مواضيع اليوم

البلديون

فتحي الجزائري

2009-11-21 17:55:00

0


فيلم البلديون


فيلم "البلديون": المسلمون حرروا فرنسا لا يمكنك كمشاهد عادي لفيلم "البلديون" أو "السكان الأصليون" الذي يحتل نصيب الأسد من الاهتمام والمتابعة في كثير من مهرجانات العالم، إلا أن تحبس أنفاسك وأنت تتابع أحداثه بشغف، وتقارن بين ما تعرفه وتدركه وما يكشفه الشريط، وتتأثر بذاك التدفق الإنساني لتلك الشخصيات التي رسمت أحداثه ومن قبلها رسمت أحداثا تاريخية عالمية. فالمشاهد "للبلديون" (فرنسي، وجزائري، ومغربي) أمام عمل سينمائي أقل ما يقال بحقه إنه أعاد رسم التاريخ، وصححه ساردا الحكاية التي نجهلها، ولم يحاول "الغرب" أن يمحوها فقط بل سطا عليها، كما هو الحال دائما؛ فـ"التاريخ لا يكتبه إلا الأقوياء" كما تقول العبارة الشهيرة. لكن ومع فيلم المخرج الجزائري "رشيد بوشارب" يحق لنا أن نستدرك لنضيف على العبارة السابقة "والسينما أيضا"، وذلك عندما تسخر بوعي لتقلب صفحة مطوية معيدة قراءتها، مكثفة إمكانياتها لتمنح هذه المرة العرب والمسلمين جزءا من حقهم ودَينهم. الكرة في الملعبين قلنا في مقالنا عن "مهرجان القاهرة وأفلام نقد الذات" إن الفيلم يستحق قراءة عميقة في مقالة خاصة تفرد له، وها نحن نحاول أن نمنحه حقه، ليس في كونه قدم ما قدم من حقائق تاريخية نسيها أصحابها أو حرموا منها، بل في إعادة الاعتبار لدور السينما بتقديم صورة حقيقية، ولو كانت من الماضي هذه المرة، لكنها تأتي على طبق ساخن في سنوات مسكونة بهاجس الخوف من قِبَل العرب والمسلمين، وتناسب اللحظة التاريخية ولا تحتاج فيها للرمزية أبدا، فالإسقاط جاهز (على البطل والضحية والجاني أيضا)، والأمر لا يحتاج إلا لمشاهد يريد أن يعي، ومن ثم يفهم كي يعتبر ويغير (على أمل طبعا). فمن تشوهه السينما (وتحديدا الأمريكية) صباح مساء وتنعته بأكثر من الإرهاب والعنف ها هو يتحول بيد "بوشارب" إلى حجر كبير يمنح الهجوم الشديد على العرب حراكا مختلفا، ليس دافعا وإنما هجوم تاريخي مضاد، فهو يعيد الاعتبار للشخصية المسلمة والعربية وأي اعتبار، إنه شرف تحرير فرنسا وبلاد أخرى من النازية الألمانية في سنوات الحرب العالمية الثانية. على الطرف الثاني يقذف "بوشارب" الكرة في ملعب الآخر (الغربي) عموما، والفرنسي تحديدا، في سؤال عما وصل إليه من عنصرية وكره للشخص الذي أنقذه من النازية يوما ما، هذا أولا، وكيف تتعامل الدول الكبرى مع التاريخ ثانيا، وكيف تشوه الضعفاء والمقاتلين الحقيقيين فيما تمنح النياشين لمن لا يستحقها ثالثا، وكل ذلك يطرح القضايا الكبرى ويساعد على إعادة قراءة تلك الذاكرة التاريخية المشروخة. إذًا الفيلم بما ذكر سابقا يعد مصدر جذب للجميع (عربا ومسلمين، وغربا) على مستوى الفكرة التي حفر المخرج لاستخراجها وأعاد طرحها وما يتبعها من قضايا وأسئلة تفرض وجوب تصحيح حقائق التاريخ. أو على مستوى الفنيات العالية التي تميز بها من إخراج أو تصوير أو تحريك جموع وتنفيذ معارك...إلخ. فما قصة هذا الفيلم يا ترى؟ تصويب وردّ اعتبار بدأت الفكرة من مشاعر الأسى والغيظ التي تلبست "بوشارب" مرارا عندما كان يشاهد أفلاما أمريكية كثيرة تقدم بطولاتهم وفضلهم في تحرير أوروبا من النازية فيما لا أحد يتحدث عن البطل الحقيقي ليغلب عليه شعور الواجب في أن يعرف العالم كله الحقيقة. الفيلم باختصار يمثل رد اعتبار إلى قدماء المحاربين المسلمين والعرب المغاربة والأفارقة ممن قاتلوا تحت لواء فرنسا في سبيل تحريرها من النازية الألمانية هي وحلفائها خلال الحرب العالمية الثانية، وهو بذلك ينتصر للدور العربي والإسلامي في طرد النازية من فرنسا، وبالتحديد مسلمو شمال إفريقيا من الجزائر والمغرب العربي والسنغال. فيتناول الفيلم المعارك التي خاضتها الفرق العربية التي تشكلت في المستعمرات الفرنسية للدفاع عن فرنسا وإيطاليا؛ عبر عرض ملحمة 4 جنود هم: عبد القادر، وياسر، وسيد، ومسعود الذين عرف عنهم قدراتهم على الاحتمال والشجاعة في القتال المباشر واستشعار الخطر، ولهذا أُرسلوا إلى الصف الأول في المعركة في رحلة مرورهم عبر الأراضي الفرنسية. ويستعرض عبر ذلك أحلامهم المختلفة: "ياسر" انضم للجيش من أجل الغنيمة التي يتوقع جمعها، و"مسعود" فوجئ بالترحيب به من الفرنسيين ويأمل في الزواج والحياة في فرنسا بعيدًا عن التمييز ضده في الجزائر، و"سيد" يتمنى الفرار من الفقر في المغرب ويأمل أن يكون الجيش بديلا عن الأسرة. أما "عبد القادر" الذي يحارب من أجل الحرية والمساواة فيريد أن يحصل على الاعتراف بها من فرنسا وتحقيق العدالة بتحرير وطنه المستعمر بعد أن تنتهي الحرب. نحن هنا أمام أربع شخصيات عربية هي نموذج لجيش كبير قامت فرنسا بإعداده في مستعمراتها بعد أن احتلت من ألمانيا، فبين عاميْ 1944 و1945 كان تحرير إيطاليا و"بروفانس" و"جبال الألب" و"وادي الرون" وغيرها من المناطق أمرا حيويا ليتحقق انتصار الحلفاء، وليتأكد دور فرنسا بينهم بعد معاهدة التحالف. وفعلا يبدأ الفيلم من الجزائر حيث إعلان حالة التجنيد التي ينضم إليها كل قادر على حمل السلاح ووصولا إلى معسكرات التدريب الفرنسية، ثم الذهاب إلى ساحات المواجهة حيث المعارك الحربية التي حصدت مئات الآلاف منهم في معارك التحرير. شارك في القتال حوالي 220 ألف جندي مسلم وعربي إضافة إلى 400 ألف آخرين من الذين كانوا على رأس المحاربين الذين حققوا النصر وحرروا الأرض بداية من "مونت كاسينو" في إيطاليا حتى الإلزاس على الحدود الفرنسية الألمانية. خطان إنسانيان كشف الفيلم بمستواه الأول القتالي الحربي عبر حكايات حقيقية تم جمعها لمقاتلين مسلمين قدامى نسجت سينمائيا شجاعة المحاربين وبطولاتهم وقدراتهم على القتال والتضحية، غير أن المستوى الثاني المتمثل في الشخصي والمعنوي يكشف جوانب إنسانية مضيئة للمحاربين؛ فالمغربي "سيد" (المعاق) ورغم أن قائده "مارتينيز" أهانه وضربه بقوة دون سبب، يحمله على ظهره بعد أن أصابه لغم أرضي رغم أنه بإمكانه تركه أو قتله، وذلك في أخطر المواقف وأصعبها من المعركة الأخيرة التي خاضاها، وفي آخر مشهد يأتي ليحمله ويهرب به من الجنود الألمان فتصيبهما قذيفة حارقة تقتلهما معا. أما "مسعود" الذي التقى بالمرأة الفرنسية التي أحبها فظل مخلصا لها طوال الحرب، يكتب لها من أرض المعركة دون ملل أو كلل دون أن يصله رد منها، ونجد أن الرقابة العسكرية الفرنسية كانت تلقي برسائله في سلة المهملات عندما تدرك أنها من عربي مسلم، وكذلك تفعل مع رسائل حبيبته بعد أن تكتشف أنها موجهة لعربي مسلم. كما أن "عبد القادر" ذاته المؤمن بقيم الحرية والعدل والمساواة يرفض منطق التمييز العنصري ضد السود من المقاتلين حتى لو خسر حياته. أما "ياسر" فهو يمنع صديقه من سرقة كنيسة، وهو الذي كان لا يتورع عن سرقة جثث أعدائه وغيرهم من الفرنسيين الذين يقاتلون معه. وهذا غيض من فيض الصور والقيم الإنسانية التي لم تطغ عليها المعارك الطاحنة التي عبدت طريق النصر بالجثث والدم، وهذا مما يحسب للمخرج الذي جعل عمله حافلا بصور إنسانية من جهة، وبروح بطولية قتالية عالية من جهة أخرى دون أن تطغى جهة على أخرى. أسئلة المشاهد واعترافات المخرج السيتساءل المشاهد عندما يكتشف كل هذا الحماس من المقاتلين العرب والمسلمين للقتال إلى جانب فرنسا، وهي المحتلة التي تستعمر أراضيهم ليخيل له وكأنهم يحاربون لوطنهم الأم وذلك دون أن تشفع تلك الاختلافات التي ظهرت في الفيلم فيما يخص الأسباب الدافعة للمشاركة في وصول صورة كاملة، فمنهم من يشارك هربا من الفقر، ومنهم من يشارك من أجل النقود، ومنهم من يؤمن بقيم الحرية والعدل والمساواة. ويعترف "بوشارب" في أحد حواراته أن هناك فعليا حالات إجبار على المشاركة في القتال لم يوردها بفيلمه لأنها كانت "ستضعف من قيمة الفيلم، وستقلل من بطولة المقاتلين". كما سيتساءل المشاهد عن تلك الحفاوة التي تلقاها المقاتلون من الشعب الفرنسي عندما وصلوا إحدى المقاطعات الفرنسية، وسيقارن بين تصرف الأهالي وتصرف القيادة العسكرية التي كانت تبخسهم حقوقهم وتضعهم في مقدمة الجيش كرماة ودروع بشرية ليموتوا بقذائف الألمان في عنصرية مقيتة تتجلى في جميع المناحي، وسيستحضر المشاهد الحال اليوم، وكيف يعاني العرب والمسلمون في بلد كفرنسا، وحالة العداء التي تتزايد يوما عن يوم. قصة الطماطم غير أن الفيلم الذي يصنف ضمن أفلام النقد الذاتي يطرح قضايا مختلفة من ضمنها العنصرية ضد العرب، وتجلى ذلك في "قصة الطماطم" التي كان يحرم منها المقاتلون سود، وفي أحد المشاهد يطلب جندي أسود حبة طماطم كجزء من وجبته لكنه يقابل بالرفض، فيصر "مسعود" على ذلك، وأمام إصرار الضابط الفرنسي يحمل مسعود صندوق الطماطم ويتلفه بقدمه قائدا إضرابا عن الطعام، وهو ما يضطر القيادة العسكرية إلى تعديل نظرتها فيما يتعلق بمكونات وجبات الطعام. لكن التمييز وإن تم تجاوزه ميدانيا فيما يخص وجبات الطعام استمر وطال، فرواتب الجنود العرب أقل بأضعاف مضاعفة، كما أن تعويضاتهم كذلك، وهو الأمر الذي قام الفيلم بما أنجزه من حراك سياسي بتعديله. فالضجة التي أحدثها الفيلم ليست على المستوى السينمائي فقط بل على المستوى السياسي والاجتماعي؛ فقد ساعد على العمل على دفع التعويضات إلى الجنود وأسرهم من جديد، والتي تبلغ مليارا وخمسة وثمانين ألف يورو بموجب الحكم الصادر عام 2001 و2003 الذي لم تنفذه الحكومة الفرنسية غداتها، واضطرت إلى ذلك بعد عرض الفيلم وما صاحبه من جدل ليستفيد منه ثمانون ألف محارب كانوا من أصل أربعمائة ألف محارب عربي ومسلم بعد عرض الفيلم. وليس ذلك فحسب، فقد فتح الفيلم في فرنسا الحديث عن المشاكل التي يواجهها المسلمون حاليا بما يحمل من أجواء معاصرة تعاني منها الجاليات المسلمة، فقد وضع الفرنسي أمام صورته وصورة الآخر الذي يعيش معه كونه مواطنا من الدرجة الثانية، ساعد ذلك كون الأبطال الأربعة فنانين معروفين ومقبولين للجمهور الفرنسي، الأمر الذي دفع أكثر من 3 ملايين مشاهد إلى متابعته حتى الآن. "الحرب" خلقت "الثورة" غير أن الفيلم وإن كان قد انتقد سياسات فرنسا فهو بطريقة أو بأخرى ينتصر لها عبر تقديمه هؤلاء المقاتلين الذين ضحوا في سبيلها. ففرنسا ظهرت جميلة متقدمة وحلم الكثيرين، وتستحق تلك التضحية والشجاعة التي يبذلها المحاربون، وتلك الروح القتالية العالية (رغم العنصرية الواضحة) لدرجة تجعل قضايا مثل الهوية المزدوجة لبعض المقاتلين والانسلاخ عن الذات لصالح فرنسا واضحة للعيان. لكن وعلى الوجه الآخر نرى أن الحرب التي شارك فيها الجزائريون مثلا خلقت الثورة الجزائرية فيما بعد، فالبطل "عبد القادر" (في دور سامي أبو عجيلة) وهو الوحيد الذي عاش من بين الأبطال الأربعة هو رمز للقائد "بن بيلا" البطل الجزائري والرئيس السابق للجزائر. فـ"عبد القادر" يحمل تجربة حياته، ورغبته في التعلم، وإن انضمامه لتحرير فرنسا نابع من إيمانه بالحرية عموما من أجل الحصول بعد ذلك على استقلال الجزائر كما وعدتهم فرنسا. الفيلم يعيد صفحة مطوية من التاريخ ليظهر الحقائق ساطعة كالنور، وفي ذلك يقدم نموذجا يعلمنا كيف تعاد قراءة التاريخ، ومن ثم كتابته، وهو بالمناسبة ليس تاريخا مجردا، فالعمل هو تكريم من جيل جديد يمثله "بوشارب" وأبطال فيلمه (نالوا جائزة أفضل تمثيل جماعي في كان) الذين ينتمون لأسر شاركت في الحرب وإعادة التاريخ لجيل قديم بعضه ما زال حيا يعاني تهميش الماضي والمستقبل. أخيرا نقول: إن أربع سنوات ونصف استغرقها الفيلم (وتكلف 12 مليون يورو أغلبها من جهات حكومية فرنسية) من جمع قصصه إلى كتابة السيناريو إلى تحضيرات التصوير، فالتصوير ليس كثيرا على عمل قام بتقديم ما عجزت عنه الحكومات

 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !