بقلم د:ابراهيم عبد المطلب
في عام 2001 ذهبت زوجتي لزيارة مصر بعد 8 سنوات غياب. وكالعادة، طلبتُ منها أن تحضر بعض الهدايا لكي نقدمها للأصدقاء هنا في أمريكا وأكدت عليها أن تأتي بهدايا قيمة تليق بالمقام. بالطبع نحن المصريين لا نجد ما نقدمه من هدايا إلا تماثيل لبعض ملوك قدماء المصريين أو الأهرام أو أبو الهول لأنه لا يوجد في مصر شيء يمكن أن تقول عليه أنه مصري إلا هذه المصنوعات.
عادت زوجتي والأولاد من السفر بعد ثلاثة أشهر فهالني ما رأيت من تغير في الأولاد. لغتهم تغيرت، كلما أمرتهم بشيء يقولون "ماشي". أفعل هذا، الرد "ماشي". لا تفعل هذا، الرد أيضاً "ماشي". الشيء الآخر الذي لاحظته هو استخدام جملة "إنشاء الله" للتسويف بدلاً من كلمة "لا".
بعد أن استوعبت هذا التغيير و بعد أن أخبرتني زوجتي بكل الأخبار وما جرى وما لم يجري، سألتها عن الهدايا فأجابت بفخر: "أنا جبت لك هدايا هترفع رأسك. هدايا عجبت كل اللي شافوها. ومش ها تصدق لما تشوفها. أنا جبت أغلي حاجة في خان الخليلي". عندما سمعت ذلك قلت لنفسي: " جنت على نفسها براقش. آنت السبب، كان يعني لازم تقول: هدايا تليق بالمقام. أكيد افتكرت أن المقام عالي، و بحبحت أيديها في الهدايا، وخربت الميزانية. ولكن هتعمل إيه-- لقد سبق السيف العزل."
أخرجت الهدايا وهو تقول: " شوف اللي أنا جبته، عشان تعرف مراتك شاطرة إزاي، وبتوفر لك قد إيه؟" ناولتني الهدايا وكانت مكونة من بعض التماثيل الفرعونية ومجسم للأهرام ومساطر وأقلام منقوش عليها رسوم فرعونية وغيرها من الهدايا التقليدية من النوعية الجيدة. بعد أن أعطتني الهدايا قالت: "الراجل كان طاب في التمثال ده 100 جنيه، تعرف أنا أخدته بكام؟" أجبت: "بكام" قالت : "بعشرة جنيه بس؟"
شكرت زوجتني بعد أن حكت لي بالتفصيل قصة كل هدية وسعرها الأصلي وسعرها الذي اشترت به. بعد ذلك أخذت علي إصري و جعلتني أقر بأنها وفرت لي الكثير و أشهدتني على نفسي أنني من دونها كنت أشهرت إفلاسي، فشهدت، فقالت "وأنا معك من الشاهدين".
أخذت الهدايا لأعطيها لأصدقائي. أحد زملائي في الجامعة هو الدكتور فنس ماكجن Vince McGinn"" أستاذ الكهرومغناطيسيات بالجامعة. ماكجن هذا له ابن في المدرسة الابتدائية ومهتم بحضارة قدماء المصريين ويجمع الصور والتحف والمقالات عن هذه الحضارة. حينما زرتهم في البيت أروني المتحف الصغير الذي يكونه هذا الابن. لذلك وجدت أن التماثيل التي أحضرناها ستكون هدية قيمة لابن صديقي هذا. أخذت الهدايا وذهبت إلي بيت صديقي لكي أقدم الهدايا للابن بنفسي حتى يشعر أنها هدايا له شخصيا. أعطيته الهدايا ففرح بها وانطلق إلي حجرته لكي يضيف هذه الكنوز إلي مقتنياته الفرعونية، بينما أنا جلست مع والده نتجاذب أطراف الحديث.
غاب الطفل بعضاً من الوقت ثم رجع وهو في حزن شديد مطأطئ الرأس. سأله والده: ما الخبر؟" قال الطفل: "المُدرسة في المَدرسة أمدتني بمعلومات خطأ عن الأهرام والملك توت عنخ آمون." اندهشنا لهذا القول فقلت: "كيف؟" قال: "هي أخبرتني أن الأهرام موجودة في مصر، لكن أنا اكتشفت أنها موجودة في الصين؟" اندهشنا لهذا القول، ونظر إلي والده لكي أجيب على ذلك. أحسست بالواجب القومي يناديني أن أدافع عن كرامة مصر وعن أجدادنا الفراعنة وآثارهم. أحسست أن الجميع يريد أن ينسبوا أجدادنا إليهم ويغتصبوا حضارتنا القديمة. فالإسرائيليين يدعون أن اليهود هم من بنوا الأهرامات والآن الصين تدعي أن الأهرامات موجودة في الصين. ألا يكفيهم سور الصين العظيم؟ يريدون أن يأخذوا الأهرامات أيضا! إنها فعلاً مؤامرة!
قلت للطفل: "الصين عندها سور الصين العظيم لكن مصر فيها الأهرام والملك توت." أجاب الطفل: "هذا ليس صحيح وسأثبت لك." خرج الصبي وعاد معه كيس الهدايا الذي أعطيته إياه. أخرج الهدايا ووضعها أمامي وقال: "انظر مكتوب إيه "صنع في الصين" Made in China أكيد الأهرامات في الصين. قلت موضحاً ومبتسماً: " الأهرام الحقيقية في مصر لكن التماثيل مصنوعة في الصين." قال: "لما الأهرام في مصر لماذا لا تصنعوا التماثيل في مصر؟ أنا أريد تماثيل من مصر."
حاولت أن أشرح له الفرق بين التماثيل الحقيقية والتماثيل الهدايا ولكنه بدأ يفقد اهتمامه بالموضوع وتركنا وسار خارج الحجرة. صاح والده طالباً منه أن يأخذ الهدايا فرد الصبي: "لا أريدها، إنها مزورة." قالها بالإنجليزية (It is fake). اعتذر والده عن ما قاله الصبي، لكني كنت في حالة من الخجل حاولت أن أداريه فابتسمت وغيرت الموضوع.
ما حدث أثار في حلقي غصة وجعلني أسأل نفسي: كيف وصلت مصر إلي هذا المقام؟ لا تستطيع صناعة أقلام رصاص منقوش عليها رسوم فرعونية أو صناعة تماثيل من الجبس لملوك الفراعنة؟ هل الصناعة المصرية بهذا السوء لدرجة أننا نستورد أقلامَ الرصاص من الصين. كيف وصل المشروع الصناعي المصري إلى هذا المستوى؟ ما هي عوامل الفشل؟ وما هي أسباب النجاح؟ هذه الأسئلة جعلتني أفكر في دراسة مسيرة مصر الصناعية وأسباب تعثرها وكيفية النهوض بها.
بعد هذه الحادثة بشهر وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي قام فيها مجموعة من أنصار أسامة بن لادن بتفجير برجي التجارة في نيويورك وضرب مبنى البنتاجون في واشنطن. طغت على اهتماماتنا أحداث الحرب على أفغانستان والعراق وكذلك ما يحدث للفلسطينيين. أظهرت هذه الأحداث هشاشة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصناعي في مصر والدول العربية. لإحساسي بأهمية هذا الموضوع قررت أن أبحث موضوع الصناعة في مصر و أن أكتب عدة مقالات لعلها تفتح مجال للنقاش والتعليق والمشاركة.
التعليقات (0)