بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله صحبه:
في الموضوع السابق ثبت أنه ينبغي لمريد الكمال أن يلتحق بمرشد يتعهده بالتوجيه ويرشده إلى الطريق الحق، ويضيء له ما أظلم من جوانب نفسه، حتى يعبد الله تعالى على بصيرة وهدى ويقين.
فيعاهده على السير معه في طريق التخلي عن العيوب والتحلي بالصفات الحسنة، والتحقق بركن الإحسان، والترقي في مقاماته.فتلك هي المبايعة عن أهل السنة الصوفية ،وليست مبايعات أحزاب ولا سياسة ولا نحوها من أمور الدنيا الدنية .
وأخذُ العهد والبيعة ثابت في القرآن، والسنة، وسيرة الصحابة:
قال الله تعالى: {إنَّ الذينَ يُبايعونَك إنَّما يبايعونَ اللهَ يدُ اللهِ فوق أيديهم فمَنْ نكث فإنَّما ينكث على نفسه ومَنْ أوفى بما عاهَدَ عليهُ اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً} [الفتح: 10].
ولما كانت البيعة أو العهد في الواقع لله تعالى، حذَّر الله من نقضها تحذيراً، فقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34].
وقال ربُّنا - تبارك وتعالى - في سورة "المعارج" في صفات أهل الجنة المكرمون: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المعارج: 32]، وقال في سورة (المؤمنون) في صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، وقال في علامات الصادقين المتَّقين في سورة البقرة: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا .. ﴾ [البقرة: 177].
ومن السنة فقد ثبت في كثير من النصوص ما يدل على البيعة إما على الدخول في الإسلام أو على الألتزام بعمل من الطاعات التي تقرب إلى الله تعالى .
ولما كان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام تأسى به المتابعون لهديه من الورَّاث من مرشدي الصوفية فنهجوا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في أخذ البيعة في كل عصر، فقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام": (أن الشيخ عبد القادر الجيلاني فتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه، يدخل فيه المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، يجددون العهد والميثاق مع الله، ويعاهدون على ألاَّ يشركوا ولا يكفروا، ولا يفسقوا، ولا يبتدعوا، ولا يظلموا، ولا يستحلوا ما حرَّم الله، ولا يتركوا ما فرض الله، ولا يتفانوا في الدنيا، ولا يتناسوا الآخرة. وقد دخل في هذا الباب - وقد فتحه الله على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني - خلق لا يحصيهم إلا الله، وصلحت أحوالهم، وحسن إسلامهم، وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم، ويشرف عليهم، وعلى تقدمهم، فأصبح هؤلاء التلاميذ الروحيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإيمان) ["رجال الفكر والدعوة في الإسلام" ص248]. فكان لهذه المعاهدات والبيعات من الأثر في التزكية والإصلاح الفردي والجماعي أقوى شأن وأوفر نصيب.
وهكذا فإن المرشدين يجددون النشاط الإيماني في عصرهم، ويعيدون النور المحمدي إلى ضيائه وبريقه بعد تطاول الزمن وتعاقب القرون، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء" [فقرة من حديث رواه الترمذي في كتاب العلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه].
والتجربة العملية هي الدليل الأكبر على ما يثمره أخذ العهد من نتائج طيبة وآثار حميدة، ولهذا اعتصم به السلف، وورثه صالحوا الخلف، وسار عليه جمهور الأمة.
سرد بعض الأدلة من السنة:
بيعة الكبار والصغار والرجال والنساء: ________________________________________
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عثمان بن خَيْثم أنَّ محمد بن الأسود بن خلف أخبره: أنَّ أباه الأسود رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح. قال: جلس عند قَرْن مستقبله، فبايع الناس على الإِسلام والشهادة. قلت: وما الشهادة؟ قال: أخبرني محمد بن الأسود بن خَلَف أنه بايعهم على الإِيمان بالله وشهادة أن لا إِله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. كذا في البداية ؛ وقال تفرّد به أحمد. وقال الهيثمي : ورجاله ثقات: وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الإِسلام والشهادة. كذا في البداية . وبهذا السياق أخرجه الطبراني في الكبير والصغير كما في مجمع الزوائد ؛ وكذا أخرجه البغوي وابن السَّكَن والحاكم وأبو نُعيم، كما في الكنز .
وأخرج الشيخان عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فقلت: بايْعنا على الهجرة، فقال: «مَضَتِ الهجرة لأهلها»، فقلت: علامَ تبايعنا؟ قال: «على الإِسلام والجهاد». كذا في العيني . وأخرجه أيضاً ابن أبي شَيْبة وزاد: قال: فلقيت أخاه فسألته فقال: صدق مجاشع. كذا في كنز العمال (126/ 83).
بَيْعة جرير بن عبد الله على النصيحة لكل مسلم : ________________________________________
روى الطبراني في المعجم الكبير قال حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس ثنا سلمة بن شبيب ثنا مكي بن إبراهيم ثنا داود بن يزيد الأودي عن عامر عن جرير أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فقال مد يدك يا جرير فقال على مه قال على أن تسلم وجهك لله والنصيحة لكل مسلم فأدركها جرير وكان رجلا عاقلا فقال يا رسول الله فيما استطعت فكانت رخصة للناس بعده (2/ 327)
وأخرج أبو عَوَانة في مسنده عن زياد بن عِلاقة قا: سمعت جرير بن عبد الله يحدِّث حين مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، خطب الناس فقال: أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه على الإِسلام واشترط عليَّ النُّصح لكل مسلم، فَوَرَبّ الكعبة، إنِّي لكم نصح أجمعين، واستغفر؛ ونزل. وأخرج البخاري أتم منه .
البيعة على أعمال الإِسلام :بيعة بشير بن الخصاصية على أركان الإِسلام وعلى الصدقة والجهاد
أخرج الحسن بن سفيان، والطبراني في الأوسط، وأبو نُعيم، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، عن بشير بن الخصاصِيَة رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فقلت: علامَ تبايعني يا رسول الله؟ فمدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وتصلي الصلوات الخمس لوقتها، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله...». وأخرجه أحمد، ورجاله موثَّقون كما قال الهيثمي .
________________________________________
بيعة على عدم سؤال الناس شيئاً:
أخرج الرُياني، وابن جرير، وابن عساكر عن عوف بن مالك الأجشعي رضي الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم » فردَّدها ثلاث مرات. فقدَّمنا أيدينا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ فقال: «على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، و أن لا تسألوا الناس شيئاً». قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه . وأخرجه مسلم، والترمذي، والنِّسائي كما في الترغيب وذكر السيوطي في زيادة الجامع في حرف الهمزة.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن يبايع؟» فقال ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعنا رسول الله، قال: «على أن لا تسأل أحداً شيئاً». فقال ثوبان: فما له يا رسول الله؟ قال: «الجنة». فبايعه ثوبان. قال أبو أمامة: فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب، فربما وقع على عاتق رجل، فيأخذه الرجل فيناوله، فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه. كذا في الترغيب . وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي وغيرهما عن ثوبان مختصراً، وذكرا قصة السَّوْط لأبي بكر رضي الله عنه، كما في الترغيب (299/ 101).
بيعة أبي ذرٍ على أمور خمسة
وأخرج أحمد عن أبي ذرِ رضي الله عنه قال: بايعني رسول الله خمساً، وأوثقني سبعاً، وأشهد الله عليَّ سبعاً: أن لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو المُثَنى: قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل لك إلى البَيْعة ولك الجنة؟» قلت: نعم، وبسطت يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يشترط عليَّ ــــ أن لا أسأل الناس شيئاً قلت: نعم. قال: «ولا سوطك إِن سقط منك حتى تنزل فتأخذه». وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستة أيام ثم أعقل يا أبا ذر ما يقال لك بعد». فلما كان اليوم السابع قال: «أوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً وإن سقط سوطك، ولا تقبضنَّ أمانة». كذا في الترغيب .
مبايعته للنساء دون مصافحة :
أخرج الإمام مالك و ابن حِبَّان عن أُميمة بنت رُقَيْقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نِسْوة يبايعنه فقلنا: نبايعك ــــ يا رسول الله ــــ على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فيما استطعتُنَّ وأطقتنَّ». فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هلمَّ نبايعْك يا رسول الله، قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة إمرأة كقولي لامرأة واحدة». وأخرجه الترمذي وغيره مختصراً كما في الإِصابة .
البيعة على عدم التبرج تبرج الجاهلية :
أخرج الطبراني ــــ ورجاله ثقات ــــ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاءت أمية بنت رُقَيْقَة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإِسلام. فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرَّجي تبرج الجاهلية الأولى». كذا في المجمع . وأخرجه أيضاً النِّسائي وابن ماجه، والإِمام أحمد، وصحَّحه الترمذي .
________________________________________
بيعة من لم يصل سن البلوغ:
________________________________________
أخرج الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الحسن، والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبقلوا، ولم يبلغوا، ولم يبايع صغيراً إلا منَّا. قال الهيثمي : وهو مرسل، ورجاله ثقات.
بَيْعة ابن الزبير، وابن جعفر
وأخرج الطبراني أيضاً عن عبد الله بن الزبير، عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أنهما بايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما إبنا سبع سنين. فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسَّم وبسط يده، فبايعهما. قال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن عيَّاش وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضاً أبو نعيم، وابن عساكر عن عروة: أن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر بايعا النبي صلى الله عليه وسلم وهما إبنا سبعِ سنين ــــ فذكر نحوه .
مبايعة الصحابة بعضهم لبعض :
ذكر ابن كثير في كتابه :البداية والنهايةفي الجزء السابع ص11،12في قصة معركة اليرموك التي كانت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وقال سيف بن عمر، عن أبي عثمان الغساني عن أبيه، قال قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله في مواطن وأفر منكم اليوم؟
ثم نادى: من يبايع على الموت؟
فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، .انتهى رضي الله عنهم.
فمن تأمل في هذه النصوص وجد أنها بيعة للنبي عليه الصلاة والسلام على أنواع من الطاعات ووجد أن الصحابة فعلوا ذلك مع غير النبي عليه الصلاة والسلام للتعاون على طاعة من الطاعات .وقد أخذ السادة الصوفية بهذه السنة ،وآتت ثمارها بفضل الله تعالى .ومن أراد الزيادة فعليه بكتاب حياة الصحابة للكاندهلوي ،وكتاب حقائق عن التصوف لسيدي الشيخ عبدالقادر عيسى رحمهما الله .
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
التعليقات (0)