التاريخ التقليدي وإعاقة الفرد اليوم
من يصنع التاريخ؟ سيجيبنا تاريخنا أن من يصنع التاريخ هم القادة والفاتحون والتجّار والخلفاء.ولذا علينا أن نسأل قبل هذا السؤال الأهم : ما هو التاريخ؟ هل التاريخ هو ما نعثر عليه في كتب التاريخ من غزوات ومعارك ومؤامرات وانقلابات وتداول للدول؟ ألا يوجد غير هذا. أو أننا كما يقول فولتير "" لم نكتب إلا تاريخ القادة ولكننا لم نكتب تاريخ الأمة.يبدو أنه لم يكن طيلة 1400 سنة في بلاد الغال إلا زعماء ووزراء وجنرالات، ولكن ألا تساوي تقاليدنا وقوانيننا وعاداتنا وفكرنا، شيئاً؟" وأزيد أنا وأقول ألا تساوي حياة الملايين من الناس شيئاً؟
ولكن هناك حجة تقول إن الناس في التاريخ كانوا هامشيين وليس لهم أثر ومن الطبيعي ألا يظهروا في التاريخ. ولكنني أقول إن التاريخ الذي تتحدث عنه هو التاريخ التقليدي، التاريخ السياسي وكلامك في هذه الحدود صحيح ولكن التاريخ أوسع من هذا. في القرن العشرين ظهرت في الغرب مداس تاريخية حديثة تجاوزت التاريخ القديم من أهمها مدارس التاريخ الماركسية ومدرسة الحوليات الشهيرة. اهتمت هذه المدارس بتاريخ من لا تاريخ لهم من البشر. فأرخت للفنانين والمزارعين والعمّال والحرفيين والطبّاخين واللصوص والفقراء والمجانين كما أرخت للأفكار والثقافات والأزياء وللمناخ والجغرافيا بمعنى أنها فتحت تاريخا لكل شيء أو فتحت بوابة التاريخ ليدخل معها الجميع بعد أن كانت حكرا على الطبقات العليا من المجتمع.
عربيا لا تزال المدرسة التاريخية التقليدية هي المسيطرة ولا يزال باب التاريخ العربي لا يسمح لأغلب الناس بالدخول مع بوابته المجيدة ولهذه الحال نتائج مدمرة كبيرة سأتحدث هنا عن واحدة منها ربما تكون أساسية وهي أن التاريخ التقليدي يقنع الإنسان بأنه غير مؤثر في الحياة فالتاريخ الذي يعيش فيه يقول له إن الأحداث والتطورات يصنعها أناس من طبقة أخرى، فإن لم تكن قياديا ولا زعيما من أي أنواع الزعامة، ولا ثريا فأنت خارج دائرة التأثير. بينما يقول ماركس " إن الناس يصنعون تاريخهم،ولكنهم لا يعرفون أنهم يصنعونه" وهذا يعني أنهم لا يملكون وعي توجيهه وتغييره فالوعي ينقصهم. وماركس هنا مصيب فالتغييرات في الواقع لا تتم من دون مشاركة أعداد كبيرة من الناس، فهم الذين أنجزوا كل ما حدث ولكن بدون وعيهم ولذا غابوا عن الصورة.
الوعي بالدور التاريخي للفرد هو سرّ فعاليته. ومن ثمرات التاريخ الجديد أن الناس علموا، أيا كانت أدوارهم، أنهم صنعوا التاريخ أو تاريخهم الخاص على أقل تقدير. أي أنهم كائنات لها تاريخها الخاص وليست بالضرورة مجرد قطعان في تاريخ صنعه آخرون. فالبقّال وكاتب المقالة الفرنسيان شاركا في الثورة الفرنسية والمزارع الأمريكي شارك في الثورة الأمريكية والبرجوازي الإنجليزي صنع بريطانيا الحديثة والناشر الألماني شارك في النهضة الألمانية ..وقس على هذا من الفعاليات المتنوعة التي شكلت صورة الواقع الحالية.
التاريخ الجديد يلغي أسطورية الماضي ويخضعها لظروف الواقع فالأحداث في الماضي لا تقع إلا وفق نظام الواقع وداخل شبكة الأسباب الواقعية التي يمكن التوصل إليها وهو بهذا يتجاوز الصورة التقليدية للتاريخ التي لا تعنى إلا بالأحداث وتقدمها مفصولة عن أسبابها الواقعية مما يضفي عليها صورة أسطورية يشعر الفرد بالجلال تجاهها وبالعجز أيضا عن مجاراتها وكأن رسالة التاريخ التقليدي تقول: هذه الإنجازات استثنائية ولا يمكنك القيام بمثلها، لا عليك سوى أن تشعر بالعظمة والجلال وتفاهة الذات.
التاريخ يخلق وعي اليوم بمعنى أن غالبية الناس يتعاملون مع التاريخ باعتباره النموذج الذي سيسير عليه الواقع اليوم ولذا فهم يبحثون في التاريخ عن إجابات اليوم ومن هنا خرجت فكرة أن " التاريخ يعيد نفسه"، تعامل الإنسان مع التاريخ بهذا المنطق يجعله أسيرا للتاريخ ذاته، الذي لا خروج منه. وبالتالي فإن التاريخ الذي يهمّش غالبية الناس ويحصر الضوء في عدد بسيط من الأفراد يؤسس لإحباط العموم وضعف همّتهم ويعيق روحهم الإبداعية المتوقدة. إنه يقتلها مبكرا بفكرة التهميش التي كانت في التاريخ ويجب أن تستمر. ولكن من يقول للناس إن هذا ليس التاريخ كلّه. إنه جزء بسيط من حركة التاريخ الكبيرة التي تحرّك فيها عدد كبير من الناس. كل أفراد المجتمع يشاركون في مجتمعهم وقصص النجاح التي نسمعها لم تكن أبدا نتيجة لعمل فرد واحد إنها قصة نجاح تشمل عددا كبيرا من الناس. لم يكن غاندي وحده ولا مانديلا ولا غيرهم من القادة، كان معهم فعاليات مختلفة،صحيح أن التاريخ همّشها كثيرا ولكنه ابتدأ اليوم يعيد حساباته.
التاريخ بالمعنى الحديث لا يهمّش أحدا، هو يفتح الأبواب للجميع ويقدم صورة واسعة للفترة التاريخية التي يدرسها وهذا التاريخ بهذا الحجم لا يمكن أن يتحقق بدون تنظيم مؤسسي كبير بمعنى أن هذا النوع من التاريخ لا يمكن أن ينجزه أفراد وحدهم بل هو ثمرة عمل أكثر من فريق عمل متخصص فهو من جهة يحتاج إلى خبراء في الوثائق والحقب التاريخية ومن جهة أخرى يحتاج إلى متخصصين متنوعين فالتاريخ الاقتصادي يحتاج إلى مؤرخين واقتصاديين وتاريخ الأزياء يحتاج إلى مؤرخين وفنانين وهكذا. هذا السبب تحديدا هو ما يعيق دخول هذا النوع من التاريخ في الثقافة العربية فالمؤسسات المعنية بهذه المجالات من جامعات ومراكز أبحاث لا تزال تدور في رحى التاريخ التقليدي ومؤسسات المجتمع المدني لا تساعدها ظروفها في الغالب على القيام بأعمال مشابهة. في الغرب تموّل الشركات الكبرى البحوث التاريخية من أجل وضع استراتيجياتها المستقبلية ولذا لن نستغرب إذا علمنا أن شركة فورد الأمريكية تمول دراسات تاريخية في العصور القديمة...في الختام تبدو العلاقة أمامي واضحة بين سلبية المجتمعات وبين تاريخها الذي يقدم لها حين يهمّشها ولذا فإنها لن تعود اليوم فعّالة حتى ترى ذاتها فعّالة في التاريخ الماضي وهذه مهمة المؤرخين قبل غيرهم.
مقالة للكاتب : عبدالله المطيري
التعليقات (0)