي المعتمد في الدورة التاسعة العشرة المنعقدة في الجزائر في 15 نوفمبر 1988، والتي أكدت مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية واعتماد مبدأ الدولتين"، .... "وبناء على اتفاقية مبادئ أوسلو، ومرجعية مدريد...الخ". يقرر المجلس دعوة اللجنة القانونية إلغاء مواد الميثاق التي تتعارض مع هذه التطورات وتقديم التعديلات للمجلس المركزي لإقرارها.

صحيح كان العمل الفدائي الرافعة الرئيسة للكفاح بين أعوام 1968 و 1988، وقد عبر في سنواته الأولى عن استعداد عال لدى الشباب والرجال والنساء الفلسطينيين للالتحاق بصفوف المقاومة، إلى الحد الذي لم تكن الفصائل قادرة على استيعاب هذه الأعداد أو تفعيلها والاستفادة من طاقتها. ولكن في هذه المرحلة أيضا تطورت أشكال الكفاح السلمي الجماهيري في داخل الأرض المحتلة 1967 كما في داخل فلسطين المحتلة عام 1948، تدريجيا من يوم الأرض والدفاع عنها إلى حركة متواصلة ممتدة شملت مقاومة الاستيطان، إضرابات الأسرى وحركة الجماهير المتضامنة معهم، كفاح العمال والنقابات المختلفة ضد إجراءات الاحتلال بحقهم وبحق نقاباتهم، حركة معلمي القطاع الحكومي، والمدارس الخاصة في القدس، وكفاح الطلبة الفلسطينيين ضد قيود الاحتلال على الحريات الأكاديمية، وحركة العمل التطوعي الواسعة، وكفاحهم معا ومع المرأة الفلسطينية ضد الاستيطان ومشروع الحكم الإداري الذاتي ومشروع روابط القرى وخطة التقاسم الوظيفي، التوعية والتثقيف والتنظيم، تنظيم المسيرات والإضرابات والمؤتمرات وإحياء المناسبات الوطنية...الخ. كانت هذه الأشكال الكفاحية تلفت باستمرار اهتمام وسائل الإعلام وتجند الأنصار والمؤيدين، كما تستجلب قمعا قاسيا من جانب سلطات الاحتلال التي كانت ترد على أي نشاط سلمي بالاعتقالات،و منع التجول والعقوبات الجماعية وفرض نقاط التفتيش والقيود على الحركة، وإطلاق النار على المتظاهرين العزل وممارسة القتل، في محاولات للسيطرة بالقوة على نمو حركة شعبية سلمية لمقاومة الاحتلال؛ فكانت الانتفاضة الأولى (1987) جامعة لكل هذه الأشكال الشعبية للمقاومة المدنية، وشكلت نقطة تحول وسيادة لشكل المقاومة الشعبية الفلسطينية غير المسلحة، وإن تخللها عنف شعبي عفوي، ومنظم أحيانا؛ مثل استخدام الحجارة والزجاجات الحارقة.

انتفاضة 1987: نموذج للمقاومة الشعبية المدنية

اشتملت انتفاضة عام 1987-1993 على أوسع مشاركة شعبية فلسطينية وتميزت بطابعها الديمقراطي العميق؛ حيث المبادرة الجماهيرية والمشاركة الشعبية في تحديد أهدافها،وفي برامجها وآليات عملها، بحيث توفر تناغم كبير بين قيادتها وجماهيرها،وقد تجلى ذلك في الالتزام ببيانات الانتفاضة وبتعليماتها، وفي التضامن والتكافل الاجتماعي العميق، والإحساس الشامل بالأمن والأمل، كما في الشعور بالانتماء والحرص على المصلحة العامة...الخ.

قامت الانتفاضة على قاعدة التنظيم الاجتماعي الفلسطيني المستقل؛ تفتح الأسواق متى يقرر الفلسطينيون، وليس متى يقرر جيش الاحتلال، تغلق الطرق متى أرادت قيادة الانتفاضة وجماهيرها، يذهب العمال للعمل وفقا لقرار الانتفاضة، وصولا إلى الامتناع عن دفع الضرائب وأشكال من العصيان المدني الشامل، كما في تجربة بيت ساحور وغيرها. وكان لها عدة ركائز سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تستند إلى تجاوب وفعالية ومبادرة الجماهير الفلسطينية، كأساس لكل إنجازاتها. ان تجربة الانتفاضة الأولى توجت مخاض طويل في مسيرة الكفاح الفلسطيني؛ وتؤكد أن لا فرد ولا حزب ولا حركة مهما بلغ ذكاؤها، يمكن أن يقرر شكلا معينا وحيدا للنضال التحرري. فما كتب في الميثاق الوطني، وما كتب في أنظمة وأدبيات الفصائل لم يجد طريقه إلى التطبيق سوى في فترات محددة، ولم تنسجم الممارسة مع المعاني التي قصدت، كما أن الدعوة عام 1996 لإلغاء بنود في الميثاق الوطني التي لا تنسجم مع رسائل الاعتراف المتبادل واستحقاقات أوسلو؛ لم تمنع من اندلاع موجة جديدة من المواجهة، غلب عليها الطابع المسلح، وإن وجدت أشكال أخرى مرافقة فلم تحظى بالاهتمام اللازم من قبل وسائل الإعلام، التي وربما بسبب سيطرة الإعلام الغربي المناصر لإسرائيل ترغب دوما في التركيز على العنف. واليوم، ومع تلاشي فرص التسويات السياسية، ومع مأسسة المواجهة مع حماس بعد مأسستها سابقا مع منظمة التحرير الفلسطينية، وما توفره عملية المأسسة للاحتلال وللنظام العنصري الإسرائيلي من فرص للاحتواء والسيطرة، وفتح الشهية للتفكير في بلورة "قيادات معتدلة" كما عملت دوما؛ ويضاف لذلك كله، ما آلت إليه القوى المسلحة من تدهور في نظرتها للصراع، وعملية تحويل الكثير من المقاتلين ضد الاحتلال، إلى مقاتلي مصالح فئوية ضيقة ضد الداخل الفلسطيني؛ كل ذلك يدفعنا لدعوة كافة القوى المناضلة والمناضلين، ومؤسسات المجتمع المدني لإعادة تنظيم الذات في حركة مقاومة جماهيرية غير مسلحة (مدنية)، مستفيدين من تجربة كفاح شعبنا الطويلة، ومن تجارب الآخرين في هذا المجال. فالنتائج التي حققتها انتفاضة عام 1987 في عدة سنوات، وحجم الخسائر القليلة قياسا بالأشكال الأخرى ونتائجها، تؤكد لنا مدى فعالية أسلوب المقاومة الشعبية المدنية. وقد استخدمت قوات الاحتلال في حينه كافة الوسائل المتاحة أمامها لوقف الانتفاضة لكنها لم تتمكن، فذهبت إلى مدريد ومن ثم لمفاوضات أوسلو، ورغم أن إسرائيل راوغت إلا أنها اضطرت للتعامل مع القيادة الفلسطينية والاعتراف بـ "م ت ف"، الأمر الذي مهد لمرحلة أوسلو وما بعدها. وبالطبع هذا لا يسقط ضرورة تقييم مرحلة أوسلو والاستفادة من دروسها وعيوبها.

لماذا المقاومة الشعبية المدنية؟

المقاومة الشعبية المدنية (غير المسلحة) تستطيع ممارسة النضال على جميع الجبهات المفتوحة والضرورية وبأقل الخسائر؛ بدءا من العمل السياسي مرورا بالجبهة: الثقافية -الفكرية، والاقتصادية، وانتهاء بالاجتماعية-التنموية. والمقاومة الشعبية غير المسلحة هي الأسلوب الذي يستطيع شعبنا من خلاله الاستفادة من جميع الموارد والطاقات البشرية في الوطن وفي المنافي، يستطيع أن يشترك فيها الرجال والنساء، العامل والمزارع، الطفل والشيخ، وكل صاحب مهنة وكل ذي موهبة، كل صاحب علم، وكل من يمتلك شعورا إنسانيا، ولذلك فهو الشكل الأمثل لتعبئة كل الطاقات الفلسطينية والمساندة لها. ويجب أن تستند هذه المقاومة إلى ثبات مطلق على مبادئ سياسية واضحة وأهداف محددة، وأن تستند إلى رؤية إستراتيجية واضحة للمستقبل. المرونة والمبادرة مطلوبتان، فالتركيز على شكل المقاومة الشعبية المدنية لا يعني أبدا التخلي عن خيارات وبدائل أخرى؛ لكن الاستعداد لخيارات أخرى شيء، واللجوء إلى استخدامها في أي وقت ولأي سبب هو شيء آخر، وقد ينطوي على أضرار لا يمكن إصلاحها.

حكومات العالم تتخذ القرارات السياسية، ولديها جيوش، تستطيع أن تستخدمها في الحروب والمواجهات، وتستطيع أن تحاصر أو تهزم مجموعات مسلحة أو جيوش أخرى، ولكن كيف يمكنها أن تجبر الناس على استهلاك نوع معين من العصير أو الفاكهة؟ عندما يرغب الناس بمقاطعة خدمات معينة أو الإضراب، الاعتصام، أو الصيام؛ كيف يمكن للحكومات أن تتحكم في إرادتهم؟؟ هنا بالضبط يكمن مصدر قوة المقاومة المدنية لأنها تعتمد على الإرادة الحرة للفرد وقوته الروحية، كما تعتمد على العمل الجماعي الواسع والمشاركة لكل الألوان والأطياف والأعمار والمهن، وكلما اتسعت كلما أصبحت أكثر تأثيرا. وفي ظل المرحلة التي تسيطر فيها الولايات المتحدة على القرار السياسي الغربي الذي يمكن أن يؤثر على إسرائيل؛ يتوجب التطلع إلى قوة الرأي العام العالمي، والمجتمع المدني العالمي والحركات المناهضة للعولمة؛ بأنها قوة صاعدة ومهمة، ويمكنها أن تصبح حاسمة التأثير إذا ما تمت الاستفادة منها بشكل فعال، وجعل المقاومة الشعبية الفلسطينية هي الأكثر تأييدا وقبولا في أوساطها، وتحقيق ذلك يتطلب إعادة الاعتبار للبعد الشعبي-الديمقراطي للمقاومة الفلسطينية عبر اعتماد أساليب المقاومة المدنية.

أمر آخر يجب التوقف أمامه؛ وهو أن إسرائيل استغلت بشكل فعال العمليات التي يسقط فيها مدنيون إسرائيليون، أو إطلاق الصواريخ الفلسطينية البدائية، من أجل عزل الشعب الفلسطيني ومحاصرته عالميا. وهذه العمليات التي تأتي غالبا في إطار رد الفعل على الاعتداءات الإسرائيلية المخططة، غالبا ما تستغلها إسرائيل لتنفيذ مخططات أخرى تتعلق بالأرض والبنية التحتية الفلسطينية، عوضا عن استهداف المناضلين الذين "لا تأمن جانبهم"، وسواء كانوا من المقاتلين أم من المدنيين الذين تلصق بهم تهمة "النية للقيام بعمل ضد مدنيين إسرائيليين"، أي تغتال وتقتل على النوايا ، ولا أحد يراجع الناطق العسكري الإسرائيلي عن موهبته الخارقة في معرفة النوايا الفلسطينية بالتفصيل؟! وعوضا عن ذلك لا يسأل الفلسطينيون أنفسهم عن ذلك أيضا! ولا يقومون بتكذيب مسبب وذي دلالة للإعلانات الإسرائيلية المتكررة المبررة للقتل. وفوق كل ذلك، ورغم محدودية أثر الصواريخ الفلسطينية، تصورها وسائل الدعاية الإسرائيلية والمؤيدة لها وكأنها سلاح مواز للقوة النووية الإسرائيلية، وكأن وجود دولة إسرائيل أصبح مهددا. وقد مكن ذلك إسرائيل من تصوير حربها على الشعب الفلسطيني كحرب على "الإرهاب" وكأنها موازية لحرب الولايات المتحدة على "الإرهاب". وهي تمكن إسرائيل، في النهاية، من التهرب من استحقاقات يفرضها القانون الدولي وفتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار...الخ.

أما على مستوى الداخل الفلسطيني؛ فرغم الشعبية التي تحظى بها عمليات المقاومة المسلحة حتى الآن؛ بسبب عدم وجود سبل أخرى للرد على الاعتداءات الوحشية التي يمارسها الاحتلال، فإن استمرار ردود الفعل الفلسطينية الارتجالية يدفع الغالبية العظمى من الفلسطينيين العاديين إلى التفكير بأن هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الاحتلال، وانه لا دور لهم سوى انتظار نتائج هذه المواجهات. ولذلك على القوى الفلسطينية أن تتحرر من عقلية رد الفعل والعفوية والخوف من عدم إثبات الذات "نحن هنا"!، وتتطلع إلى أهمية الضبط التام للنفس والسيطرة على الذات، والنظر في ممارسة طرق النضال الشعبية والجماهيرية المشروعة؛ من أجل كسب معركة الدعاية أولا؛ وإشراك كل فئات الشعب في الكفاح وفي القرار ثانيا، وحتى يعاد الاعتبار للفروق بين الجلاد والضحية ثالثا. مما يمكن من الانتقال من حالة ردود الفعل إلى حالة الفعل المنظم المخطط واضح الأهداف، وفي إطار إستراتيجية مدروسة وواضحة، وأية استراتيجيات مرافقة أو بديلة يمكن الاستعداد لها بالتنظيم والجاهزية المناسبة لحجم وطبيعة الصراع.

مدخل عملي: حملة لمقاطعة إسرائيل وعزلها

يمكن لشعار مقاطعة إسرائيل، سحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، حتى تلتزم بقواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة أن يكون مدخلا لكل الراغبين بالمشاركة في مسيرة الكفاح الفلسطيني ليساهموا بمبادراتهم وإمكاناتهم. وأهم ما يميز هذه الحملة عما سبقها أنها تضع نهايتها فقط عند تحقق الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتطبيق فعلي لقرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، أي عودة اللاجئين واستعادة أملاكهم وتعويضهم، وتحقيق المواطنة الكاملة والمساواة التامة لفلسطينيي 1948، واللاجئين الذين سيعودون لديارهم الأصلية ضمن دولة إسرائيل. وبالتالي هي تقدم أهدافا واضحة، بعيدة المدى؛ كما تقدم منهجية الحملات للعمل من أجلها، ويتسع نطاق الحملة على مستوى العالم، لكن مطلوب فعالية فلسطينية أكثر؛ وخاصة من قبل القوى السياسية، بحيث لا تبقى الحملة في نطاق المؤسسات غير الحكومية فقط، بل يجب أن تشمل كل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. وهي تحتاج إلى ترويج ثقافتها، وشعاراتها العامة، كما تحتاج إلى مبادرة محلية يومية.

والحملة هي احد أشكال المقاومة المدنية، ويمكن لأشكال المقاومة المدنية أن تكون فعالة جدا في مجالات عديدة تتصل بالعلاقة بين الشعب الفلسطيني وممارسات الاحتلال، يمكنها أن تعالج القيود على حركة السلع وقوة العمل، متابعة الكفاح ضد التوسع الاستيطاني، ضد عزل وتهويد القدس، التضامن مع الأسرى، مبادرات تنموية وعمل تطوعي، ....، كل شيء وكل الناس يمكن أن يحددوا أهدافا ويعملوا معا لانجازها بطرق سلمية وعبر المشاركة الشعبية، متحررين من الخوف والتردد والإحساس بفقدان الأمل، والانعزالية والتفكير في الهموم والمصالح الشخصية. ويمكن للنتائج الايجابية للمقاومة الشعبية المدنية أن تظهر فورا، ليس على صعيد الأهداف السياسية الكبرى بعيدة المدى، بل على صعيد المساهمة في تحسين ظروف الحياة واحترام الذات والتضامن بين أفراد المجتمع، وفي تزايد المشاركة الشعبية وارتقاء مستوى الوعي... نتائج عديدة تظهر سريعا وأخرى تحتاج إلى الكثير من الصبر وطول النفس وقوة الإرادة لمراكمتها.

الائتلاف الفلسطيني لحق العودة، لجان مناهضة التطبيع، لجان المقاطعة، مؤسسات وقوى المجتمع المدني المختلفة بما فيها الفصائل السياسية خارج السلطة، حركة التضامن العالمية، كلها معا يمكن إن تشكل جبهة متحدة ضد النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي، وفي إطار شكل المقاومة الشعبية المدنية. وهي تقوم بذلك الآن فعليا؛ لكن تحتاج إلى التقدم نحو إستراتيجية واضحة، مع توحيد صفوفها أكثر، كما تحتاج إلى قيادة فلسطينية تعطيها الدعم وتعطيها الثبات السياسي الراسخ على الحق والهدف. كما يساعدها التوقف الفلسطيني التام عن القيام بأعمال تستغلها إسرائيل في دعايتها، وإلى درجة عالية من ضبط النفس، حتى لو قامت إسرائيل بارتكاب الجرائم، فهي فعلت وستفعل المزيد منها. فالشعب الفلسطيني جزء من البشرية يتمتع بأخلاقيات وقيم إسلامية وعربية منحازة بقوة؛ للحرية والعدل والمساواة والسلام، وعدالة القضية الفلسطينية واضحة كالشمس، ومع ذلك؛ يبدو أن على الفلسطينيين أن يجدوا حلولا وطرقا لكل شيء يتعلق بمستقبلهم، وأن عليهم أن يشرحوا ويبرهنوا مرارا وتكرارا عن صدقهم وعدالة قضيتهم، يجب ان يعمل الفلسطينيون وفقا لقاعدة أن أحدا لن يتذكر عدالة قضيتهم عندما يخطئون، وأن لا أحد يتذكر جرائم إسرائيل عندما يرد الفلسطينيون عليها بالمثل. وعليه، لا بد من إدراك كل المعادلات وموازين القوى؛ إدراك حجم وطبيعة القوة والضعف الموجودة لدى شعبنا، وحجم ونقاط ضعف وقوة عدونا، وكل الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية لنشاطاتنا؛ وإلا لن نتقدم للأمام مهما بلغت بلاغة شعاراتنا وخطاباتنا ومها بلغ صدق نوايانا.

  سالم أبو هواش










التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !