المدرسة هي حجر الزاوية في كل بناء مجتمعي، والمؤشرات التعليمية هي المرآة الكاشفة لدرجة الوعي والتطور في كل دول العالم. لذلك تعرف المنطومة التربوية في الدول المتطورة اهتماما خاصا يؤهلها للحفاط على مكانتها وتفوقها الإقتصادي والسياسي والثقافي. فقد أدركت هذه الدول أن الاستثمار الحقيقي يتجلى في الزاد البشري، وللمدرسة في هذا المقام دور فعال في تهيئة النشئ وإعداد أجيال من المتعلمين الذين يعول عليهم في تحقيق مزيد من البناء والتطوير.
يحضرني في هذا السياق مقطع من قصيدة مشهورة للشاعر والأديب الفرنسي " فيكتور هوغو"يقول فيه : ( ( chaque enfant qu’on enseigne est un homme qu’on gagne ." كل طفل نعلمه هو رجل نكسبه". وفي علاقة بقضية تسرب بعض مواضيع امتحانات البكالوريا ببلادنا خلال الأيام القليلة الماضية وتداولها عبر" الفيسبوك"، يحق لنا أن نتساءل عن نوعية هؤلاء الرجال ( والنساء طبعا ) الذين يتم إعدادهم في مدرستنا المغربية. فأي مستقبل ينتظرنا في ظل تنامي ثقافة الغش بشكل مخيف؟. وأية قيم تحملها الأجيال القادمة؟. الواقع أن مثل هذه الأسئلة ليست وليدة اليوم، لكنها لا تطرح إلا على سبيل التأفف أو الاحتجاج الظرفي، ثم تهدأ الأمور بعد ذلك. والحال أن الأمر جلل حقا، ولا ينبغي أن يكون مجرد موضوع للتندر أو للانتقاد المناسباتي. وعلى الجميع أن يتصدى لهذا السلوك المشين الذي أصبح يسيء لقيمة شهادة تعليمية كانت حتى عهد قريب تتمتع بسمعة عالية. ويبدو أن الطريق إلى محاربة الغش ليس سهلا، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نلقن أبناءنا نص الحديث الذي يقول: " من غشنا فليس منا"، لنكون بذلك قد حاربنا هذا السلوك. فقد تبين منذ زمن بعيد أن تأثير الوعظ والإرشاد قد فقد مفعوله ولم يعد مجديا، بل إن تلاميذنا تعلموا بالمقابل قولا ( مأثورا ) مفاده أن " من نقل انتقل "...
وبالرغم من التدابير والإجراءات التي قامت بها الوزارة المعنية في سبيل خلق الظروف الكفيلة بإنجاح امتحان البكالوريا وتحقيق الحد الأدنى لتكافئ الفرص من خلال منع المترشحين من إدخال الهواتف النقالة والحواسيب إلى قاعات الإمتحان. بالرغم من ذلك إذن فإن هذه الوسائل كانت فعالة في تسريب المواضيع من داخل قاعات الامتحان. ومن الواضح أن حجم " الغش الإلكتروني" كان مؤثرا مما حذا بالوزارة المعنية إلى الإسراع بنشر المراسلة الوزارية بشأن تصحيح امتحانات البكالوريا والتي تقضي بإلغاء كل الأجوبة المطابقة لما ورد في المواقع الإلكترونية التي تداولت تلك المواضيع وأجوبتها. لكن كل هذه التدابير- وإن كانت ضرورية بالنظر إلى دورها الوقائي - ليست إلا محاولة للترقيع. ذلك أن الغش لم يعد مجرد ظاهرة تقتضي البحث والدراسة وتتطلب مسكنات موضعية، بل إنه أضحى تعبيرا عن ثقافة ترسخت مفاهيمها بين أفراد المجتمع، بحيث أن عددا كبيرا من التلاميذ في ارتباط مع امتحانات البكالوريا يعتبرون هذا السلوك حقا طبيعيا، لذلك يتفننون في إبداع طرق وتقنيات تمكنهم من " النقيل" سواء عبر تطوير الوسائل التقليدية ( الحروز ) أو استعمال أحدث أنواع التكنولوجيات.
إن إشكالية محاربة الغش تحتاج إلى مقاربة شاملة، وتقتضي البحث عن حلول حقيقية وجذرية تمكن من القطع مع هذا السلوك اللامسؤول، ومرة أخرى تحضر المدرسة كبوابة أساسية في أفق بلورة هذا المطلب الملح. لذلك ينبغي الانخراط في إصلاح شامل وعميق للمنظومة التربوية التي تساهم السياسات المنتهجة بشأنها في تكريس معضلة الغش، ذلك أن النظام المتبع في الخريطة المدرسية مثلا بخصوص آليات التقويم و معايير النجاح أو الرسوب هو الذي يغذي هذه الآفة، فالتلميذ الذي ينتقل من قسم إلى آخر سنة بعد أخرى دون أن تتوفر فيه الشروط الدنيا للنجاح لن يجد من وسيلة لإنقاذ نفسه عندما يبلغ المستوى الثانوي وقبل ذلك أيضا إلا اللجوء للغش، مادامت إمكانياته وقدراته المعرفية محدودة ولا تحقق طموحه في النجاح بالطرق المشروعة... لذلك فإن الحل الفعال لتجاوز أفة الغش يجب أن ينطلق من الأساس. وحينها ستكون المقاربات العقابية وسيلة مساعدة للقضاء على الغش. وحينها أيضا ستكون لهذه التدابير الوقائية قيمتها، لأن نشر قيم المسؤولية والمحاسبة ينطلق من الممارسة السلوكية التي ينبغي أن ينخرط فيها الجميع وليس من المستوى النظري فحسب. محمد مغوتي. 14_06_ 2012.
التعليقات (0)