مواضيع اليوم

البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول لمحمد العمري - منشور بجريدة القدس العربي

مصطفى الغرافي

2011-10-13 19:13:09

0

البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول لمحمد العمري
مصطفى الغرافي
2011-10-04




إذا كان محمد العمري قد أفرد كتبا اختصها بفحص بلاغة الشعر ( تحليل الخطاب الشعري 1990 الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية 2001) وأخرى تناولت بلاغة الخطاب الإقناعي (في بلاغة الخطاب الإقناعي 1986 دائرة الحوار ومزالق العنف 2002) فإنه آثر في كتابه البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول (إفريقيا الشرق- البيضاء ط1 2005 ) أن ينفتح على نمط من الخطاب لم نعهده في دراساته البلاغية من قبل. يتعلق الأمر ببلاغة النثر السردي على نحو ما تجسدت في فن الخبر والسيرة الذاتية.
البلاغة بين التخييل والتداول:
بعد عمر من البحث في المجال البلاغي ببعديه الشعري والخطابي، يعود محمد العمري في كتابه البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول إلى نقطة البداية ليتساءل: ما هي البلاغة؟ أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هناك مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟
يتحدد مفهوم البلاغة عند العمري في هذا الكتاب في تقاطع التخييل والتداول؛ لقد بسط الباحث في الفصل الأول الإطار النظري لتصوره البلاغي فعرض وجهتي نظر حديثتين متعارضتين؛ ترجح إحداهما الفصل بين التخييل والتداول ويمثلها بول ريكور في مقاله الخطابية، الشعرية، التأويلية التي فحص فيها عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الخطاب التخييلي والخطاب التداولي ليخلص في النهاية أن الخطابين يختلفان في الهدق والوظيفة. إذ في الوقت الذي يقصد فيه الشعر إلى الإمتاع فإن الخطابة تتوجه إلى الإقناع. ولذلك فإنه لل يمكن في نظره قيام عل م عام يستوعب الشعر والخطابة (ص: 18) أما الاتجاه الثاني فإنه يقر بإمكانية قيام التداخل بين التخييل والتداول في إطار بلاغة عامة تجمع بين الإمتاع والإقناع. ويمثل هذا الاتجاه بلاغيون محدثون مثل أوليفي روبول الذي طرح في كتابه البلاغة حلا ثالثا حيث جوهر البلاغة عنده لا يتحدد في الأسلوب ولا في الحجاج ولكن في المنطقة التي يتقاطعان فيها بالتحديد (ص: 22) ويبدو من مناقشة الباحث لهذين التصورين أنه يدعم التوجه الثاني الذي سعى إلى بلورة بلاغة عامة يمكنها فحص الخطابات الأدبية التخييلية على نحو ما يمكنها وصف الخطابات الحجاجية الإقناعية. وهو تصور دعمه الباحث بعرض وجهة نظر البلاغة العربية التي كشفت عن نظرة شمولية للمجال البلاغي بحيث يتداخل فيها الشعري (التخييل) والخطابي (التداول) على نحو وظيفي؛ فلم تكن المسافة واسعة بين الشعر والخطابة في تراثنا البلاغي كما قرر الباحث (ص: 32 )
بعد أن تتبع الباحث قضية التداخل بين التخييل والتداول نظريا وتاريخيا في الفصل الأول، عمد في الفصل الثاني إلى هذا التداخل تطبيقيا من خلال الاشتغال على بلاغات خاصة تجسدت في السخرية الأدبية (فن الخبر) والسيرة الذاتية. ويبدو أنه راعى في اختيار هذين النوعين النثريين انسجامهما مع التصور الذي انطلق منه في تحديد موضوع البلاغة باعتباره المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل والتداول.

السخرية الأدبية بين التخييل والإقناع:
لقد تناول الباحث بلاغة السخرية الأدبية باعتبارها بلاغة جزئية تقع بشكل ملتبس بين التخييل والإقناع، حيث يتشكل الخطاب الساخر من مكونين أساسين: مكون انفعالي أو تأثيري أو مقصدي، ويتجلى في الاستخفاف المشتمل على الضحك أو الاستهجان أو الإحساس بالمفارقة، ومكون بنائي أو لساني أو بلاغي يتجسد من خلال المفارقة الدلالية وما يترتب عنها من غموض والتباس.ويرى الباحث انه يستحيل الحديث عن كل مكون على حدة، لأن القيمة التأثيرية للسخرية، كما تقول كيربرا أوركشيوني، واحدة من خصوصياتها الشكلية، فالتقابل الدلالي إنما يتم داخل الضرورات القيمية التي يفرضها العنصر التأثيري.
إن موضوع السخرية فيما يقرر الباحث يتنازعه اللساني التداولي والفيلسوف، ويمكن للمحلل لبلاغي أن يستفيد من هذا التنازع ليحدد مفهومه الخاص للسخرية انطلاقا من العناصر المتفاعلة في إنتاج الخطاب الساخر. فالعلاقة بين الساخر والهدف وكفاءة المتلقي الواقعي أو المفترض تلعب دورا أساسا في تحديد القدر الذي تأخذه السخرية من هذا المكون أو ذاك. ويمكن النظر إلى هذا التفاعل من عدة زوايا: حال المخاطب، أي قدرته على تفكيك الرموز والنفاذ إلى الغرض، وحال الساخر، أي مستواه الثقافي وقدرته على بناء السخرية، والظروف المحيطة بالخطاب ، والعلاقة بين الساخر والهدف.
وقد فحص الباحث في ضوء هذه التحديدات النظرية بلاغة السخرية الجاحظية كما تجسدت في كتاب البخلاء فنظر فيها من حيث الآليات والرؤية ليستخلص من ذلك أن بلاغة السخرية عند الجاحظ تقوم على ثلاث آليات متداخلة ومتفاعلة: 1 - الالتباس آلية تقوم عليها السخرية الأدبية في كتاب البخلاء، فبخلاء الجاحظ ليسوا فقراء ولا هم قليلو المعرفة، بل هم في مستوى عال من المعرفة والقدرة الحجاجية،فكيف يكون هذا الإنسان بخيلا وهو ذو معرفة واسعة ومصادره في الاحتجاج متنوعة؟
2 - الذهول وهو أحد المباديء الكبرى في تفسير السخرية، وأحد أهم تقنيات جلب الضحك، وقد عبر عنه أحيانا بالغفلة. ويعني الذهول أن المسخور منه شخص يقع في ذهول عن المقام فيخفق في توجيه الحجة لا في استجلابها.
3- التوريط ويعني أن الخطاب الساحر غير الخطاب الإخباري الذي يحرص على مطابقة الخطاب للواقعة حتى لا يتهم بالكذب والمبالغة، وغير الخطاب الوعظي الذي يتصدى للعيوب ويسعى إلى تقويم الاعوجاج. فالخطاب الساخر يسعف الاعوجاج ويصفق له ويمدّه بالوسائل التي تجعله أكثر اعوجاجا، حتى يكشف نفسه بنفسه.
أما من حيث الرؤية التي حكمت السخرية الجاحظية فقد بين الباحث أن الجاحظ كان يسخر من الأسئلة الزائفة في عصره التي تحركها الشعوبية والبداوة والسياسةلقد حاول الجاحظ، في إطار رؤية فلسفية وسطية، التنبيه إلى تشعب الحقيقة وامكانية النظر من زوايا مختلفة ردا على اتجاهات كانت متصادمة يدعي كل طرف منها احتكار الحقيقة. فالمسألة سياسية في الأساس، ثم أخذت أبعادا فكرية، ومارسها الجاحظ كرياضة فكرية وفنية هادفة من خلال مصادمة القيم والأفكار في صور عدة(ص:138)

بلاغة السيرة الذاتية: تقاطع الواقع والخيال
تنبثق بلاغة السيرة الذاتية في تصور الباحث من النقطة التي يتقاطع فيها التخييل (الوجدان) والتداول (الخبر) مما يشي بأن السيرة الذاتية جنس سردي يجمع بين الواقع والمفترض. وهو ما يجعلها تنطوي على عناصر شعرية ترتبط بالإدهاش والتعجيب على نحو ما تنطوي على عناصر الخبر الواقعي الصادق. يقول الباحث: لا بد في كل سيرة ذاتية من اطمئنان المتلقي ولو عبر مؤشرات حاسمة إلى وجود سند من الواقع ولا بد من وجود دهشة إزاء ذلك الواقع. ولهذه الدهشة امتداد وجداني نوعي بين الانشراح والانقباض (ص: 145 )
إن السيرة الذاتية تأرجح بين التخييل الروائي والتصديق التاريخي؛ أي أنها واقعة غي مركز التقاطع بين قطبي الإمتاع والإقناع. ومن ثم فإن الباحث في بلاغة هذا النوع السردي مدعو لأن ياخذ المكونين معا بعين الاعتبار. بالرغم من أن عنصر التخييل في السيرة الذاتية يختلف عن التخييل الشعري الذي تحدث عنه البلاغيون العرب مثل حازم والجرجاني فإن الباحث يصر على النظر بلاغة هذا النوع النثري في ضوء بلاغة التخييل الشعري الذي يرتبط بالوظيفة الأدبية الجمالية. ذظهر ذلك جليا في قول البحث إن السيرة الذاتية تقترب أحيانا من التاريخ في خطية تحول التدخل التخييلي إلى الهامش، كما وقع في حفريات في الذاكرة لمحمد عابد الجابري، دون تعويض شعري كثيف، أو تأمل يتشعب إلى آفاق واسعةع لى نحو آخر. ومن هنا يتحدث عن تراجع القيمة الكتابية أو الأدبية للنص أو يسكت عنها بما يضمن خفوتها أو غيابها (ص: 145)
يكشف هذا النص أن الباحث لا ينظر إلى السيرة الذاتية استنادا إلى معايير بلاغة السرد الروائي التي يفترض أن يقيم في سياقها هذا النوع النثري. ولكنه ينظر إليها في ضوء بلاغة التخييل الشعري؛ فالرواية بالنسبة إليه استعارة موسعة (ص: 156) ولذلك يغدو استدعاء مقومات التعبير الشعري (الصور والأخيلة) شرطا لازما لنجاح العمل السردي في نظر الباحث. كما يشي بذلك تعليقه على مقطع من سيرة شكري الذاتية السوق الداخلي اتسم بتوظيف كثيف للصور الشعرية: لا شك أن المؤلف أدرك بخبرته السردية أن الخروج من ذلك المسار الروائي الرمزي دون بديل شعري/ مدهش سيطيح بالنص (ص:157)
من الواضح أن اللغة الشعرية الإيحائية عند الباحث ضرورة تعبيرية في جنس السيرة الذاتية إلى جانب الفكرة والأطروحة إن وظفته حظيت بالقبول وإن هي اغقلته عدت عملا ناقصا. يؤكد ذلك رأي الباحث أن بعض السير القائمة على القضح والاحتجاج قد تنزلق إلى القضائحية بشكل مجاني غير وظيفي والمجانية تنكشف أكثر بغياب التوظيف الفكري والصياغة الشعرية ( ص:58)
إن بلاغة السيرة الذاتية لا تحقق في تصور الباحث إلا إذا زاوجت بين التخييل (الصياغة الشعرية) والتداول (التوظيف الفكري). وهو ما جعلنا نأخذ على الباحث انه يقيم السيرة الذاتية استنادا غلى معيار التخييل الشعري وكان الأولى تقييمها في سياق بلاغة النثر السردي.

المجاز بين التخييل والإقناع:
تعضيدا لأطروحته التي توخت إثبات أن موضوع البلاغة هو التخييل والتداول تناول الباحث في الفصل الثالث تقاطع التخييل والتداول في مكون بلاغي أثيل في البلاغة العربية هو المجاز. وقد انطلق من مفهوم البناء على الصور كما تبلور عند عبد القاهر الجرجاني لفحص مسألة التداخل بين التخييل والإقناع في المجاز من خلال حكايتين: الأولى حكاية ظهور الخمر، والثانية حكاية الشاعر الذي أعطي مـدّ شعير جائزة على ما أنشد من الشعر. وقد لحظ الباحث في هاتين الحكايتين أن الاستعارة تتراكب في طبقات، وتتحول حكائيا من أسطورة صغيرة إلى أسطورة في أسطورة، فيتم الانتقال من مستوى الجملة إلى مستوى النص، ويتم التداخل بين الواقعي التاريخي والخيالي العجائبي، وبين الإقناعي والجمالي.
لقد كشف كتاب البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول لمحمد العمري عن جهد تنظيري وتطبيقي سعى من خلاله صاحبه إلى تتبع تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية فاسخلص أن تسمية بلاغة تتردد بين ثلاثة مفاهيم كبرى:المفهوم الأرسطي الذي يُخصِّصها لمجال الإقناع وآلياته والمفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، والمفهوم النسقي الذي يسعى لجعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معاً. وقد مثل المفهوم الثالث مجال الاكتشاف الذي أراد الباحث تقديمه للقارئ العربي في مسعى لتجديد الدرس البلاغي العربي.

باحث من المغرب
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !