البهائية المتخفية والتحديث الاستبدادي [1 ـ 3]
فرق ترى في الإسلام والعروبة مصدر للتخلف وفي الاندماج بحضارة الغرب حلا
أبو يعرب المرزوقي
تمهيد :
وعدت القارئ الكريم بمواصلة العرض النقدي للمصنفات التونسية الناطقة بالفرنسية، والساعية أصحابها لتوطيد تبعية الشعب التونسي الحضارية والفكرية، من أكثر مظاهر وجوده سطحية إلى اشد أعماقه باطنية. وهاأنذا اصل، في ثالث محطة، إلى كتاب أحد الممثلين المشهورين لهذا الاتجاه، اعني كتاب الإسلام والحرية، سواء التفاهم التاريخي الصادر بباريس عن دار Alhin Michl بتاريخ 1998. وقد ندبت نفسي لفضح هؤلاء الأدعياء طلبا للحقيقة ولوجه الله أولا وأساسا، ثم لعلتين ظريفتين ثانيا وعرضا. وسأشرع عما قريب، إن شاء الله، في الرد على جلسائهم ممن توخى الكتابة بالعربية في نفس القضايا من نفس المنطلقات ولنفس الغايات، حال الفراغ من شركائهم في هذه السخافات. فكلاهما جعل الدين الإسلامي والمؤسسات الرمزية واللغة العربية وأمصار الحضارة العربية عامة ومصر بالخصوص موضع حقد لم أر له مثيلا : فهم يصبون جام غضبهم ونجماتهم على هذه الرموز بصورة لم يجرؤ عليها اكثر أعداء الأمة سلاطة ووقاحة.
والمعلوم أن كلتا الفرقتين تعادي الإسلام والعروبة متذرعة بالدعوة إلى الحداثة والإصلاح، لكان أصحابهما ينفون عن غيرهم الدراية بالحضارة الغربية التي يحصرونها في قشورها لجهلهم المخجل بأهم مقوماتها. وقد اشتهرت كلتا الفرقتين بالحط النفسي من كل الرموز والأصول لتيسير الانبتات، فالاندماج في ما يقدمونه بديلا مما يعتبرونه مصدر التخلف : الانبعاث الإسلامي والوحدة العربية. ويتصدون للأول بالهجوم على الزيتونة والأزهر قلبي تونس ومصر النابضين وأساسي انتعاشهم الحضاري والروحي.
ويحاربون الثانية بالحيلولة دون إحياء اللغة العربية ومنعها من استعادة منزلتها التي افتكتها منها الفرنسية داعين إلى الاندماج في حضارة المستعمر بديلا من ثقافة الصحوة العربية التي لا تمثلها مصر تمثيل المهيمن، إذ هي خلافا لباريس. تشترك مع تونس في نفس الدور الريادي المعد للانبعاث المستقل والحر للعرب خاصة والمسلمين عامة فكلتاهما مركز مؤسس للإشعاع الحضاري العربي الإسلامي منذ التاريخ الإسلامي. وكلتاهما قاطرة للصحوة المستقلة التي تبني الحداثة الحق. ليس بينهما تابع ومتبوع بل هما خلان وأختان. لذلك فهما سد منبع يحول دون التبشيري ذي الطلاء الحديث والمضمون القديم شتان إذن بين التشيع للاستعمار الثقافي والروحي الذي هو اعمق أنواع الاستعمار والتذيل لعواصمه، وبين التشيع لإحياء الوحدة الحضارية والروحية للامة العربية قاطرة للعالم الإسلامي في صحوته وانبعاثه ليمثل خيارا مختلفا ومستقلا نقدمه للإنسانية لكونه لا يقل قيمة ولا عظمة عن الخيارات الحضارية الأخرى. ليس في ذلك ما في الأول من تذيل وتحيل. انّه هو عين الإيمان بالحرية والعنفوان أسمى قيم الإنسان.
ولنعد إلى العلتين الظرفيتين. فالعلة الأولى للرد عليهم ذات فرعين هما :
1 - بيان خلوهم من الشروط الدنيا للخوض في مثل هذه المسائل لجهلهم بحقيقة الأمور في الحضارة العربية الإسلامية التي يحطون من شأنها وفي الحضارة الغربية التي يقدسون سطحياتها ويجهلون أعماقها.
2 - بيان استناد أصحاب هذه المشروعات الصريح على الدعم الفرنسي والفاتيكاني في محاولاتهم فرض تصوراتهم على البلاد والعباد.
لذا فإن اغلب النظم العربية تسعى، بقصر نظر لا مثيل له، إلى تدجين الجامعات وإخضاعها للأيديولوجيات الحزبية. وعدم استنادها إلى شرعية ديمقراطية يجعلها، مثل النخب، خاضعة إلى الرأي العام الغربي اكثر من خضوعها إلى الرأي العام الشعبي فالجل لا يستمد وجودا شرعيا من الثاني بل مصدره في الطبيعي من الأول الذي يساعده ولو بمقابل هو الحد من الاستقلال ورهن المستقبل. وتلك هي علة الدور الذي يؤديه مثل هذه النخب غير المدركة لطبيعة التحديث المستقل : فلا شرعيتهم الجامعية بنت العمل العلمي الصور في تحليل الأمور، ولا شرعيتهم السياسية ثمرة العمل السياسي الدؤوب في نوعية الشعوب بغطرستهم في الجامعة بنت صلتهم بالحكم وتدلعهم " في السياسة ثمرة صلاتهم الخارجية.
والعلة الثانية للرد عليهم هي اعتبار عرض أعمالهم النقدي مناسبة لعلاج القضايا التي شوهوها. العلاج الإيجابي، العلاج الملائم من منطلق بذل أقصى الجهد لإبراز جوهر الحضارة العربية الإسلامية أقصى الحرص على المعرفة الدقيقة بأسس الفلسفة الغربية التي لا يمكن أن تدرس في مبتذلات التقريب الجمهوري مثلما يفعل هؤلاء الأدعياء في تصديهم للإصلاح الحضاري وكأنه مجرد تعويض لبعض قطع الغيار في محرك عاطل ـ كما انّه لا يمكن الاطلاع عليها من خلال الترجمات الفرنسية التي أصبحت سبيلهم الوحيد "لانفتاح" حقيقته الوحيدة هي الانغلاق على موضات باريس.
ينبغي للمرء أن يخصص لذلك ما يلزم من الوقت لدراستها في مواطنها الأصلية وبلغات أصحابها ما أمكن ذلك، وينبغي كذلك أن نترجم جل ما تعرض منها للفكر العربي في المجال الفلسفي والديني وفي المجال الأدبي والشعري اعني في المجالين اللذين اعتبرهما ممثلين لجوهر الروحانية المميزة لكل حضارة. فليس من المعقول أن تصبح أي لغة مهما سمت بديلا من العربية فضلا عن الفرنسية التي هي دون العربية انتشارا علما وان العربية قد أصبحت لغة العلوم والفلسفة قبل أن توجد لغات أوروبا الحديثة جميعا والفرنسية إحداها.
ونقدم للقارئ العربي الترجمة العربية من تعليقنا على كتاب الإسلام والحرية تعليقنا الذي كتبناه ونشرناه بالفرنسية في تونس. وليعلم القارئ الكريم أن هؤلاء الأدعياء ليسوا، كما يزعمون أو كما قد يبدر إلى ذهنه، من المتمكنين في الفرنسية، اللهم ألا إذا كانت اللغة الشبيهة بلغة جاليات العمال في المهجر لغة يعتد بها. ففرنسيتهم من أكثر الفرنسيات هزالا. وهي فرنسية لا تكاد تتجاوز مصطلحات اختصاصهم الذي هو، في حدود علاجهم التقني حصرا، اقل الاختصاصات ثراء لغويا بحكم الرتابة القانونية في الصياغة اللغوية وذلك هو مصدر إعجابهم الغفل بما لا يتجاوز حجى أي طفل : فالجهل المريع هو اصل كل داء فظيع كما قال حجة الإسلام في تصدير التهافت وكما أيده فارس الإفهام في رمزه اللافت.
خلافا للعملين اللذين مثلا فرصتين عالجت فيهما مسألتي الهوية. أصول الحكم في الإسلام.دون التوكيد على مضمونهما، فان كتاب الإسلام والحرية يبدو، للوهلة الأولي، جديرا باهتمام اكبر، لكون صاحبه يقدم نفسه بصفته من ورثة التيار الإصلاحي. ولا ريب في أن الكثير من القرائن يبين انتساب المؤلف إلى نزعة كاتبي العملين المشار إليهما، نزعتهما ذات الحس المعادي للعرب والمتيم بحب فرنسا، كما يتبين ذلك لكل قارئ موضوعي اطلع على كتابه. ولا ريب أن له، كذلك، مثل أصحاب هذه النزعة، نفس التصور الساذج لتاريخ الفكر، سواء كان هذا التاريخ عربيا إسلاميا أو غربيا، ونفس الفلسفة التاريخية إذا صح وصف نظرتهم السطحية والمانوية لتطور الحضارات الإنسانية هذا الوصف.
وأخيرا فانه يقاسمهما نفس الموقف الهجائي إزاء الثقافة العربية والإسلام وخاصة إزاء المؤسسات والنخب الدينية في تونس ومصر بالذات، لكونها، حسب رأيهم، مصدر البلاء كله، ربما لإسهامها بعض الإسهام في تخليص المغرب العربي من الاندماج في فرنسا. أما الشعب الذي يكثرون من التودد إليه فهم يحتقرونه. لكونه يقزز رهافة حسهم الحديث ! وأخيرا فان أدهى ما في "الأفكار" التي يدافع عنها المؤلف هو كونها "شديدة البداهة إلى حد البلاهة" فيصعب من ثم تصديقها. انّه يقابل جهنم الأصولية الدينية بجنة الحداثة الأصيلة، دون أدنى تجرد فكري أو نقدي!
وتتمثل نجاعة هذا الموقف الوحيدة في الحيلولة دون كل نقاش، لأنه ليس ايسر من وسم المناقش بتهمة الأصولية لإسكاته إذا فرضناه تجرأ فرفض أن يبدو حديثا بأي ثمن، خاصة إذا كان من الطامعين مثلهم في "منزلة سياسية" أو "إدارية" أو حتّى من الراغبين في تجنب المتاعب والمصاعب.
لكن ذلك لا ينفي أن الاطروحات التي يعرضها مؤلف الإسلام والحرية، سواء بمقتضى تقليد عائلي أو بمقتضى قناعة ذاتية أو حفاظا على شعرة معاوية، إذ لا أحد ييأس من العودة إلى الوزارة، تبدو اطروحات منتسبة إلى الجناح الراديكالي من التيار الإصلاحي الذي يصرح بان دافعه الأساسي هو تحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة رغم تصوره إياهما تصورا دغمانيا وساذجا. ذلك هو على الأقل ما يصرح به المؤلف. ومثل هذا الموقف الذي لا يمكن التشكيك فيه، من دون اتهام مجحف للنوايا. يوجب أن نتوسل تضربين من العلاج نحلل بهما الإشكالية التي يتصدى لها المؤلف، ففعل بيان الوهاء العام الذي يتصف به هذا المشروع يكون الضربة القاضية على هذا التيار بكاملة، بحكم منزلة المؤلف بين المنتسبين إليه.
فأما الضرب الأول فغايته عرض مضمون الكتاب وتقويم التحليلات الواردة فيه، من حيث تناسقه الداخلي ومن حيث الحلول المقترحة في المشروع نجاعة حضارية وكلفة سياسية. وسنحاول فيه الجواب عن السؤال التالي : هل كتاب الإسلام والحرية يقدم جديدا يمكن من تجاوز النزعة الإصلاحية المزعومة عقلائية. والتي تـنتسب إليها النزعة الراديكالية التي ينزل فيها المؤلف مشروعة غير الأصل مرتين (لا هو إسلامي ولا هو حديث)! وهل تجاوز تناقضها الأساسي وعدم جدواها الجوهري؟ ذلك ما سنحاول تقويمه استنادا إلى شروط إمكان تحقيق المشروع الإصلاحي المقترح ومن النتائج القصوى التي تنتج عنه.
أما الضرب الثاني من العلاج، فسنحاول فيه تجاوز تشخيص المؤلف التبسيطي تشخيصه الذي بقى دون تصورات المنتسبين إلى جيل المصلحين الأوائل. لكي نحدد طبيعة الأزمة الحالية التي تعاني منها الإنسانية جميعا لا الحضارة العربية الإسلامية وحدها. خلافا لما يحاول إقناعنا به هؤلاء المصلحون الراديكاليون عامة والمؤلف على وجه الخصوص. سنحاول، في هذا القسم الثاني، تحليل النهضة العربية الإسلامية، من حيث هي أفق كوني ممكن، بعد أن نكون قد بينا إفلاس الحداثة إفلاسها الذي صار غنيا عن البرهان وإفلاس الحركات الإصلاحية سواء انتسبت إلى المحافظة أو إلى الراديكالية من الجيل الأول أو من الجيل الأخير، سواء كانت من طبيعة لينة (الفنيات التربوية والقانونية) أو من طبيعة غليظة (الفنيات السياسية والتسلطية).
فهذان الصنفان الأخيران من الإصلاح متضايقان عند انعدام الشرعية الديمقراطية والخلقية التي تمكن بوجودها مباشري الإصلاح المحدثين من مضاهاة الشرعية الدينية والروحية التي يسلم بها الشعب للنخب التي يريدون الإطاحة بها، فيحققون ذلك بطرق ناجعة وسلمية. لكننا سنعرض هذا المستوى الثاني من دراستنا هنا عرضا موجزا وللتمثيل المذكر بمبادئ هذه الإشكالية الأساسية. ذلك أننا قد خصصنا لها أعمالا سابقة باللسان القومي. واليك المشكل الذي نريد الشروع في صياغته وبقدر الوسع الإسهام في حله : هل أزمة الحضارة العربية الإسلامية مجرد أزمة نسبية تقبل الإرجاع إلى تخلف ينبغي تجاوزه، مثلما يتصور المصلحون ؟ أم هي أزمة مطلقة تعطينا ساندة جديدة نعيد فيها وضع أسئلة الوجود الإنساني الجوهرية عامة بمقتضى تصور آخر للإنساني والإلهي ومن ثم تصور آخر لمعنى الإسلام وحقيقته بوصفه إصلاحا روحيا وخلقيا وسياسيا كونيا؟ ألا يمكن لهذه الأزمة أن تكون فرصة تاريخية تسكننا من تحرير الروحانية الإسلامية من تقليد المصلحين تقليديهم الذي حصر الإصلاح. برد فعل مطابق لأطروحة الاستـشراق الأساسية، في مجرد مدرك (ضد كاريح) لتنمية سلالة ETHNiE خاصة عصية عن كل تحديثه مستورد وإدماجها فيه لكونها دائمة التعلق بوهمين، وهم انبعاث المسلمين الروحي ووهم توحيد العرب؟
الغاية من مستويي العلاج
وتبقى الغاية من ضربي العلاج، دائما، الإرادة الصادقة سعيا لإيجاد أرضية تفاهم مع كل من له الصبر النظري والتعقل العلمي اللذين تتميز بهما المعرفة الفلسفية، مع كل من يبحث عن فهم الموضوع المدروس قبل الشروع في أي عمل كان، وإذن مع كل من يريد حقا أن يبحث كل وجوه المسألة الموضوعية بحثا نسقيا، سنحاول التفكير في شروط إمكان النهضة دون أن يكون تقصينا مقصورا على الفنيات الانتخابية التي تلتـفظ من الروحانية الإسلامية الوجوه التي تصلح للعبة الاستـفادة الإعلامية بنقد الحضارة الإسلامية نقدا يعجب أعداءها ولا يخدم مصالحها.
فليس مخاطبنا الرأي العام الرسمي الفرنسي. ولسنا ممن يحاول أن يثـقل وزنا قد يساعده على أداء دور سياسي وهمي، ذلك أن السياسة الوحيدة التي لها قيمة عندنا هي أولا وأخيرا، حسبان الرأي العام الوطني قبل أي حسبان لكونه هو مصدر الشرعية الوحيد بشرط أن يكون تعبيره حرا خاصة إذا تعلق الشأن بأموره الروحية والخلفية، ولعل المؤلف يوافقنا على أن تسرع المهرجين الذين يريدون إشباع رغبتهم في تحويل العالم قبل تحليله. ومن باب أولى قبل فهمه وتأويله، يوافقنا على أن هذا التسرع يمثل العلة الرئيسية لكل النكبات التي تعاني منها نهضتنا وخاصة منذ "الاستـقلالات " الظاهرية.
فالانبعاث الخلقي والروحي الذي نريده سلميا وسويا وحرا ومستـقلا ينبغي أن يكون سبيلا ذاتية للدخول في الكونية، ينبغي أن يتجنب هذا الانبعاث كل قطعية مع الإصلاح المحمدي للأمر الديني بوصف هذا الإصلاح رسالة كونية تحدد علاقة جديدة بين الروحي والزماني متخلصة من فصام الحياتين المتوازيتين سواء كانت فرديتين أو جماعيتين، ذلك أن الكونية الحية التي هي دائبة التحدد، بصفتها أفقا مثاليا للأخلاق الموضوعية المستقلة، لا يمكن أن تكون ألا ثمرة التطور المتصل والبطيء فليس يمكن للكونية أن تكون أيا من الأشكال الحاصلة بعد، أيا كان كمالها، وهي في كل الأحوال، لا يمكن أن تكون الشكل الحديث من تحقيقها، خاصة إذا حصر هذا الشكل في التصور الوثوقي الذي نجده عند أصحاب العقلانية الساذجة، ومن ثم عند ذوي النزعة المتعصبة والأصولية من حيث لا يعلمون. ولعل المؤلف يوافقنا، دون شك على أن الإصلاح الروحي والخلقي لا يمكن أن يكون ثمرة الترقيع المتسرع الذي يقدم عليه بعض الناشئ من السحرة الظانين أنفسهم مكلفين برسالة استئصال ما لم تستطع رسالة التحضير الغربية اقتلاع أصوله الثابتة في الأرض. أتراه يثق في من لم يفهم بعد أن الدعوة اللائكية اكثر أصولية من ردود الفعل الصامدة والرفض اللذين يتولدان عنها؟ سنقصر هذا العرض على المرحلة الأولى من مستوى التحليل الأول، اعني على منطق المشروع الداخلي وشروط إمكان النزعة الإصلاحية التي تزعم نفسها عقلانية وراديكالية ونتائجها القصوى في الإطار العام الذي اختاره المؤلف نفسه دون سواه.
مضمون كتاب الإسلام والحرية
حتّى يكون القارئ العربي على بينة من محتوى الكتاب لابد من عرضه بأكثر دقة وموضوعية ممكنتين، فلسنا ممن يسكت الخصوم، ولا ممن يزيف صريح مقاصدهم والمفهوم. لعلمنا إمكان من شروط الرد المفحم العرض المعلم، يتألف كتاب الإسلام والحرية من مقدمة وأربعة فصول ذات حجم وقيمة غير متعادلة، فالمقدمة (المقدمة: ص 7 _ 23) تعرض إشكالية الإصلاح العقلاني الراديكالي عند الجيل الأخير من الإصلاحيين. انطلاقا من التاريخ النقدي السريع للسياسة الدينية التي توختها الأنظمة والسياسيون العرب الأكثر تمثيلا لهذا التاريخ منذ الاستقلالات (نظاما البعث والناصرية والبورقيبية والبومدينية). ورغم إمكان المقدمة تبدو تأسيسا لخطة الكتاب بشرح مراحله وتدبيره. فإنها تمثل جزءا لا يتجزأ من الفصل الأول الذي هو تاريخي كذلك، لكون موضوعه هو دراسة النخبة الدينية والإسلام الإسلامية (الفصل الأول : ص 25 _ 61). فهي مثله تبحث في أعراض المرض الذي تعاني منه ثقافتنا بحثا تاريخيا. كما نجد فيها إرادة صريحة تحمل سياسة التحديث التي لم تكن حقا لائيكية مسؤولية الأصولية التي يريد المؤلف استئصالها بإصلاح الإسلام، مستعملا لذلك المدرسة سهما حاملا للتلييك Laicisacion بقي دونها النموذج التقليدي الذي توخته الجمهورية الفرنسية الثالثة.
أم الفصلان الثاني والثالث فيمثلان ما يمكن إمكان نسميه التعليل الديني لنفس الظاهرة والتعليل اللائكي للبديل منها، الإسلام والقانون (الفصل الثاني : ص 63 _ 156) وأخيرا والدولة (الفصل الثالث : ص 157 _ 202). اعني ما يعتبره المؤلف في الوقت نفسه اصلي المرض ومجالي فعل الإصلاح الذي يسعى إليه. ويتأتى بعد ذلك الدواء التربوي الذي يقترحه المؤلف في الفصل الرابع والأخير بعنوان التربية والحداثة (الفصل الرابع: ص 203 _ 250). ويحدد المؤلف مخ هذا الحل سلبا بإصلاح الإسلام استنادا إلى الحداثة مثالا أعلى، وإيجابا بالبلاسم التي تصورتها فلسفة الأنوار اعني الوضعية الساذجة والفكر الفلسفي الغفل الذي يقتصر على أيديولوجيا التطبيق المباشر، لأكثر الأفكار سطحية واقلها نقدية.
وإذن فهذا الكتاب يتألف من ثلاث مراحل تقبل الوصف بعبارة طبية : فقه الأعراض Semiolugie أو تأويل الأعراض المرضية (المقدمة والفصل الأول : تاريخ التحديث المتردد ونقد الحركات السياسية والمؤسسات الدينية التي صارت مصدر الأصولية)، 2 _ فقه الأسباب Fliologie أو تحديد أسباب المرض (الفصلان الثاني والثالث : تخليص القانون والسياسة من الإسلام).
3 - وفقه نسب الدواء وترقيته Posologie أو تحديد الكيفية التي سيتم بها استعمال الدواء (الفصل الأخير: تربية غسل الأدمغة بقيم الحداثة والعلموية)، لعلاج المرض الذي تعاني منه الحضارة العربية الإسلامية، ويمكن أن ترجع هذه المراحل جميعا إلى مرحلتين اثنتين بحسب طبيعة الطريقة التي يعالج بها المؤلف إشكالية كتابه. فالمقدمة والفصل الأول الأخير تتخذ في وظيفة علاج الإشكالية علاجا تاريخيا قانونيا (صورة الحداثة) وعلاجا عقديا (مادة الحداثة). لكننا نفضل تنضيد خطة الكتاب بالصورة الأولى، لكونها تلائم افضل ملاءمة وحدته العضوية ومنطقه الداخلي.
القدس العربي : 28 / 10 / 1999 م
التعليقات (0)