البلبطة في مستنقعات اليقين
كمال غبريال
لن أعتذر لمن ينفرون من استخدامي كلمة "البلبطة" التي ترجع للعامية المصرية في العنوان، فلقد بحثت ولم أجد كلمة أكثر مناسبة منها لما أقصده، فكلمة "سباحة" لا تفي بالغرض، فالسباحة حركة محمولها يتضمن الاستغراق في الوسط المحيط إن كان بحراً أو مستنقعاً أو ما شابه، وأنا هنا لا أقصد من يتحركون داخل الوسط المعني، كما أن كلمة "الغرق" تعني الاستقرار الساكن، وهذا أيضاً لا أقصده، فمن أتحدث عنهم هنا وهم شعوب الشرق الأوسط، أو بالتحديد والأخص الشعب المصري، ليسوا حقيقة في حالة حركة، كما أنهم ليسوا في حالة استقرار وثبات، هم في حالة تململ قاصر عن أن يكون حركة، وفي نفس الوقت لا نستطيع وصفه بالثبات أو الغرق النهائي المطمئن. . هي إذن "البلبطة" ولا كلمة سواها تحمل ما نريد الحديث عنه، والتي هي عبارة عن حركة دائمة عشوائية، لا تغادر المكان ولا تحسب حساباً لزمان.
طوال رحلة الإنسان منذ مفارقته أبناء عمومته "قردة البابون" على الأشجار وحتى الآن، كان القلق الناتج عن الخوف من سائر ما يحيط به من حيوانات ومظاهر طبيعية هو مصدر القوة الدافعة له للحركة والتفكير، بحثاً عن الطمأنينة بفهم طبيعة ما يحيط به، تمهيداً لاتقاء ما يمكن أن يلحق به من أذى، ولأن الفهم هو بوابة التوصل لطريقة لمعالجة ما يواجه الإنسان من إشكاليات، صار الفهم هو الطريق المؤدي للاطمئنان، باعتباره النعيم المنشود هروباً من جحيم القلق، وبالتالي صار الفهم الكامل يعني إمكانية التوصل لاطمئنان كامل ونهائي، لذا يصح لنا القول أن مسيرة الإنسان منذ فجر الوعي وحتى الآن هي رحلة البحث عن "اليقين".
نستطيع هكذا القول أن الحركة في بحر التوتر والقلق بحثاً عن "اليقين" هي ما أوصلنا إلى ما أنجزته البشرية من حضارة، لكن كما قلنا بداية الحركة أنواع، تختلف من حيث النوعية والشدة والاتجاه، كما تختلف بالتبعية بين الأفراد والشعوب، ونستبعد عملياً حالة السكون أو اليقين التام، لأنها افتراض نظري لا يتواجد حقيقة على أرض الواقع لدى أي فرد أو شعب مهما بلغت غيبوبته أو هموده، فهناك من "يسبح" في محيط التوتر والقلق، متقدماً مع الوقت في خط مستقيم يتجه لتخفيض درجة التوتر عبر التوصل لفهم أعمق وحلول أجدى لمشاكله، وهناك يسقط في قاع المستنقع جزعاً مرعوباً، مستتراً وراء بضع أحجار مفترضاً أنها قادرة على أن تجلب له الحماية، ومثال هذا الهنود الحمر وبعض القبائل المنعزلة التي مازالت حتى الآن تعيش في عصرها الحجري، وبين النقيضين هناك من "يبلبط"، عاجزاً عن الحركة الإيجابية، ومتصنعاً اطمئناناً وهمياً، أي مقنعاً نفسه بتوصله إلى "اليقين"، دون أن يكون حقيقة وفي دخيلته مقتنعاً بذلك اليقين!!
هنا يثور تساؤل: لماذا تسبح بعض الشعوب في بحر المعرفة بحثاً عن يقين لابد وأن يكون نسبياً موقوتاً في عالم سنته التغير، في حين أن شعوباً أخرى تسقط من حالق، أو تعلق في الحالة التي أطلقنا عليها "بلبطة في مستنقع اليقين"؟
ظاهرياً المجموعة الأولى هي من تمتلك ثقة في الذات، وتمكنها ملكاتها الشخصية والعقلية أن تبدع في اكتشاف العلاقات الطبيعية بين موجودات عالمنا، وتبني على أساس علمها هذا علاقات حياتية اجتماعية واقتصادية وسياسية وخلافه، أو باختصار هي شعوب قادرة على امتلاك مهارات السباحة في ألغاز هذا الكون، بما يمكنها من التوافق والتناغم مع حقائقه، أما المجموعة الثانية فهي الشعوب العاجزة، والتي تفتقر للمقومات التي تعينها على رحلة البحث الشاقة، فتفضل أن تقبع في أوكارها تجتر مقولات الأقدمين، أي تعيش على فضلات عصور ماضية، وهذا بالطبع لا يشبع القلق بداخلها خوفاً أو جزعاً من مواجهة الحياة وكافة صروف الدهر كما يقولون، ولهذا تبقى في حالة "البلبطة". . أما لماذا تكون شعوب قادرة وأخرى غير قادرة، فهذا ما لا نرغب في الإجابة عليه، ونفضل ادعاء الجهل به!!
هذه الحالة الأخيرة هي ما ألمسه في الشعب المصري، وما التعصب الرائج والاحتقان العقيدي المتفشي في مصر الآن إلا واحداً من علامات حالة اليقين المهتز، أو "البلبطة في مستنقع اليقين"، والناتج عن ضعف أو انعدام الثقة في النفس وفي منهج الحياة، فالعداء اللدود للآخر لا يصدر ممن يستشعر ثقة حقيقية في ذاته وفيما يؤمن به، والعكس صحيح، إذ لا يصدر التسامح أو بالأصح السماحية إلا عمن يثق في نفسه وفي نظام حياته ومنظومة ثوابته ومعتقداته، وكيف يمكن أن يثق حقيقة في نفسه من هو متورط في الفشل المزري في كل مجالات حياته، وهو ذاته يسب ويلعن حكامه والدنيا كلها ليل نهار، لكنه بالطبع لا يتجاسر ويقترب من منابع الفشل الحقيقية، التي ليست غير تلك المنظومة التي يدعي ظاهرياً أنها الأعظم والأرقى، وأنها هويته التي لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه؟!!
لذا لا أعتقد أن المسافة بين المستنيرين وعامة المجتمات الشرق أوسطية راجعة لتقصير منهم في التواصل مع الشارع كما تعودنا أن نقول، فالناس يتدافعون بالآلاف للاستماع لواعظ يتقيأ عليهم خطاباً متخلفاً، فيما لا نجد غير بضع آحاد في ندوة لشخصية مستنيرة مرموقة، وها نحن نجد القنوات الفضائية تتهافت على المأفونين والموتورين جلباً للإعلانات، ولا نلومها في ذلك إلا قليلاً، فهذه القنوات التليفزيونية ليست جمعيات خيرية، ولكنها مشروعات تجارية هادفة للربح، والاستنارة بضاعة يكاد لا يقبل عليها أحد، ولن نستطيع أن نحقنها للناس في العضل أو الوريد، فما لم يكن لديهم بذرة تساؤل ومقدرة تدفع للرغبة في البحث عن جديد مختلف، فلن تفيد ملايين الندوات، أو حتى عبوات الزيت والسكر إن استطاع المستنيرون إليها سبيلاً.
لا نقول أن الناس عاجزة عن فهم مقولات الاستنارة، أو أنهم فهموها ورفضوها، لكننا نظن أن الأرجح هو خشيتهم من مجرد التفكير والفحص لأي جديد يعرض عليهم من خارج قوقعة القداسة التي أحكموا إغلاقها على أنفسهم، فالمعضلة فيما نتصور هي نقص الشجاعة والثقة في النفس، تلك التي تدفعهم للتشبث بالطرق المسلوكة منذ الأزل من قبل أجدادهم، فالخروج عنها بالنسبة لهم مغامرة هم في غنى عن المخاطرة بارتكابها، فعبئها النفسي عليهم أفدح من ذلك القلق والمعاناة التي يكابدونها وهم على ما هم عليه في حالتهم الراهنة.
غالباً ما أجدني في نهاية مقالي مطالباً أمام نفسي بأن أقدم حلاً لما طرحت من معضلات، علاوة بالطبع على ما يصلني من القراء الأعزاء من طلب ملح لحلول لما أوجعتهم به من تحليلات، ولكن الحقيقة أنني لا أمتلك أي حلول، وربما يكفيني أن أساهم بالتشخيص الدقيق لأمراضنا، وليست هذه في ظني بمساهمة ضئيلة في رحلة البحث عن الحل المنشود، أما بقية الطريق من هنا حتى بر النجاة، فهذا ما علينا جميعاً أن نساهم في اكتشافه، ونتكاتف معاً في رحلة السير عبره.
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)