مواضيع اليوم

البربرية بين المفهوم والتمظهر (3)

محمد سعيد مزوار

2016-08-13 10:34:24

0


كانت البربرية مرشحة لأن تكون شاهدة على لحظة خلق أخرى شبيهة بتلك التي شهدتها الإنسانية متفجرة بعد الحرب العالمية الثانية، للمرة الأولى في تاريخها، توفرت للبربرية فرصة صياغتها النظام الدولي بطرائق من شأنها أن تعزز مكانتها الوظيفية وتخدم تأثيرها دون أي معارضة من جانب خصم قوي، مصمم، فالإنسانية منهكة سائرة على طريق إشاعة القيم، ليست متمتعة لا بالقابلية ولا الرغبة اللازمتيْن لتحدي النظام البربري الجديد، ومع أنها تحولت إلى القمع الفظ عالميا فإن المعلومة بعيدة عن أن تكون قد بدأت بزيادة قدراتها الفعلية، وبدلا من التفكير بالمبادرة إلى تحدي سيطرة البربرية وهيمنتها، فإن الإنسانية أصيبت بالذهول والرهبة إزاء الجبروت العسكري والتفوّق الاعلامي اللذين أظهرتهما البربرية في الحروب الجديدة (حروب الفسفور الأبيض، والقنابل العنقودية).

غير أن بريق الوعد الكبير لحقبة ما بعد الانسانية ما لبث، على نحو مباشر تقريبا، أن بدأ يخبو، حتى قبل ظهور الارهاب العالمي، فالبربرية التي كانت قد حشدت القوة العسكرية الأكثر إثارة للرعب لطرد الارهاب من الكون، أخفقت في ايصال تلك المهمة إلى نتيجتها الملائمة، المتمثلة بإزاحة الرعب عن الانسانية في العالم، بدلا من ذلك اتخذت البربرية المتفوقة تفوقا كبيرا موقف المفرج بخصوص الأضرار الجانبية، فيما تعرضت التقاليد العرفية للإصلاح في حالات التنازع للسحق الوحشي وبدأ الجلاّد الإنساني، وهو الخائف على حياته قبل قليل، بإعادة فرض تحكمه على المنظومة الأخلاقية، هذا ما حدث بالفعل، وعلى الأرض كانت حرب مدمرة باسم التسامح الديني في كوسوفو على سبيل المثال.

يرى ادغار موران بأن هناك بربرية دينية سارت بجانب التسامح الديني إذ يقول: "... في القديم، كان لكل شعب من شعوب الشرق اله حربه الذي لا يرحم الأعداء. ومع ذلك، سمح تعدد الآلهة بالتعايش بين مختلف الآلهة. ولقد تمكن تعدد الآلهة عند اليونان من استقبال فيما يبدوا اله بربري عنيف، اله السكر، اله الـ (hybris): ديونيزوس (Dionysos)، وتبيّن المسرحية العجيبة لـ: أوريبيد (Euripide)، المعنونة بالكاهنات (Bacchantes)، الوصول الأحمق والمدمّر لهذا الاله.... "

كان من شأن الدين البربري إن جاز استعمال هذا المصطلح بدل الدين المتطرّف، على طريقته أن يشكل مصدر أزمة بعد أخرى على امتداد الرقعة الزمنية على العموم، وكل من هذه الأنظمة الدينية والاعتقادية يبدوا واثقا من البقاء إلى ما بعد نهاية البشر، ومن الاستمرار في التسبب بسلسلة من المطبات الخطرة لكل من الانسانية وكل قيمها السمحة، ولقد أدى عالم ما بعد الحروب الصليبية والحروب الدينية، ألا وهو المبدأ الذي يقول بأن رجال الدين يستطيعون تحدي السلام، ذبح الأبرياء في بلدانهم هم، وفي البلدان المجاورة، تهديد البلدان المجاورة بهجمات صاروخية، مع الاستمرار في التمسك بالسلطة، يشكل هذا اخفاقا كبير في قيم الأديان، إخفاقا لن يتوقف بكل تأكيد، عن العودة مرة بعد أخرى ليقض مضاجعنـا أيها السادة.

إلا أن هذه لم تكن الاخفاقات الوحيدة التي جعلت الانسانية خانة الفرصة المضيعة بالنسبة إلى سياسة المبادئ الروحية، لقد شهدت الظاهرة الانسانية أيضا صعود بربرية ناعمة، بربرية مبررة إعلاميا، ففي حين أن كل بربرية كبرى في هذا العالم ظلت دائبة على تقليص إنسانيتها، وحدها الانسانية باشرت في بناء قدرات عملاقة، لم تنجح سوى في اعطاء شرعية أخرى للبربرية، البربرية التقليدية في مسعى منها إلى الاختباء والتخفي، فما معنى أن يتحدث مسؤولو الأمم المتحدة عن ادانة للأسلحة الذكية؟ بينما لا يتحدث أي أحد منهم عن ادانة للسلاح بكافة أنواعه، وكأنما القتل بالسلاح الذكي حرام، والقتل بالسلاح التقليدي أو السلاح الأبيض حلال طيّبا.

 وفي مواجهة زحمة التحديات الأخلاقية-المعنوية والاستراتيجية المنتصبة أمام الضمير الإنساني، فقد انخرط في عملية نزع شوائب الشرعية بطريقة متدرجة ولكن مطردة على الصعيدين الأخلاقي-المعنوي والاستراتيجي كليهما.

فبدلا من السعي إلى خلع نظاميْن خطرين في كل من البربرية الدينية والسياسية، قامت الانسانية بالمزاوجة بين تهديدات التطرف الديني، وتهديدات التعجرف السياسي، لينتج عن ذلك: بربرية الدين السياسي.

من الممكن أن نلمح في الأفق تحديات أدهى وأمر، منطوية على حشد هائل من الأسئلة التي تتعذر الإجابة عنها، ما الذي سيحرّك المقدّس من دين وأيديولوجيا وتوجه باتجاه البربرية أو الانسانية؟ وما هو سبب هذا الاندماج بين البربرية والانسانية، فالبربرية كمحرّك والانسانية كغطاء لهذا المحرّك البربري؟

يتعيّن على التفكير الجدّي بذلك الدور الإنساني أن ينطلق من محطة استحضار جملة تلك المبادئ التي وجهت القيم المدنية خلال الفترات الأنجح من حقبة الحروب البربرية، عدد غير قليل من الكتاب يتعاملون مع استراتيجية البربرية في الحرب على أنها نوع من الانحراف عن جادة التاريخ الانساني المتسامح.

لا يسعني إلا أن أشعر بأن هناك شيئا يدعو للسخرية في أن يكون المرء إنسانيا من هذا الطراز، ويتعيّن علي أن أقرّ بامتلاك نوع من التعاطف المكتوم مع أولئك المتطرفين الشباب، الذين يصنفون البربرية ضمن خانة الجريمة، فينتسبون إليها دون إرادتهم أو رغبتهم في فعل ذلك، ليست السخافة سوى سخافة التأليه الوثني، سخافة إضفاء ثوب الواقع على ما هو رمز، ثوب الغاية على ما هي وسيلة، قد يتعذر أن يكون هدف الإنسانية متمثلا بواسطة آليتها السياسية الخاصة أداءها لوظيفتها بلا نهاية، وهدف أي نظام إنساني إن هو إلا بلوغ صيغة من صياغة الحياة الجيدة والمجتمع الجيّد، من غير الصعب على الاطلاق تصوّر نظام إنساني ناجح تماما يقدم أجوبة عن جميع الأسئلة باستثناء سؤال واحد: ما الذي يوجب على أي شخص متمتع بالعقل والروح أن يبالي بمثل أي نوع من البربرية إن لم تمسه بشكل مباشر وحاسم؟

يحاول ادغار موران في رأيي الاجابة قائلا: "... كما تشهد على ذلك مجزرة سطيف المرتكبة في اليوم الأخير للحرب، أي في 8 ماي 1945م، والاغتصابات العديدة إبان حرب الجزائر (...) نلاحظ اندفاعا هائجا لخمسة قرون من البربرية الأوربية، خمسة قرون من الغزو والاستعباد والاستعمار. بالطبع، لقد ترافقت البربرية بل حملت مفعولات حضارية..."

ثمة، على أي حال، فكرة أقدم عن البربرية، فكرة ظلت سائدة حتى بدايات القرن الواحد والعشرين، حيث ينطوي تصور نوعية الحياة العامة بالنسبة إليها على أهمية حاسمة على نحو مطلق، تنطلق هذه الفكرة من الأطروحة التي تقول إن البربرية شكل من أشكال حكم الذات، وإن عليك، إذا أردت أن تجعلها كيانا إنسانيا حميدا، أن تبالي بنوعية الناس الذين يتولون إدارة دفتها. إنها، في الحقيقة، تطرح المسألة بقوة أكبر وتعلن أنك لن تصبح، إذا كنت راغبا في حكم الذات، مؤهلا ما لم تغد تلك الذات جديرة بالحكم. ليس ثمة أي حق طبيعي في حكم الذات، إذا كان يعني أن مثل هذا الحكم شريرا، حقيرا، فاسدا ومنحطا، ما من أحد سوى شخص جامد عقائديا ومتعصب، شخص يضفي صفة الألوهية على الآلية البربرية، يستطيع الموافقة على حكم الذات في ظل مثل هذه الشروط.


الهوامش:

1.     جمال ابراهيم، كفاحي.. أدولف هتلر، الحرية للنشر والتوزيع، 2012م

2.     مارغريت تاتشر، "تهديدات جديدة حلت محل التهديدات القديمة"، هذه المادة مأخوذة من محاضرة مؤسسة جون فندلي غرين بكلية وستمنستر، فولتن، ميزوري، وقد ألقيت في 9/3/1996

3.     ادغار موران، ثقافة أروبا وبربريتها، ترجمة: محمد الهلالي، دار توبقال للنشر-الدار البيضاء المغرب، ط: 1، 2007

 mezouarms@yahoo.co.uk

 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !