كانت البقرة المقدسة تلد في كل يوم مائة ألف عجل ومائة ألف بقرة ويشرب من لبنها كل أهل البلد كان لبنها بني اللون لكنه يبعث في القلب حيوية غريبة وتنمو معه الأطراف لتمتلئ الأذرع بالقوة والسيقان بالعنفوان وكانت البقرة ترتع في منابت النهر علي ضفتيه وأشرعة مراكب الصيادين تجوب صفحة النهر الخالد ناقلة أباريق الفخار وجرار العسل أو باحثة عن صيد سمين من بين الحشائش. كان للسلطان مخصص من لحم البقرة يتناسب مع سطوته علي أهل البلد وللعجب كانت تعوض هدا اللحم المقتطع بـأفضل منه وذات يوم طمع السلطان فأكل كبدها وقلبها فغضبت واستحالت مسخا له ألف رأس في مقدمها ومؤخرتها وامتلأ جسدها بالجروح والشقوق واعتاد أهل البلد علي أكل لحمها المهترئ وشرب دمها النازف كلما تيسر ذلك. لم تعد البقرة تلد إلا ألف فأر وألف قط وألف ثعلب كل يوم وظهر في رأسها ندبة سوداء من أسفل أنفها يخرج منها لهب أسود ابتلع طيرا أخضرا أتي من الشرق ثم صارت تنفخ دخانا غطي المدينة انتشر حتي لم تعد الشمس ترسل أشعتها التي تحولت إلي الأفق البعيد مخلفة وراءها ظلاما دامسا أغرى الخفافيش علي القدوم من كل صوب.
في ساعة من ساعات الليل ظهر فارس مقنع يلبس قبعة تبدو كأنها مظلة واسعة وبلكنة غريبة دعا السلطان مؤنبا له علي ما فعل بالمدينة الجميلة وبالبقرة المقدسة وأفهمه أنه بصدد استحضار الطبيب البيطري من وراء البحر لعلاجها. وفي صباح اليوم التالي نظر السلطان والناس إلي البحر فرأوا أهل المدينة القديمة يلتقطون من الشاطئ ما يقذفه البحر من لحوم نتنة يلفظها كلما ضربت الشاطئ موجة عالية من الزيت الأسود. جاء الطبيب فحقن البقرة في رقبتها بعقار قال أنه الشافي, تململت البقرة ورفست الطبيب بحافرها الواهن وساقها الضامرة فرشقها الطبيب بحقنة من علي البعد انطرحت بعدها أرضا واهتز جسدها ثم سكنت حينا, وحين أفاقت كان صوتها قد تغير مرة إلي نقيق الضفادع ومرات إلي نعيق الغربان.
صار الحال علي هذا الواقع الجديد زمنا بينما انحنت مع الأيام والسنين ظهور الناس ونمت لهم أنياب تطورت لتناسب اللحوم المقذوفة علي الشاطئ وبدأت مؤخراتهم تتزين بذيول قصيرة لها خيوط من الشعر السميك يمارسون بها طرد ذباب أزرق أتي مع اللحم العفن ولكن دون جدوي فالذباب يتكاثر ويملأ الأفق, بينما أخذت ألسنتهم في التآكل حتي صارت مجرد أثر يجيد السكوت غير أن أصوات الأنين تملأ الحناجر دون إفصاح عن طلب أو رجاء. إمتلأ قلب عبد الصبور وهو شاب شاخ من هول الأحداث يالحنين إلي البقرة المقدسة التي في خاطره وفي دمه فراح يمسح عنها الأوساخ بجهد جهيد فلا يكاد يمسح شعرات من جلدها حتى ينبت بين تلك الشعرات شوك يدمي يديه فيحاول مرة أخرى لعله ينظف بقعة من جلدها المتقرح الأشيب. تعب عبد الصبور من عمله العابث فجلس تحت شجرة الجميز التي لم تستطع الأحداث أن تجففها أو تقتلعها يجتر أيام الصبا ويتذكر والده وأمه وأخاه الذي مات تحت عجلات القطار السريع الذي لا يتوقف في قريته, لقد صار عبد الصبور وحيدا بذكرياته منفردا بشقائه متمسكا بحلمه القديم الذي تبدد في قدح اللبن البني بعد أن أصبح ضرع البقرة المقدسة يدر لبنا مخلوطا بالزيت الأسود مكتسبا رائحة الكبريت منذ تحولت إلي مسخ يلد الفئران والثعالب والقطط الوحشية وآثر عبد الصبور أن يعيش في حلمه القديم ويتوقف عن مسح جلدها كي لا ينبت الشوك بين شعرها الأجرب ليعيش في أوهامه وخياله الذي يرسمه كما يحلو له.
التعليقات (0)