البرقع بين باريس ولندن!
بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
موقفان متزامنان على جانبي بحر المانش يعبر كل منهما عن رؤية مختلفة ويلخصان تاريخا من الاختلاف ميز بريطانيا (ومن بعدها دول التشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني البروتستنانتي) عن اليابس القاري الأوروبي في رؤية كل منهما للهوية والعلاقة بين الدين والدولة. فبينما ينشغل البرلمان الفرنسي بمناقشة قرار لحظر النقاب "البرقع" تعلن بريطانيا "رسميا" رفضها حظر البرقع وهي المرة الانية التي يصدر فيها موقف رسمي بريطاني يدين صدور تشريع فرنسي يمس إحدى الحريات الدينية، وكانت السابقة الأولى عندما أعربت الخارجية البريطانية عن استنكارها لصدور قانون حظر الرموز الدينية الذي عرف باسم "قانون الحجاب".
ولهذا التمايز بين موفقي باريس ولندن أهمية معرفية تتجاوز السجال الديني، قد كان من التعليقات الملفتة على نتيجة استفتاء حظر المآذن بسويسرا أن طرح الموضوع للاستفتاء هو بحد ذاته خطأ. وبالتالي فنحن أمام رؤيتين مختلفتين لحدود الحرية ونطاق سلطة التشريع التي يجوز للدولة أن تنتدب نفسها لتنظيمها. ومن الناحية الثقافية تعكس استطلاعات الرأي أن معظم الناخبين الفرنسيين يرغبون في فرض حظر على ارتداء النقاب، رغم قلة عدد النساء اللاتي يرتدينه في فرنسا ما يعني أن بحر المانش يفصل فعليا بين ثقافتين بل عالمين. وفي الوقت نفسه أعلن رئيس حكومة الدنمارك لارس لوكي راسموسن أن لا مكان للبرقع والنقاب في الدنمارك!
الحكومة البريطانية في المقابل أعلنت "رسميا" أنها متمسكة بحزم بالإبقاء على حرية التعبير عن القناعات الدينية بالملابس عكس بقية الدول الأوروبية. وموقعها على شبكة الانترنت قالت "إنها لا تشاطر فرنسا موقفها". ولا يوجد قانون يمنع ارتداء البرقع أو النقاب في بريطانيا ووضعه مشابه لوضع الحجاب المسموح ارتداؤه أينما كان. وتقول الحكومة البريطانية على موقعها "نحن في المملكة المتحدة مرتاحون للتعبير عن المعتقدات الدينية، سواء في ارتداء العمامات أو الحجاب أو الصليب أو.. .. وتشكل هذه التعددية جزءا كبيرا من هويتنا الوطنية وإحدى مكامن قوتنا". والفارق بين الرؤيتين البريطانية والأوروبية – ذات الجذور الفرنسية لخصه قول المتحدث باسم المنظمة الإسلامية ببريطانيا قائلا إن فرنسا وباسم العلمانية تحولت إلى بلد متطرف!
وحتى عندما ظهر في بريطانيا من يدعو لحظر النقاب فإن الحوار الذي أثارته الدعوة أكد أن بريطانيا متمسكة بتقاليد راسخة في مجال حرية التعبير عن المعتقد الديني. فقد دعا حزب "الاستقلال" اليميني المتشدد، الذي يمثله 31 عضوا بالبرلمان الأوروبي، لحظر ارتداء البرقع في بريطانيا، زعيم الحزب اللورد بيرسون برر دعوته بقوله: "نحن لا نضطهد المسلمين، لكن هذا الأمر (ارتداء البرقع) يتعارض مع القيم الديمقراطية في بريطانيا".
وفي المقابل حذر مسئولون بريطانيون من الدعوة لحظر البرقع، معتبرين أنه سيضرب بـ"القيم الديمقراطية والحرية الدينية في بريطانيا عرض الحائط"، فيما قالت سلمى يعقوب رئيس حزب "الاحترام" البريطاني "لسنا بحاجة إلى رجل أو امرأة تكون وصية على الناس وتأمرهم بأن يرتدوا زيا بعينه.. ..وما دام أن المسلمات البريطانيات لا يفرضن ارتداء هذا الزي على الآخرين، فمن حقهن أن يرتدين البرقع". ويحذر مناهضو حظر البرقع من أن قانونا بحظره سيكون انتهاكا كبيرا للقيم البريطانية، فبريطانيا تتمتع بحرية التعبير وحرية العبادة.
وفي مقابل التأييد الكبير في الشارع الفرنسي تواجه دعوة حزب الاستقلال البريطاني رفضا في الشارع البريطاني إذ يرفض أغلبية البريطانيين أن يكونوا في مجتمع يفرض على مواطنيه ارتداء زي دون زي آخر، بل إن هناك من يقول بوضوح إن فكرة حظر ارتداء البرقع ليست بريطانية!!
إن التضاد التام بين قناعة الفرنسيين وغيرهم من الشعوب الأوروبية، الذين تستند دساتيرهم إلى مبادئ الثورة الفرنسية، بأن النقاب عدوان على الحرية، وبين قناعة البريطانيين بأن النقاب مصدر قوة لتعددية بلادهم يشكل درسا مهما في قواعد الاجتماع الإنساني. فحدود الديموقراطية والنطاق الذي يجوز للدولة أن تدخل لتنظيمه ليست قضايا محسومة كما يبدو من السائد في الخطاب التحليلي العربي، وهو خطاب يتبنى الرؤية الفرنسية بدرجة من التشدد تجعل بعض مثقفينا "ملكيين أكثر من الملك".
والافتراق الذي حدث بين مسيرة دول اليابس القاري الأوروبي من جانب، وبريطانيا من جانب آخر، ما زال يشكل مفترق طريق على طريق اختيار نموذج التنظيم السياسي. وهذا يجرنا للبعد الأكثر أهمية بالنسبة لعالمنا العربي، فمعظم الدول العربية في مرحلة التحرر الوطني اختار الجمع بين سمات النموذجين الفرنسي والألماني في التنظيم السياسي، ولأسباب تاريخية كان هناك عزوف مقصود عن الاستفادة من تجربة شديدة الثراء هي تجربة التشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني البروتستنتي.
فهل يتحمل هذا العزوف المتعمد عن الاستفادة من تجربة التشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني البروتستنتي المسئولية – ولو جزئيا – عن مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية في الواقع العربي ساهم في تفاقمها قلة كفاءة نموذج التنظيم السياسي الذي اختارته نخب التحرر الوطني العربية؟ وبخاصة لجهة قضايا الهوية والعلاقة بين الدين والسياسة والعلاقة مع الأقليات الدينية والقومية والمذهبية؟ وهل ساهمت اختيارات سياسية ما في تحديد أولويات العرب السياسية والثقافية خلال نصف القرن الماضي بحيث تحول نموذج التنظيم السياسي من وسيلة لبناء عالم أفضل غايته الإنسان، إلى دوجما لا يجوز الخروج عنها بل أصبحت هذا الدوجما الملهم لعمل مخطط لـ "تغيير الإنسان" ليتوافق مع نموذج التنظيم السياسي!
وهذا هو نفسه الفارق بين موقفين من "البرقع" يفصلهما بحر المانش!
التعليقات (0)