مواضيع اليوم

البحر والذاكرة المثقوبة

عبدالرحمن هنانو

2009-01-10 23:18:05

0

البحر والذاكرة المثقوبة

قصة قصيرة
بقلم : عبد الرحمن هنانو “أبو سمراء”

الجزائر:فيفري1996

أطال النظر إلى جثته الواهنة ثم قال لصدى غرفته الخالية تقريبا، قال في صمت :( حتى لا يعتقد في نفسه الجنون)
- مجنون من يصدق الدنيا
تشهق عيونه الذاهلة، يرتسم الحزن في خياله، يرى جسده في خلوته الليلية وكأنه مركون بالصدفة كأي شيء رماه بعد انتهاء مدة صلاحيته مستعملوه،أو كلعبة تسلى بها الطفل المدلل ثم تركها إلى حين إياب..
لم يضف شيئا، راح يعاكس الزمان، يغازل وحدته، يرتل آيات أيامه، يباهت ذاكرته المثقوبة.
الغرفة مضاءة، دافئة، الأشياء مصنفة ومنظمة،ماعدا بعض الكتب والأوراق والأقلام ورسائل كتبها إلى أصدقائه ولم يرسلها، بعضها كتبت من مدة لا تقل عن سنة.
مد يده بإعياء، أخذ إحدى الرسائل، كانت لغتها جميلة مملوءة أملا وإشراقا، فيها أشجانه، أحاسيسه، قال سيفصح سيصفح وسيفتح صفحة جديدة…
لم يتم قراءة الرسالة رماها بعنف وقال:
- اللعنة (بعنف، بصوت غائر في الصمت)
….فتحت ذاكرته وسدت ثقوبها.
-البحر جميل يمكنه احتواء أحلامنا، وأن يكنز أسرارنا(قالت عند لقائنا الأول)
-البحر لم يرحم طيبتها، غار من جمالها.
كنا نرتشف فناجين القهوة، وكانت تصر مشاركتي علبة السجائر،وكان البحر يمدنا بنسيمه ومركب “القيطاني” تلفنا شرفاته، تتحدث فيفوح فوها ورودا وأريجا، كانت تحدثني عن أحلامها عن تفاصيل يومها الجامعي:
قالت لي يوما:
-” تصور لو لم يكن في الدنيا بحر كبحرنا هذا… !

لم أكن في تلك الدنيا. لا يمكننا الإحساس بوجودنا بعيدا عن هذا الجمال وهذه العظمة، أحس أنني جزء من هذا البحر”
أخذها البحر، توحدت به حبيبتي تصوفت، انتمت إلى البحر، انتهت إليه، في مساء ما ذهبت فيه بفرح وجنون.
ختمت رسالتي ، ختم قلبي ولم تنبس شفتاي، قيل انتحرت، لم تنتظر الوهج الذي سكنني، وأنا أرى غريمي يضمها. لم أعتقد أنه مجنون بجمالها، وأنه لن يرحمها.
لم تتوقف ذاكرته المثقوبة، مضى بقلب يتفطر حسرة على هذه الدنيا التي يراها معرضة عنه إلى نهايتها والناس البائسين.
على ولد سي مبروك الزاوالي( هكذا كان يدعوه أهل بلدته في الحقيقة أنهم جميعا “زوالية” لكن الأقدار جعلته ينوب عنهم باللقب).
شاب معتدل معروف عنه العقل المستنير والخلق الدمث، قامته قميئة ملفتة للانتباه، بين جوانحه روح خفيفة، وقلب سريع وجيبه كله حيوية ونشاط، يحب الترحال، لا يعرف له مستقر من بلد إلى بلد “كان اهنا وامشى” يعمل حيث حل لا يعجبه واقعه دائما يرى أن الميزيرية تترصده ولقب أبيه كذلك،أصر على نزعه..(كان مؤمنا أن الفقر ليس عيبا ولكن كاد أن يكون كفرا). لم تجده عبقريته وثقافته الواسعة التي اكتسبها من أسفاره الذكية ومعاشرته الكتب ورجال العلم والثقافة.
مسكين علي لم يكن حظه أحسن من حظي التعيس، بين ليلة وضحاها أصبح إرهابيا. يا هذا الزمان البارد…
علي الرجل الطيب المثقف يصبح قاتلا..مجرما..كنت أخفي ابتسامة عريضة كادت أن تولد تبدي إزدراء وهو يقول:
- سأخلصكم من البيروقراطية والرشوة والتلاعب بمصالحكم،لم أضحك حين ضحك جميع التعساء البائسين. قالوا آنذاك: لعله حصل على خاتم سليمان..!
نوى شرا، لم يخطر على بال أحد..فهم يعرفون علي ولد سي مبروك الزوالي.. !
ظنوا أنه سيقلد منصبا عاليا ينفعهم، علي له معارف (واصلة)، لم يظنوا أنه يبيت على مصيبة ستقع على رأسه ورأس أهله ومعارفه في البلدة المعدمة…
قابعا في مكتبه الوثير حين دخول علي ولد سي مبروك الزوالي غضب الرئيس وصاح في وجهه:
-من سمح لك بالدخول؟
-أنت..
–أنا !!
- نعم .هلا سألت نفسك ،ألم أطلب مقابلتك منذ شهر ولم تسمح لي؟ كما لم تسمح إلا لأصحابك وأصحاب الصكوك والمشاريع الوهمية..
-قاطعه:
-أخرج على ر..نا..
كان الغضب يفر من عينيه والشر يتطاير منهما والحنق كاد يخنقه وأمسك به لجره خارج المكتب، ولكن السكين كانت أسرع إلى بطنه المنتفخ، صحبتها صرخة مدوية وارتطم بالمقاعد الوثيرة وانتكس كأنه الجمل على الأرض ويداه تحاول عبثا أن تسترجع السكين.
لم يصدر صوته خارج المكتب، لقد كان حريصا على عدم سماع مناقشاته واتفاقاته. الأبواب كانت مكسوة بالجلد وعازل الصوت.
منتفضا خرج علي من الباب الخلفي. لم ينتبه أحد من عمال البلدية، في سرعة اختطفته سيارة وغابت عن الأنظار في هدوء واجم على االبلدة.
فزعت القرية بعد وقت قصير وأعلنت حالة الطوارئ والكل شاردا متهيبا منتظرا دوره للاستجواب.
قيد اسم علي ولد سي مبروك الزوالي في قائمة الإرهابيين المفتش عنهم، وضعت السيارة كشاهد ثانوي ومهم في ملف القضية المبهمة.
-هيا أسرعوا، لا تتركوا شيئا في السيارة أسرع.
هرولوا نحو المجهول وبقيت السيارة في أحد مخارج القرية مهجورة، بعض الشهود تعرفوا عليها إذ رأوا علي الإرهابي ولد سي مبروك الزوالي وهو يركبها وتنطلق بسرعة مجنونة. الفاجعة كبيرة، سخط أهل القرية و تأسفوا لما شاع الخبر مقرونا باسم علي ولد الزوالي، وكثر الحديث حول الموضوع في الكواليس، لكن لا أحد يتجرأ على الكلام في الأماكن العامة.
إيه يا علي لقد غرقت في بحر بلا شطآن..لك في خريطة حياتي مدينة مطفأة الأنوار، القرية لم تعد تنكت بقصر قامتك وتفخر بثقافتك وشجاعتك وقوتك، انقلبت الآية عليها وعليك، الكل يلعنك. ذل أبوك وازداد “إزولالا” وتعاسة.
خربت ذاكرتي، أغرقتني في بحر هواجس هذا العالم اللعين جعلتني أفتش عن نفسي بين الهموم في محاولات يائسة لا تقل عن محاولات “السمكة التي تبحث عن طعامها في البحر بعرق جبينها” عليك الآن اللعنة والحسرة يا الزوالي المسكين.
اللعنة..دنيا نتنة، رائحة البراز تزكم أنفي… وبلاهة أهلها.. المتنمردين أهلكوا ذاكرتي هم أيضا.
قشور…نخبتهم منتقاة بعناية ساذجة..تدخل مكاتبهم تتقزز من مناظرها المزعجة يتوسطهم مكتب مؤثث محشو بأفخر الأرائك.لكن ينعدم الجمال فيه، يقف أمامك المسؤول الأنيق، الجميل في مظهره، روائح فواحة، لإستقطاب الموظفات المكتنزات، الرقيقات، نظارات ذهبية تعلوها جمجمة مفرغة من تحصيلها. لم يرفع كتابا منذ إجازته الجامعية.
-آسف لا يمكن قبول طلبك لهذه الوظيفة..
-مستعد لمسابقة.لدي خبرة لا بأس بها في مجال الوظيفة الشاغرة.
-الخبرة خمس سنوات شرط.. لكن الشهادة الأكاديمية شرط إلزامي، والإعفاء أو أداء الخدمة الوطنية.
-أديت الخدمة العسكرية، ومذ ولدت وإلى الأبد في الخدمة الوطنية، ما عدا الشهادة الأكاديمية. ألا تكفي خبرة ثماني سنوات . والمسابقة؟(وأضاف قائلا):
-المسابقة تؤكد قدرتي العلمية والمهنية أو عدمها..
-آسف.. أعرف ..قرأت أبحاثك العلمية وسمعتك المهنية، الوظيف العمومي لا يسمح لك المشاركة في المسابقة.
-إذن شكرا إلى اللقاء.
-اكرر أسفي هذا هو القانون.
اللعنة ، دنيا نتنة رائحة البراز تزكم أنفي.. وبلاهة أهلها..المتنمردون سحقا لكم جميعا، خرمتم ذاكرتي أنتم أيضا.
أين أنت ؟ عليك لعنة التاريخ ..حتى اللعنة تتماطل،” خدعوها بقولهم حسناء” يا غانية تفجرين دماغي ولا تنفجري، شظية منك تحرر ذاكرتي، تفيض البحر المتوحش، تنبجس عيون الصبايا في مده وجزره، ينبت العشب في الأكف القاحلة.وا أسفي هذه القصة المملة تستل روحي من بين شرايين قلبي وجيبه يتسارع، يشلني ويجمد الدم ركبتاي كما يجمد “سيدي الطالب - شي اله بيه - الماء في إناء جدتي الخرفانة” أين انت؟ هل “صلوا عليك صلاة الجنازة وأمضيت الأربعين بدون إجازة”
مازالت أحزانهم تطاردني، تعاسة ، بؤس، فقر، وغباء، جوع واغتراب”يا ديار الرحمة، لالحمة ولا شحمة، العظم لقمة والدم جغمة” خزي وعار” عليكم يا رجال مكناس”
ومازالت أحزانهم تطاردني، ما باليد فضيلة، أنجاس ، سلوك وسخ، لن يصلح
الدار ألف عطار، حتى العطور مغشوشة، الملفات مغموسة كل شيء “va bien ” دعه يمر.
-أهلا بك تفضل.
- شكرا
- وين هو الدوسي؟ وأضاف مدير الإمتحانات قائلا، منبها):
-واش راه انتاعنا..؟
-لا بأس هاو كل شيء ثمة.
-حتى الـ…
-كل شيء…
- وكتا تحب تبدا..؟
-ماذابيا ذرك .لكن حبيت أنڨلك باللي شهادتي ما هيش في ال..(يقاطعه):
- مش مهم، غدوة على الثمنية تبدا، ما تنساش الشخشوخة.
أف ف ف ف، نفث الدخان متأففا/ متنهدا، لستغفر الله وهو قابع مكانه يراجع شريط الزمن المتلاشي، وجوه ضبابية، احلام سرابية ، شتم ولعن في قراره وهو يكاد ينفجر غيضا وكمدا. ذهنيات بالية سكنت واستقرت سواد الناس. انتفض من فراشه الذي كلَّه، متقدما من نافذة غرفته، النور متسرب إليها، فتحها يستنشق عبير الصباح الجديد قبل أن تلوثه الجثث المتحركة في قريته استغفر واستعاذ من كل ذنب عظيم.
ارتدى ملابسه بعدما قضى ضروريات الصباح الباكر، توجه نحو الباب مستقبلا الدنيا وأناسها صافحا عنهم، مادا يده طمعا أن يزيل عن مستقبله الوهن بعضه ويرقع معهم البال نزرا منه
-مبروك علينا، لقد سلم نفسه تائبا.
-من..؟
-سي علي ولد سي مبروك الزوالي.
-هذه رحمة القانون.
-قانون الرحمة نعم لقد آتى أكله.
-الله يسعدك، كما أسعدتني مع الصباح، هذا خبر سيعيد الحياة إلى قريتنا من جديد.
-إيه يا علبي الزوالي الإرهابي التائب، خرجت إلى شاطئ الأمان الذي لم تعرفه حبيبتي
.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !