التجربة الإنسانية والتحولات التاريخية واسبابها:
لقد استخلص ابن خلدون العبرة الكبرى أن العلم يمثل أكبر استثمار للعقل البشري لبلوغ درجة الكوكبية في زمن أجداده، وأن التخلي عن هذا الاستثمار سبّب "كارثة" سقوط العرب والمسلمين صرعى أمام الأمم والممالك والدول المطالبة بإعلان ورثة التركة العلمية ومواردها البشرية بقدر تناغمهم مع الوجهة الغالبة والمقلدة لها.
فاذا سلمنا بهذا التصور فاننا نجد أن نقطة بناء النظرية الخلدونية متمثلة في الأساس بمنطق الضعف عند الفئات المضطربة من الأمة والمملكة والدولة التي حدثت في القرن الرابع عشر وها هي تحدث الآن في القرن الواحد والعشرين حيث بلغت الأمة والمملكة والدولة العربية المعاصرة الحزام الخطر مع الدول المسماة بالنامية( العالم الثالث) الذي هو قمة الاضطراب الذي يعني الاقتراب من حالة الفوضى .
وعندما طرح ابن خلدون مفهوم العصبية فهو من باب التعليم والأخذ بالأسباب والمسببات في نشأت الأمم والممالك والدول وبناء الحضارة الكوكبية المنيعة، فهو يعتبر أن كل من يملك عصبية أكثر يملك سلطة أطول . ويعتبر مفهوم العصبية عند ابن خلدون محركا للتاريخ،
وهنا تعتبر الخشية(حساب النتائج) والشجاعة منطق الكوكبية على مرّ العصور، والحال أن الخشية تولد الدفاع والسياسة عن قصد أو غير قصد وكذلك تفعل الشجاعة (العصبية) في التوحش والتغول نحو الهيمنة والرئاسة.
فنظرية ابن خلدون حول تداول الأمم والممالك والدول، تبرهن لنا اليوم على مبدأ الدور الطبيعي في تشكل الأمة والمملكة والدولة المعاصرة . وان هذا المبدأ يتمثل بوجود حالة من الإضطراب يعقبها حالة من الفوضى الشديدة بين القمة المسببة للإضطراب والقمة المسببة للفوضى ليتمخض عنهما أدوارا اجتماعية جديدة متوازية في النشاط الفعلي والتأثير على المجموع أو القاعدة المتمثلة بعامة الشعب, كما إن عملية السيادة على القاعدة لا تعني نظام الحكم، فيكفي لقلة استراتيجية أن تملك من القوة والنفوذ والثروة أو تنفيذ عملية اغتيال وقتل لعناصر القيادة أن تنفي شرعية الشعب والمُلك السابق .
كما انه لابد من ان نشير الى ان المقصود بالعصبية هو القاعدة التي يبنى عليها نظام الحكم وهو في زمن ابن خلدون هو الانتماء القبلي ,اما في عصر العولمة فقد تغيرت القاعدة التي يستند اليها نظام الحكم وتحولت الى اشكال اخرى مختلفة حسب طبيعة وتطور المجتمع في مراحل التطورات الاجتماعية كالمجتمعالقبلي او الصناعي او مجتمع عصر المعرفة حيث يحل مفهوم القوة محل العصبية والمثقف مكان القاعدة والدولة بدل سلطة الحكم .
قمة صعود النسق الحضاري
ولعل المنهج العلمي هو مايميزدراسة التاريخ الاجتماعي المعاصر بالتفاعل بين الماضي والحاضروأن كل ما أنتجته البشرية منذ اول نشوئها بدا معلوم بما دون في الكتب التاريخية وبالمشاهد الكثيرة والمثيرة باستمرار.
ولعل اهم مايؤرق الباحثين هو"الكابوس" الذي يهدد أمل الانسان في البقاء على ظهر البسيطة بمجرد تخليه عن التفكير أو نسيان خبر اندثاره كفناء مؤجل بقصد(نزعة الارادة للانسان) أو دون قصد(الموت الطبيعي للإنسان)
واما الفناء المعجل وهو موضوع بحثنا هنا فهي حالة عدم الاستغلال الفعلي للقوى العقلية والحركية الجسمية ونهاية الانجاز الفعلي المستغل والحقيقي. والذي يفصله عن المؤجل برهة زمكانية حاسمة
فالفرق بين السقوط الحضاري والاستمرار الحضاري البرهة الزمكانية الحاسمة وهذه النقطة الحاسمة تمثل قمة صعود النسق الحضاري الذي تبدا بعده الدولة بالانحدار.
و تكون الدولة الكوكبية اهلة للسقوط عندما يصبح الكائن الاجتماعي عالة على تقنية الآخرين وعلمهم وحضارتهم وتأمين حاجياتهم الأمنية والعلمية والغذائية....الخ منتقلة من حالة القوة إلى حالة العوز والضعف والانحطاط. ومعنى ذلك أن كل الأمم معرضة وفق هذه الصورة الطبيعية إلى السقوط والفناء.
واذا كان الضمون الحقيقي من الوجود الكوكبي هو الانسان، فأن الإنسان العالمي مسخّر إلهي مليء بالحيوية والنشاط المقنن لبرهة زمنية عمرية معينة سرعان ما يندثر في عصره وحضارته، وبالتالي لا معنى له على الإطلاق في الوجود اذا لم يستطع صناعة التاريخ مما يؤدي الى زوال الحضارة, وهذا ينطبق على كل المجتمعات .
في الواقع أن هذا التفسير قد يشكل طرحا فلسفيا نحن بغنى عنه لكن ما يهمنا هو أن ما ينجزه الإنسان الكوكبي في برهة زمنية وعمرية معينة أثّرت في بني البشر لا يمكن أن تندثر من الوجود بسهولة . وقد يقاس على ذلك الأعمال التي ينشط بها الناس من حيث فائدتها على بني الإنسان والتي تعتبر مركز التحولات في التاريخ وهي التي تعبئ المجتمعات نحو التقدم العلمي والمعرفي وقيادة التاريخ وتترك مجالا واسع النطاق للأجيال الصاعدة من الاستمرار في النهوض بالواقع الكوكبي .
لقد استخلص ابن خلدون العبرة الكبرى أن العلم يمثل أكبر استثمار للعقل البشري لبلوغ درجة الكوكبية في زمن أجداده، وأن التخلي عن هذا الاستثمار سبّب "كارثة" سقوط العرب والمسلمين صرعى أمام الأمم والممالك والدول المطالبة بإعلان ورثة التركة العلمية ومواردها البشرية بقدر؛ تناغمهم مع الوجهة الغالبة والمقلدة له
وما يصح في هذا السياق هو أن الدول التي تعرضت للإضطراب أصابها الانهيار . لقد انتقلت التقنية المعرفية والرقمية والفنية بفعل الإضطراب وهجرة الأدمغة البشرية والمستثمرين ماليا وعلميا ونهضت بها على حساب بلدانهم وحضارتهم هم
وبسبب التهاون بالأخذ بالأسباب والمسببات والرهانات المستقبلية اصبحت امة البيان بيانا يتلى في كل صباح ومساء على مضض في أروقة وردهات المشاعر الاحتفالية بالماضي الجديد دونما إيقاظ للماضي الراهن.
فاذا سلمنا بهذا التصور فاننا نجد أن نقطة بناء النظرية الخلدونية متمثلة في الأساس بمنطق الضعف عند الفئات المضطربة من الأمة والمملكة والدولة التي حدثت في القرن الرابع عشر وها هي تحدث الآن في القرن الواحد والعشرين حيث بلغت الأمة والمملكة والدولة العربية المعاصرة حزام الخطر مع الدول المسماة بالنامية( العالم الثالث) الذي هو قمة الاضطراب الذي يعني الاقتراب من حالة الفوضى.
كما انه من الخطأ التصور بان العرب أمة لا يمكن أن تقهر أو تصاب بالشيخوخة العلمية رغم التراث العالمي المأهول الذي كانت تتمتع به والمكانة الاجتماعية وحتى إلى عهد قريب ,إلا أنها لم تكن بمقدار الدرجة نفسها التي كانت في العصر الذهبي من التقدم في شتى العلوم الصحيحة والإنسانية الذي كان سببا في تحولها نحو الدولة الكوكبية و بسبب التهاون بالأخذ بالأسباب والمسببات والرهانات المستقبلية تراجعت هذه الدولة.
فان عدنا إلى منطق امبراطورية الفوضى الناشئة في القرن العشرين المنصرم، لوجدنا حالة الدولة العثمانية وهي تنهار أمام غطرسة الاستعمار الاجنبي غير المسلم وانقسام الأمة العربية والإسلامية التي تحالفت مع الأمم والممالك والدول الأجنبية المستعمرة لها كنشطاء خلطوا بين حالتي الاضطراب والفوضى والتي سرعان ما أدت إلى اجتثاث نمط الخلافة سنة 1924. فحالة الفوضى هي ناجز مجتمعي ايجابي، بمعنى هي أقرب للثورة من أي نمط آخر.
اما اليوم فقد أصبحت تطلعات الشعوب تنصب اليوم على ظاهرة حب الفوضى المجتمعية، ولقد رأينا ذلك عند اسقاط الحكومة الاوكرانية، وفي اندونيسيا وفي لبنان وغيرهم من الدول والحكومات التي سقطت بفعل تقمص دور الفوضى الايجابي لتحقيق مكاسب جديدة للأمة والدولة المعاصرة، وإن كان لابد من استخدام القوة إما بالتنفيذ أو بالردع.
واذا كان ما نتحدث عنه هنا هو اطالة عمر الدولة والملك والذي يعني اطالة عمر الأمة على ظهر البسيطة، فان ذلك لن يكون إلا بفعل جودة العصبية الشاملة. وهنا يظهر دور الفوضويين الذين هم إما نشطاء سابقين كوكبيين في الأمة والمملكة والدولة أو نشطاء معارضين من الحاشية والأتباع أو من عامة الشعب وغيرهم مما يقوض نظام الحكم وبالتالي زوال الدولة وحلول اخرى محلها.
التعليقات (0)