أبو يعرب المرزوقي
فلنفرض إذن أن الإصلاح التربوي ذا النزعة الحداثوية الصادقة قد نجح فوجد الوسائل التي تقتضيها شروط إمكانه وتحقيقه السياسية، ولنفرض انّه أتى على هذا المثال الأعلى فمحا كل اثر لهذا الوهم في أذهان الشباب بفضل الطابع الوحداني لبرامج التعليم التي ينبغي أن تكون بالضرورة عامة (وتلك هي أهم علامات الشمولية المطلقة والدكتاتورية الستالينية أو الهتلرية التي يتناساها الحداثيون). ترى هل يكفي ذلك لاستئصال هذا المثل الأعلى في ضروب وجوده الخمسة التي تغذيه دائماً.
إلا ينبغي، تحقيقا لهذه الغاية، أن تحرق كل المكتبات الخاص منها والعام وان تغلق كل المساجد وان تفرق كل الجوامع وان ندنس كل الأماكن المقدسة ؟ إلا ينبغي أن نمنع كل تعليم للقرآن الكريم أو على الأقل أن نجري عليه عملية مراقبة فلا نبقي منه إلا على ما يلائم الحداثة أو على الأقل على ما لا ينقاضها، لا ينبغي أن نعلم أبناءنا التنازل علن كل عظمة تاريخية يمكن أن تذكر بهذا المثال الأعلى، ومن ثم أن نعلمهم احتقار أنفسهم ومحبة الصغار إعدادا "للتطعيم " بما يعوض هذه الحاجة الطبيعية للعظمة عند كل كائن بشري وتيسيرا لاندماجهم بمساعدتهم على اختيار آباء جديرين بالحداثة الصادقة والواثقة من نفسها..
كأن يكون جدودنا الغلواء Nos ancetres les Gaulnes ؟ وهكذا إذن فما ينبغي استئصاله هو الأساس الفكري الذي صار مثالا أعلى "ينبغي استئصاله في حقيقته الفعلية، اعني في ضروب وجوده الخمسة: وخاصة في أولها، اعني في النص المقدس الذي لا بد من حظر مقامه في المدينة اللائكية أو على الأقل "تنظيفه" لئلا يخدش الحس الحديث، خاصة إذا كان صاحبه صادقا وملتزما مثل المؤلف. وبالمناسبة نفسها فلن نزعج بعدها أصدقاءنا ونموذجنا الأعلى من النصارى واليهود (انظر مقدمة المؤلف) ببعض الآيات التي يمكن ألا تعجبهم !
فكون كاريكاتور الأنساق القانونية والدستورية المنسوبة إلى الإسلام ليست مطبقة في أي مكان أمرا لا يعني المؤلف. ذلك أن وجود المقال الإسلامي الأعلى بمجرده عند المواطنين الذين عبأهم عقديا قله ضالة تمثل وهم الانبعاث الإسلامي وتردد بعض الحكام المترددين لكونهم ليس له الحزم الكافي لتشجيع الحرب الدينية، يمثل في حد ذاته نفيا للحداثة ومن ثم علامة لاشك فيها عن فقدان المسؤولين السياسيين للصدق الإسلامي والحداثي في نفس الوقت.
وإذن فإزاحة العائق تصبح بهذا التصور متمثلة في وجوب تعويض مثال الإسلام الأعلى بمثال الحداثة الأعلى، وفي وجوب تعويض سلطان الفقهاء الروحي بسلطان القانونيين التقني، ومن عيوب الحكام العرب النابعين من طبقات متوسطة وغير الحاصلين على الثقافة الرفيعة التي حصل عليها قانونيا ممن نجا من الظلامية بعد نظر آبائهم الزيتونيين انهم يقتصرون على الحلول الوسطى. إنهم متمسكون بالإسلام وليسوا من ثم صادقين في حداثتهم. قلوبهم تتردد. لم يتبنوا بعد نظام الزواج الوحداني للوحدانية الحداثوية. انهم لا يريدون التخلي عن الإسلام ولا عن الحداثة. وتلك خطيئتهم الأصلية : أن خطأ القادة التاريخيين منذ الاستقلالات منبعه كونهم حسب المؤلف، خالين من الجرأة على الانتقال من مجرد الحكم الشخصي الذي يعيبه عليهم إلى الحكم الشمولي الذي تقتضيه عقيدة لائكية وحدانية النظرة الحكم الذي ليس منه بد لتحقيق هذا المشروع. فقد فقدوا الحكمة اللازمة لإشعال نار الحرب الأهلية لأسباب دينية، من أجل تحقيق شرط الإمكان الذي يمكن نخبة جريئة من فرض الحداثة الخالصة والصارمة، فالكمالية البورقيبية ينقصها، هي كذلك، الالتزام الصادق والصريح بالحداثة، لكونها ما تزال متعلقة بالوهمين اللذين بقيت شعوبنا من ضحاياها: الروحانية الإسلامية والنهضة العربية فيكون بوقيبة ملوما لكونه ليس ملتزما الالتزام الكافي بالحداثة لقد بات المؤلف اكثر إخلاصا للروح الصادقية ولقيم الحداثة من بورقيبة : لذلك تجد عنده نظرية تغريك أغراء لا محدود بهذا الفكر الفذ والمجهود.
فهو يضع نظرية عجيبة تميز بين الدكتاتوريات الحبيبة لكونها من ذات الضمير والدكتاتورية الكريهة لكونها من عديمات التفكير. ألم يذهب إلى حد رد الاعتبار إلى صولجان شاه إيران ؟ ولعل اتاترك عنده اكثر الدكتاتوريين سماحة وملاحة فهل يتفضل المؤلف فيرشدنا إلى ضرب الدكتاتورية التي تنتسب إليها شمولية الحداثة المفروضة على شعوب لا تريد أن تقاد إلى الجنة بالسلاسل لكونها لم تستشر بشأنها. وإذن فمشروع المؤلف مضاعف في كل مستوييه. انّه مضاعف في مستواه السطحي.
فهو ضد وجود الأصولية الدينية عند بعض المعارضات الغربية والإسلامية، وضد عدم الأصولية اللائكية عند رؤساء بعض الأنظمة العربية والإسلامية. وهذا "الضد" المضاعف يرجع في الحقيقة إلى "مع" واحد، "مع" أصولية الحداثة اللائكية، اعني أصولية غسل الأدمغة التي ينبغي تلبيكها بالتربية. ثم هو مضاعف في مستواه العميق: استئصال الأصولية الدينية باستئصال المثال الأعلى الإسلامي الذي ينحط عندئذ انحطاطا مطلقا فيصبح بهائية مبتذلة. وفي الحقيقة، فان المؤلف لم يتخلص أبدا من عقيدة مراهقي الستينات. ففي غياب تحقيق الثورة التروتسكية، لابد من تحقيق الحداثة بواسطة الشمولية سواء كانت هذه الشمولية من جنس شمولية الديمقراطية الشعبية التي نرى متردماتها الحقيقية في بقايا القطب الاشتراكي أو من جنس شمولية الديمقراطية الإعلامية التي لا يمكن لترقى نخبنا ألا أن يقنعنا بنجاعتها السياسية..
على الأقل في مستوى المستقبل الشخصي لأصحابه في الساحتين الوطنية أو العالمية؟ ولا تشترك هاتان الشموليتان في نقد ما تسميانه بافيون الشعوب فحسب بل هما تشتركان كذلك في الجرأة على استئصاله أيا كانت الكلفة لفتح المجال للافيون الخالص بالمعنى الحقيقي لا المجازي فحسب أن التبشير الحداثوي الذي تعد اصوليته اللائكية أكثر ضررا من أصولية المتدينين ذلك هو ما ينقص أجيال المصلحين الأوائل. وهو المعين الذي يستمد منه الجيل الأخير ما يتميز به من وقاحة وصلف. وسيكتشف شبابنا بما سيلحقهم من ضرر أن الفرق بين الاصوليتين ليس إلا فرقا أسلوبيا لو شاءت الأقدار فحل في ديارنا الأصولية اللائكية بوصفها كابوسا فعليا باسم المكافحة الوقائية ضد الأصولية الدينية التي توجد بالقوة عند متطرفي الإسلامي من حلفائه الموضوعيين.
فالجزائر ما تزال تعاني من هذه التجربة. وعلى حد علم الجميع، فان أفغانستان قد كانت أصولية ملحدة قبل أن تصبح أصولية دينية. وهكذا إذن فان الحلول التي يقترحها الإصلاح "العقلاني" الراديكالي عند الجيل الأخير ليست ممكنة إلا إذا وجدت النخب المستنيرة التي تدعيه إمضاء على بياض يعدها به أمير أو مستبد يزعمان مستنيرين ولهما ولع كبير بالحرب الأهلية. فالتعصب اللائكي هو أيضاً متيم بانجاد الرماد وبغدران الدماء أو بلغة فقهاء الأصولية، الدينية الشمولية تكون التضحية بثلثي الأمة من أجل الثلث الصالح أمرا مشروعا.
أما بلغة قانوني الأصولية اللائكية الشمولية. فان الإبقاء على الثلث كثير وكثير جدا: يكفي الإبقاء على النخبة ذات الحداثة الصادقة. فأنى لنا بسبيريا وجولانها؟ ذلك انهم يعلمون علم اليقين أن الشعب الجاهل الرجعي بمقتضى الحد حسب رأيهم، لا يمكن إلا أن يكون مناوئا لإصلاحهم المزعوم. انّه لا يمكن أن يتبعهم بمحض إرادته، لذلك فان حداثيينا الصادقين سيكونون أمام ما يمكن أن نسمية تجملا بدور الحل الأفلاطوني أو الماركسي، فهم يؤمنون براديكالية اللوح الممحو، لكنهم لم يجدوا لا دوئيزيوس صادق الحداثة ولا يرولاتاريا صادقة اللائكية. وإذا كانوا يجهلون ما يقول هيجل في الملجأ الأول. فان التاريخ قد تولى مهمة إعلامهم بنتائج الملجأ الثاني. أن الشعوب الإسلامية ككل عامة، استعمالا لمصطلح النخب المستنيرة لا يمكن لها أبدا، حسب رأي حداثيينا، ان تكون ناضجة لإدارة شؤونها الروحية والخلقية، ادارة ديمقراطية، فالشعب الذي هو غير راشد وجاهل دائما ينبغي له أن يثبت، قبل الوصول إلى النضج المطلوب، انّه بلغ درجة من التنور تضاهي الدرجة التي وصل إليها متسنير الحداثيين.
ويعني ذلك، في النهاية، انّه لن يصبح راشدا أبدا. وعليه إذن أن يقبل قبول العميان. وكرها احرى من طوعا. الأنوار الحديثة! لحكمة الحداثيين السياسية أقنعتهم بان الشعب لا يحتاج إلى تجريب الديمقراطية ولا إلى ممارستها طويلا للتمكن من آلياتها، وذلك خوفا من أن يتخلى عنها نهائيا بمجرد استعمالها لتجريب أفكاره ومعتقداته التي هي مجرد أوهام.
يكفي إذن أن يقوده المصلحون المعصومون لكونهم خاصة أن يقودوه بالسلاح وبالأقلام حرابا في أفواه البنادق شرط إمكان للدواء التربوي الذي يجعل التربية عملية غسل أدمغة لتحريرها من وهمها المضاعف الإسلامي والعربي. فستقودنا النخب الراشدة والحذرة والمعصومة دون أدنى مخاطر. أن النمو الخلقي والروحي الذي يحققه بالوكالة الحداثيون الذين هم ديمقراطيون بالقول وشموليون بالفعل ذلك هو ما سيصنع التاريخ بديلا منا؟
أن الاطروحات التي بينا شروط إمكانها ونتائجها ومنطقها الداخلي "دون فحص صحتها الذاتية" تنتج كلها عن خمس تصورات لم يحللها المؤلف أو أساء تحليلها. وهذه التصورات الأساسية تعمل في محاولته بمدلولاتها الساذجة، لكونها قد استعملت دون تحديد دقيق ودون وعي بشروط إمكانها وتطبيقها ولا بالنتائج التي تنجر عن ذلك التطبيق الذي هو غير ديمقراطي ضرورة. ولنكتف في هذا المدخل بحصرها في ثبت دقيق، وستكون هذه التصورات، لاحقا، موضوع فحص عمق (الفصلان الأولان من الجزء الأول من دراساتنا التي ننوي نشرها).
1 - صور التاريخ الذي استعمله المؤلف استعمالا مستعجلا لشرح السياسة الدينية التي لبعض الأنظمة والزعامات العربية في المقدمة ولتحليل ظاهرة الأصولية الدينية، في الفصل الأول.
2 - تصور الدين المتضمن في تصور الإسلام ويقابل الحرية في الفصلين الثاني والثالث.
3 - تصور الحرية من حيث هي اصل أصول الحق عامة والحق الدستوري خاصة بالمقابل مع الدين في الفصلين نفسهما.
4 - تصور التربية بما هي سهم حامل للتنوير في تحديد السياسة التربوية الساعية إلى استئصال الإرهاب في الفصل الرابع والأخير.
5 - وأخيرا تصور الحداثة التي تعمل في كل أجزاء الكتاب. وتصور الحداثة هذا هو الذي يمثل الحد الثاني في العلاقة التي يدرسها الكتاب رغم أن المؤلف قد عوضه في العنوان بتصور الحرية. ويمكن أن تفترض أن الكاتب قد أراد تجنب عنوان الإسلام والحداثة لتجنب اشتراك الاسم المزدوج المحرج. إذ أن شرقيا آخر، حداثوي مثله، سبقه إلى هذا العنوان. يوجب هذا الثبت الحصري للتصورات التي تحتاج إلى تحليل التوكيد على فكرتين أساسيتين. للنشر أولا إلى العلة التي من اجلها لم ندرج تصور القانون في ثبت المصطلحات التي علينا تحليلها. رغم كون الفصلان المتعلقان به، عند حسبان فصل الإسلام والدولة. يشغلان أكثر من نصف الكتاب (وفصل الإسلام والقانون وحده يشغل أكثر من الثلث). ونحن لم نستثنه لكون المؤلف، بحكم تكوينه قد يكون قدم منه تحليلا مرضيا، وهو ما لم يحصل لسوء الحظ، بل نفعل لعلة أخرى أعمق.
فالمؤلف يبدو قد حصر استعمال هذا التصور في دور الحد الأوسط الضمني سلبا وإيجابا في الوقت نفسه. ذلك أن تصور القانون قد مكنه عمليا من وصل تصوري الحرية والحداثة، ومن فصل تصوري الحرية والإسلام ومن ثم بحسب خاصية التعدية من تحليل العلاقات بين الإسلام والحداثة: الحرية الموصولة بالحداثة والمفصولة عن الإسلام تمكن من إثبات التنافي بين الإسلام والحداثة بتوسط دوره في القانون عامة وفي القانون الدستوري خاصة، لذلك كان دور القانون عنده مجرد دور أداتي لتأسيس الدين الجديد، دين الحداثة.
وطبعا فالقانون (البديل من الفقه) بصفته ممثلا أساسيا للحداثة وتعينا للحرية التي هي جوهر هذه الحداثة سنفحصه عند دراسة علاقاته بالتصورات الأخرى. ذلك أن الكاتب الذي قصر بحثه فيه على التأويل القانوني للحداثة مثلما يتبين ذلك من اختلال التوازن الكمي بين أجزاء الكتاب. قد جعل الحرية القانونية خاصية مميزة للحداثة وحدها أو الديني ذي الأسلوب الحديث. لذلك فانه بوسعنا أن نكتب المعادلة التالية التي تتحكم في تصورات المؤلف : الحداثة = الحرية القانونية. ولما كان شرط الحرية الحديث منعدما في مشروع إصلاحي من هذا النوع يريده صاحبه راديكاليا، منزلا من السماء ومفروضا على الشعوب دون سؤالها رأيها، فان المعادلة تقبل الترجمة التالية: الحداثة بما هي دين لائكي مفروض على شعب لا يريده = حرية النخب القانونية، الحرية التشريعية للسيادة الشعبية = شمولية أنبياء الحداثة + دكتاتورية البروليتاريا أو / ودكتاتورية مستبد "مستنير".
ولنؤول بعد ذلك طموح أهل القانون إلى الحلول محل الفقهاء والحصول على منزلتهم في الحداثة من دون شرط هذه المنزلة الأساسية. وذلك بتقديم ملاحظتين يقتضيهما العقل السليم. فأما الأولى فتتمثل في كون الفقهاء التقليديون لا يستمدون شرعية هذه المنزلة من كفاءاتهم التقنية والعلمية، بل من الشرعية المعنوية التي يمدهما بها استمساك الشعب بموضوع ممارستهم المقدس. والثانية تتمثل في كون أهل القانون الوضعي ليس لهم، على أقصى تقدير، إلا الكفاءة التقنية، إلا إذا تصوروا كل قانون فقها مقدسا. وإذن فالشرعية الديمقراطية هي الشرعية الوحيدة التي يمكن أن تمكن أهل القانون من شرعية مناظرة لتلك الشرعية، ومن ثم قادرة على تعويض الشرعية المستمدة من استمساك الشعب بالموضوع المقدس الذي لفقه.
ذلك أن مجرد الشرعية التقنية والعلمية حتّى إذا تحققنا من اتصاف هؤلاء الطامحين بها لا تكفي، لا بد من إضافة الوظيفة التشريعية الديمقراطية للوظيفة القانونية لكي نحصل على منزلة مناظرة لمنزلة الفقهاء ونظرا لتكوينه القانوني والديكارتي، فان المؤلف دون ريب، سيسلم، دون لجاج، بهذه النتيجة وكذلك بصحة الاستدلال الذي أوصل إليها. تجنبنا ذكر الإسلام ضمن تصورات هذا الثبت لعلتين. فأما العلة الأولى فهي كوننا لم نكن نريد سد الطريق أمام النقاش، فلو بدأنا بالكاريكاتور الذي يجعل الإسلام ما يبقى من الدين بعد تنظيفه بحسب الحداثة معيارا مطلقا، اعني البهائية من حيث هي تأليف مشوه من الدينين اللذين أصلحهما الإسلام، لو قبلنا ذلك لأصبح النقاش ممتنعا، إذ أن ذلك هو جوهر المشروع الذي يدافع عنه التيار اللائكي عند الحداثويين الراديكاليين، ألم يعرف هيدجر التدين الحديث بكونه التمسيح الكوني ؟
ثم إن تحليل النظرة الإسلامية للديني سيكون جزءا من البديل الذي تنوي اقتراحه، فلا يمكن أن نقبل أن يعرف الإسلام تعريفا سلبيا وفي شكل رد فعل انطلاقا من التشويهات الكاريكاتورية التي يقدمها منه الأصوليين اللائكيون بتوافق تام مع الأصوليون الدينيين. مع من يزعمون التصدي إليهم. إلا انّه يمكننا أن نبرر القياسين السوفسطائيين واللاواعيين اللذين أديا بحداثيينا إلى هذا الكاريكاتور من الإسلام أي إلى ما لا يبقون منه بعد تشويهه أي البهائية، فالأطروحة التي يتبناها المؤلف وكل الذين ينتسبون إلى الحساسية يرجع إلى القياسين التاليين (وهما يردان في الكتاب بصياغة الضمير الخطابي اعني دون ذكر المقدمات كلها أو جلها.
1 ـ كل روحانية دينية كلية، وكل قانوني وضعي جزئي، إذن فكل قانوني محدد مستثنى من الدين، وبعبارة واحدة، فان الديني ينبغي أن يتخلى عن كل بعد قانوني لكي يبقى كليا.
2 ـ كل روحانية دينية أزلية، وكل سياسي محدد زماني، إذن فكل سياسي محدد مستثن من الدين. وبعبارة واحدة كذلك، فان الديني ينبغي أن يتخلى عن كل بعد سياسي لكي يبقى أزليا.
ولهذه العلة فان الحداثة تجعل الحياة لبشرية حياتين متوازيتين تتنافيان : حياة ظاهرية عامة يحكمها القانون والسياسة وكلاهما جزئيان وزمانيان، وحياة باطنية خاصة تحكمها الروحانية اللامحدودة لكونها كلية وأزلية. عالمان متواجدان خارجيا دون أدنى تواصل : انّه الفصام المطلق فصام الثنائية الشخصية (الروح والجسد والحياة الخاصة والحياة العامة) والجماعية (الكنيسة والدولة والقانون الخلقي والقانون الطبيعي). وإذا بما كان مجرد تقية سياسية عند الفرق المغالية يصبح جوهر الحياة الحديثة التي يقترحها علينا مصلحو آخر الزمان هؤلاء!
ذلكما قياسا البهائية اللاواعية، البهائية التي هي مسيحية مزيفة ويهودية مزيفة في الوقت نفسه. لذلك فهي مضادة للإسلام دائما. أن أصحابها غير قادرين على فهم جوهر الإصلاح المحمدي. فالفصام المزدوج هو حسب المصلحين من الجيل الحالي،الشرط الذي لابد منه للحداثة. فلا المسيحيون ولا اليهود الذين يضربونهم لنا مثالا والذين لا يقلدون منهم إلا أكثرهم عداوة للإسلام يقبلون بهذا التصور. أهل كلتا الفرقتين يعتبرون من الطبيعي أن تمارس الأحزاب الدينية السياسة في إسرائيل وفي كل بلاد الغرب. وكذلك يرى الحداثيون منا، لكنهم يفعلون كل ما في وسعهم لتبليس هذه الإمكانية عندنا. حتّى يقووا الأصولية الدينية حليفتهم الموضوعية. ذلك إنها من دون هذا التحريم لن تصبح السبيل الوحيدة للتعبير الديني عن السياسي. فإذا بقيت هامشية كما هو شأنها في كل المجتمعات السوية، بقوا هم أكثر هامشية منها: وعندئذ لن يجد حداثيونا المبرر للدكتاتورية الموجودة بالفعل حرزا ضد الدكتاتورية الموجودة بالقوة !
وفي الحقيقة فإنهم كما أتثبتنا، لا يتصدون للأصولية. إنما هم يتصدون لما يسمونه الوهمين بوصفهما مثالا أعلى يحدد شكل الانبعاث، إنهم يرجعون هذا المثال الأعلى إلى مضمون وحيد هو المضمون الأصولي لتيسير استئصاله زاعمين أنهم يحاربون ما لو لا تعصبهم ضد الدين لكان نسيا منسيا. لذلك فانه يمكن القول بان الأصولية لو كانت غير موجودة لفعلوا كل ما يلزم لإيجادها، إذ هي حليفهم الموضوعي. ذلك انّه من دون التخويف بشمولية الدولة الدينية ممكنة الحصول لا يمكن لأي دولة لا دينية أن تحقق شموليتها بالفعل. ما نرفضه هو هذا التصور المانوي.
وسيكون تصدينا للمانوية أيسر ما دام أهلها أقلية لا يعتد بها وما دامت تتميز بابتذال "أفكارها" التي هي في قطيعة مطلقة مع الحال الراهنة للفكر الإنساني الكوني، انهم يجهلون أبجدياته، فلن تجد مفكرا غربيا جديا واحدا يسمع للنسخ المنحطة التي يقدمونها من العقلانية الزائفة والساذجة على منوال منحط من فكر القرن الثامن عشر حتّى لو كان هذا المفكر من المحترزين على ما يعد الحداثة. انهم يتصورون هذا الفصام طريقا تمكن البشرية من تجنب تقلبات العرض من الأمور فيحقق شروط إمكانية ممارسة الحرية الطبيعية في المجتمعات البشرية المتحررة من كل حقيقة وقيعة متعالية لكن ذلك إذا صح لزم عنه نتيجتان ضارتان بكل وجود إنساني سوي:
1 ـ فالحرية لن تكون عندئذ إلا مجرد تكيف متصل مع الضرورة الطبيعية. ويصبح هذا التكيف القيمة العليا الوحيدة في المجتمعات الإنسانية، وبعبارة وجيزة فان يكون للقانون الخلقي من وجود، القانون الوحيد الموجود هو القانون الطبيعي قانون التكيف والتطور الحيواني.
2 ـ لكن هذا التكيف الحيواني لن تكون عبارته إلا سياسية، انّه سيكون السياسة التي تقدم الأمر الواقع على الأمر الواجب والشأن الحاصل على المثال الأعلى.
وبذلك يصبح سلطان العقل أو "النووقراطية" سلطان علة الضرورة السلطانية فسلطان المافيا عندئذ ينحط للحق ليصبح مجرد أمر واقع ويتردى الإحساس بالواجب لينقلب انتهاز السوائخ. فلا يبقى من متعال عدا مبدأ الواقع والحس التكيفي. عندئذ يصبح التعالي وهما لا محددا أو حيلة سياسية بمعنى الكلمة عند فولتار. أما الدين الذي بات أمرا شخصيا خالصا فانه يصبح يتوبيا الحياة الباطنية وعديل الفصام، الذي تقتضيه النووقراطية المافيوقراطية. يبدو لنا هذا المشروع المتبع الحقيقي للأصولية الدينية واللائيكة معا الاصوليتين اللتين نددنا بمنطقهما الواحد في محاولتنا حول الهوية. فهو منبع الأصولية بسبب تحليله السطحي لازمة الحضارة العربية الإسلامية أزمتها التي جعلها مجرد خاصية عرضية لسلالة يسيطر عليها نخبة العلاج بالتي هي الداء!
ملاحظة : القسم الثاني في الراصد العدد 955
القدس العربي : 30 / 10 / 1999 م
التعليقات (0)