مواضيع اليوم

التأريخ بين معروف الأرناؤوط وابن إسحاق ...

قفصة تونس

2009-07-13 16:55:32

0

التأريخ بين معروف الأرناؤوط وابن إسحاق ...

لما شرع (معروف الأرناؤوط) يؤلِّف روايته (سيّد قريش) لم يكن قد جدّد دراسته للتاريخ؛ وكان مستشاره (الحاج فلان)، وهو رجل قرأ في زمانه التاريخ، ونسيه، ثم نسي أنه نسيه. فكان معروفٌ كلّما سأله عن حادثةٍ من الحوادث؛ يكدّ ذهنه، وينبش ذاكرته، ويتلمس من المعلومات القديمة ما مثاله: طلع العربُ يومَ (ذي قار) من الرياض، وهجموا على الظهران، وكان يقودُهم أبو الأسود الدؤلي، الذي وضع علم الفقه، وكان بطل المعركة الوليد بن هارون الرشيد؛ الذي قال فيه المتنبي:

قاد الجيوشَ لسبعَ عشرةَ حجةٍ            كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا

ومعروفٌ يدوّن هذه الحقائق، ويجعلها دعائمَ لبنائه القصصي، ثم يصبّ فيها عبقريته الفنية، ويجمّلها بفنّه العبقريّ. (انظر: ذكريات علي الطنطاوي 1/327).
لا أظن أن على غير هذا المنوال من الوعي بما يُلقى على المسامع، والمثابرة للوصول إلى الحقيقة التاريخية كانت حال مؤرخينا الأوائل الذين تصدوا للسيرة النبوية وما بعدها، وكذلك كانت أحوال العامة –ولا تزال -في تلقي الأخبار وتصديقها ... ثم تقديسها!!
وفي الوقت الذي اكتفى من اهتم بتدوين ما صحَّ عن النبيِّ (ص) في جميع الأبواب بصفحات معدودة أو متناثرة من السيرة ولقطات يسيرة من الأحداث؛ فإننا لم نعدم من محبي التدوين من الرواة والقصاصين عدداً يسيراً ورثنا عنه كمَّاً ضَخماً من الحكايات والروايات هي في معظمها أقرب للفن والخيال من الحقيقة والواقع؛ فإذا بنا أمام صرح ضخم اسمه (التاريخ الإسلامي) وأهم مشتملاته: (السيرة النبوية).
ولما كان من السَّهل -لأي مبتديء -بيانُ ضعف معظم روايات كتب السيرة والتاريخ وفق قواعد النقد العلمي للآثار إسناداً ومتناً؛ فقد أحيطت السيرة ورواتها –في مقابل ذلك- بسياج من الحماية ضد النقد المنهجي، وتصدت للذود عن هذا الموروث جيوش من المدافعين المتشنجين الذين ابتعدوا عن الموضوعية بقدر ابتعاد أولئك المؤرخين عن التفريق بين الصدق والكذب...
لكن أخطر تلك المحاولات الهمجية لتمرير الكذب على الأمة وتأصيله؛ تلك التي قامت على ترسيخ مبدأ التساهل في قبول روايات السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي؛ والفصل بين رواية الأحاديث النبوية والسيرة النبوية؛ والتراخي مع الأخيرة مقارنة بالأولى؛ كأن صاحب الأحاديث الذي لا يجوز الكذب عليه شخصاً آخر غير صاحب السيرة الذي ممكن أن يُتساهل في حقه، ويُنسب إليه من السيرة والتاريخ أيَّ كلامٍ صَدَرَ مِنْ أيِّ شخصٍ جَاءَ مِنْ أيِّ مَكَان!!
وفي هذا السياق أتُّهم كلُّ من يحاول أن يقترب من هذا البناء القصصي ليقدم نقدا لروايتها أو تحليلاً لمضمونها بأنه يريد أن يهدم تاريخ الأمة ويقوّض أركان الدين ... على الرغم من أن بديهيات التلقي التي شرعها الله -عز وجل- تستند إلى اليقين والتثبت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)... و(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئاً)... والأمة التي تريد أن تصطنع لها تاريخاً حتى لو كان مزيفاً؛ هي أمة تافهة لا مستقبل لها، أما الدِّين القيم فلا حاجة له بحواديت القصاصين الذين كان ينبغي لهم أن يظلّوا جالسين على (المقاهي) يحملون (الربابة) ويطربون السامعين؛ بسيرة عنترة والأميرة ذات الهمة ومعارك الزناتي خليفة مع أبي زيد الهلالي!! لا أن يقوموا بجمع سيرة النبي الكريم (ص) على طريقة (ألف ليلة وليلة) !
أما العامة – ومن بينهم أساتذة جامعات ومُعَمَّمِين ومُطَرْبَشِين ... فلاحين وعمال وفئات – فإنهم لا يتخيلون أن يعيش الإنسان للحظة واحدة بدون سيرة ابن هشام أو تاريخ الطبري أو الواقدي أو من تبعهم من المؤرخين بالنقل أو الاقتباس !! وهي المؤلفات التي يأخذ مِن بعضِ حِكَاياتِها مَنْ شاء من أعدَاءِ هذا الدين وسيلةً للطعن في الإسلام ورموزه!
وإذا نظرنا في مصادر التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية التي اعتُمِدَ عليها والموجودة بين أيدينا؛ وجدناها لا تتعدى أصابع اليد، ووجدناها وأصحابها لم يسلموا من نقد جارح في متانة رواياتهم وأمانة نقلهم –أو على الأقل: غياب المنهجية والفكر النقدي في مروياتهم- ، وهي الأمور التي تثبتها وتؤكدها القراءة الواعية للنصوص التاريخية، حيث تتعانق مخرجات القراءة في النهاية مع النقد الموجه لشخصيات المؤرخين المعتمد عليهم وكفاءتهم العلمية، ويُسلم إليه... مهما حاول المنافحون عن الأسماء المقدسة (تاريخياً) والمؤلفات المقدسة (جماهيرياً) أن يردّوا هذا النقد!!
وتقف (السيرة النبوية) لابن إسحاق موقف الصدارة الجماهيرية، على الرغم من أن السيرة التي يتداولها الناس هي تهذيب لهذه السيرة عن طريق (عبد الملك بن هشام المصري)، الذي أخذ روايتها عن زياد البكائي عن ابن إسحاق (وكلاهما لم يسلم من اتهام ليس هذا السياق محلّ مناقشته)... وإذا كان بعض المحققين (المعاصرين) قد خرج علينا بسيرة زَعَمَ أنها سيرة ابن إسحاق؛ فلن يختلف الوضع كثيراً، فقد ورد في أول سطورها أنها من رواية أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق، (وأحمد ويونس أيضا لم يسلما من اتهام)، وعندما يندمج القاريء أكثر وأكثر مع الكتاب، لن يجد لابن إسحاق أثراً في كثير من الروايات... فيونس بن بكير هو أساس الكتاب وليس ابن إسحاق! كما أن روايات ابن إسحاق بداخلها هي ذاتها الروايات الموجودة عند ابن هشام وأقل بكثير!
ونعود إلى ابن هشام وسيرته التي تَصُبُّ في نهاية المطاف عند ابن إسحاق؛ فقد شرح في مقدمة كتابه دوره في تهذيب السيرة فقال: "وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ، ومن ولد رسول الله (ص) من ولده وأولادهم لأصلابهم الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله (ص) وما يعرض من حديثهم، وتاركٌ ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار إلى حديث سيرة رسول الله (ص)، وتاركٌ بعض ما ذكَرَهُ ابنُ إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله (ص) فيه ذِكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيءٍ من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له ولا شاهداً عليه، لِما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أرَ أحداً من أهل العلم بالشِّعر يعرفها، وأشياء بعضها، يشْنُعُ الحديثُ بِهِ، وبعضٌ يسوءُ بعضَ النّاس ذِكره، وبعضٌ لم يقرّ لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاءَ الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به". (سيرة ابن هشام 1/4).
ويلاحظ من هذه المقدمة أن ابن هشام تصرف كثيراً في النص الذي رواه عن البكائي عن ابن إسحاق، بناء على منهج وضعه وأوضحه، فهو لا يعجبه كثيرا مما ذكره ابن إسحاق ولا يجد سببا لذكره، بل يرى أن ابن إسحاق يذكر أشياء يشنع الحديث بها ويسوء بعض الناس ذكرها، لكن الأدهى والأمرّ أن يجعل ابن هشام - وهو اللغوي والنحوي والأديب-أخبار الشعراء وعلوم الأدب حَكَمَاً وقاضياً على السيرة النبوية ومشتملاتها ومن بينها الشعر الوارد بها، وبذلك يطرح أشعاراً ذكرها ابن إسحاق لأنها لم تُعْتَمدْ من قِبَلِ أهل الشّعر والأدب!! أي أن ابن إسحاق في نظر ابن هشام ليس ثقةً بإطلاق، بل إنَّ أهلَ الشّعر عنده أصدق (أو أوثق) من أهل السيرة النبوية!!
لقد أصبحت لدى جماهير الباحثين قابلية لتلاوة حواديت التاريخ وروايات السيرة بكل استهتار وتسيب؛ في حين يتحدثون بمنتهى الصرامة والجديّة عن انتحال الشعر، حيث يبدو وكأن الكوارث ستحل بالأمة وتفسد الدنيا والآخرة إذا نُسبت لمجنون ليلى أبياتٌ ذكر المحققون أنها لأبي ذؤيب الهذلي!! أو إذا زعم بعض المغرضين أن لامية الشنفرى كانت من تلفيق بعض الرواة!!
وهذه ليست مزحة ولا سخرية ... فهذا هو (الدكتور شوقي ضيف) يتحدث عن مصادر الشعر وموقف ابن سلام الجمحي من قضية الانتحال فيقول: "ويقف ابن سلام إزاء رواة السير والأخبار ممن لا يضعون الشعر بأنفسهم، لأن ملكته تعوزهم –غير أنهم حملوا منه كل زيف، وكل غثاء لما ينقصهم من البصر به، والدقة في تمييز الموثق منه والمموه، ويضرب مثالاً لذلك ابن إسحاق، وما رواه في السيرة من أشعار غثة، وأشعار أخرى زائفة أنطق بها الأمم البائدة. يقول: وكان ممن أفسد الشعر وهجّنه وحملَ كلّ غثاءٍ منه، محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير. قال الزهري: لا يزال في الناس علم ما بقى مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلَّف معقود بقواف. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أدَّاه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا): أي لا بقية لهم، وقال أيضاً: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى. وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى) وقال في عاد: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ). وقال: ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا الله).!! (البحث الأدبي: طبيعته –مناهجه- أصوله –مصادره، د.شوقي ضيف ص 161-162).
هكذا كان رأي ابن سلام الجمحي في ابن إسحاق أنه لا يرجع إلى نفسه، ولا ينظر نظرة واعية إلى ما حمّل كتابه من أشعار، وهذه تحسب له من ناحية تخصصه الدقيق بوصفه ناقداً أدبياً، ولذا كان ابن هشام يتبعه في حذف كثير من الأشعار بوصفه عالما باللغة، في حين يترك ما يتعلق بصاحب السيرة ومبلِّغ الرسالة (مشاعاً) يفعل به ابن إسحاق ما يشاء وينسب له ما يحلو له، فقد كان الرجل حريصاً على نقاء الشعر من الانتحال أكثر من حرصه على نقاء سيرة النبي الخاتم من الانتحال!!
ويضيف الدكتور شوقي ضيف: "وقد تعقب ابن هشام في السيرة النبوية ابن إسحاق واتهم كثيرا مما رواه، وصحح نسبة كثير منه راجعاً في ذلك إلى العلماء الثقات ... ". (البحث الأدبي ص 162).
نعم... كان يرجع إلى علماء الشعر الثقات، وليس إلى أي علماء آخرين تخصصوا في نقد الروايات أو الرواة!!
ويثني الدكتور شوقي ضيف على صنيع علماء اللغة والأدب في التشدد في رواية الأشعار؛ فيقول: "وعلى نحو ما تشدد المحدّثون في رواية الحديث النبوي، وجعلوا أساسها اللقاء والمشافهة؛ تشدد علماء اللغة والشعر فكانوا لا يقبلون رواية الشعر من صحيفة ولا من مصنف مكتوب، بل لا بد أن يكون أساسها الأخذ عن عالم ثبت في الرواية وفي اللغة. ومضوا يُعْنَوْنَ عناية بالغة بالإسناد على نحو ما عني المحدثون بإسناد الحديث...". (البحث الأدبي، ص 163).  فهل فعل ابن إسحاق هذا أو نصفه أثناء روايته للسيرة؟!
وهكذا كان يدعو الدكتور ضيف الباحثين إلى منهج علمي يقوم على الوعي بالمصادر والمراجع؛ فيدعوهم إلى: "الدقة في اختيار المصادر، والدقة في وضع أجزائها وأرقام صفحاتها بالهوامش، والدقة في ذكر طبعاتها. وإذا تعددت الطبعات التي يستقي منها الباحث مادته لمصدر بعينه، كان من الواجب أن يذكر الطبعة كلما ذكر المصدر حتى لا يختلط الأمر على القاريء...". (البحث الأدبي: ص 269).
... ولكن المشكلة الكبرى والمعضلة العويصة التي قد تواجه القاريء المدقق هي أن الدكتور شوقي ضيف نفسه تصدى للسيرة النبوية وألف فيها كتابا عنوانه (محمد خاتم المرسلين) في 479 صفحة، ونشرته دار المعارف بالقاهرة، وفي هذه السيرة لم يذكر شيئاً عن منهجه في انتقاء المصادر او اعتماد الأخبار، وكل ما في الأمر أنه أعاد تقديم الحكايات القديمة لابن إسحاق ورفاقه من المؤرخين القدامى بلغة عصرية رشيقة ممتعة !!
ومن الواضح أنه – أي: الدكتور ضيف-تابع بحرص مناهج المتقدمين من علماء الشعر ونقاده أمثال ابن سلام الجمحي في التشكيك في روايات الشعر لدى ابن إسحاق، في حين لم يلتفت إلى كلام المحدّثين الذين انتقدوا محمد بن إسحاق وروايته، ولم يناقشها، ولا من نقل عنه السيرة، ولم يتتبع أسانيده المنقطعة فيصلها، أو أخباره الواهية فيثبت صحتها، ولم يميز تدليسه من سماعه، ولم يفصل بين الثقات والضعفاء ممن روى ابن إسحاق عنهم !! وهذا لم يحدث مع ما نقله الدكتور ضيف عن ابن هشام أو عن غيره، بل رأينا تجميعاً عاماً مع بعض الإشارات النقدية التي لا تستند إلى منهج واضح، وعدد من الترجيحات اللطيفة لبعض الروايات على بعض؛ بلا أي مبرر علمي سوى (الراحة النفسية) !!
ونعود إلى ابن هشام، ولا زلنا في رحاب (الشعر) وقضية الانتحال التي كان ابن إسحاق أحد أبطالها، بجوار (حماد الراوية) و(خلف الأحمر)، لنثبت أن ابن هشام –أيضاً-لم يكن ملتزماً بادعائه – على الرغم من غرابة هذا الادعاء- بعرض الأشعار التي أوردها على علماء الأدب؛ حتى يثبت ما أثبتوه، ويطرح ما لم يثبتوه؛ فهذا هو ابن سلام الجمحي يقول عن شعراء الخزرج: "أشعرهم حسان بن ثابت. وهو كثير الشعر جيده، وقد حُمِلَ عليه ما لم يُحْمَل على أحد. لما تعاضدت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تُنقّى". (طبقات فحول الشعراء، ص 29).
فعلى الرغم من ذلك؛ فإن ابن هشام أثبت كثيرا من الأشعار التي نسبت لحسان وغيره من الصحابة في سيرته دون منهج واضح أو عرض على علماء الشعر مثل ابن سلام. ليس هذا فحسب؛ وإنما صدَّق منها أشعارأً تحتوي على (إسفاف) زعم أن حساناً – رضي الله عنه -نَظَمَه؛ فذكر في أكثر من مرة أنه ترفع عن ذكر أبيات بعينها لحسان من قصائده؛ (لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهَا). (انظر: سيرة ابن هشام 1/ 19، 20، و2/80، 92، 177)... وهكذا لم يتحمل ابن هشام (المهذّب) اللسان السليط لشاعر الرسول... فحذف الأبيات التي تسوء ويشنع ذكرها، على الرغم من أن سياق الحكايات التي وردت فيها لا يشير إلى أن النبي (ص)، ولا أحد من الصحابة، اعترض على هذه الأبيات، بل ما علمناه صحيحاً –ولم يذكره ابن إسحاق ولا ابن هشام -دعاء النبي له بالتأييد؛ (اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
أليس مما يدعو إلى العجب أن السيرة التي تأتي على ذكر ألفاظ مشينة على لسان شاعر الرسول حوالي خمس مرات ثم على لسان غيره من الصحابة مثل كعب بن مالك وغيره غيرَ مرة، لم تصادف نقداً أو توجيهاً أخلاقياً من الرسول والصحابة ولو لمرة واحدة!! أم أن هذا الكم الضخم من الصادقين والكذابين والمجاهيل والمعروفين والضعفاء والثقات الذين اعتمد عليهم ابن إسحاق لم يسعفه بذكر خبر واحد يشير إلى أن أحداً قدم نقداً أو امتعض أو قوَّم حسان بن ثابت وكعب بن مالك؟!
وهي السيرة التي وصلت دقتها وتفاصيلها أن كشفت لنا أن سدَّ (مأرب) انهار بسبب جُرذ (سيرة ابن هشام 1/ 13)، وعرفتنا أن عيسى –عليه السلام- بعث حوارييه (أَنْدَرَائِسُ) و(مَنْتَا) إلى الأَرْضِ الّتِي يَأْكُلُ أَهْلُهَا النّاسَ (سيرة ابن هشام: 2/608)، وأن اسم الفَرَس الذي كان يركبه مرثد الغنوي في بدر: السّبَلُ. وأن اسم فرس المقداد: بَعْزَجَةُ. وأن اسم فرس الزبير: الْيَعْسُوبُ. (انظر: سيرة ابن هشام 1/664).
فهل كان ابن هشام أكثر أدباً وأرفع خلقاً من النبي (ص) وصحابته؟! أم أن تلك الحكايات التي أتى بها ابن إسحاق من المحتمل جداً أن تكون برمتها منتحلة ملفقة مكذوبة؟! 

 وبالعودة إلى السؤال الذي يمثل مربط الفرس: هل الراوي الذي اتفق القدماء والمحدثون على تساهله في روايات الشعر المكذوبة وتحمله الأخبار بلا وعي من أي إنسان في الطريق؛ يمكن تصديقه والتسليم له إذا انفرد وجاء بحكايات تتعلق بالرسول الذي: (إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)؟!
وإذا كانت السيرة النبوية تعنى بغزوات الرسول ومُصَالحَاتِه وتكثر فيها أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته، وقد قال -عز وجل -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ)... فهل يحقّ لأحد أن يتساهل في روايتها؟! وهل يجوز التأسي بهذا النبي (ص) عن طريق أخبار وردت عن طريق الغافلين والمجهولين والمستهترين؟!

وللحديث بقية ...




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !