مواضيع اليوم

الانسان من فردوس السماء الى جحيم الآلة

نزار جاف

2010-03-26 09:16:41

0


"أيهما أفضل وأقرب لروح وعقل البشر، أن يموت الإنسان و[يصبح] عدما أم يموت ويحدوه الأمل في أن يبعث لحياة أبدية في عالم مثالي؟"
هذا السؤال طرحه شاب في مقتبل العمر في ندوة فكرية قدمت فيها بحثا حول مسألة الوجود من المنظورين الديني والفلسفي وتقييم ذلك من الناحية العلمية قبل عدة أعوام مضت، ولا أخفي أن ذلك السؤال قد هزني من الأعماق وبشكل غريب لم أألفه من قبل.

لقد جعلني ذلك الشاب في مواجهة كل محصلتي الفكرية التي اشرأبت بها قناعاتي لغاية ذلك اليوم ووجدت نفسي في مواجهة نفسي قبل أن أكون في مواجهة الواقع، وحينها لم أجد بدا من الإقرار بأن الخيار الثاني هو الأفضل و الأقرب للروح والنفس الإنسانية. إن الإنسان وهو يخوض عالم الفكر والثقافة وينهل من روافدهما قد لا يجد في كثير من الأحيان تلك الفرصة المواتية التي يخلد فيها إلى ذاته ليرى مدى ترسخ تلك الحصيلة الفكرية في عقله ووجدانه ومدى إيمانه الفعلي بها بعيدا عن عوامل الانبهار الوقتي التي يكون تأثيرها الآني على المرء كبيرا وخطيرا جدا.

فيلسوف مثل "برتراند راسل"، وجد نفسه ذات يوم وهو يقود دراجته الهوائية وفي لحظة تأمل فكري، أنه لم يعد يحب "أليس" زوجته، لذلك أنهى تلك العلاقة التي لم تعد أهم ركائزها باقية في وجدانه. ورغم أن مسألة مواجهة الإنسان لنفسه ومحاولة الخروج بمحصلة نهائية من فهم الماهية الحقيقية لأفكاره تبقى من أهم الإشكاليات التي يجهلها الإنسان ولفترات طويلة من حياته.

إن كاتبا كبيرا مثل "نيكولاي غوغول" قد اهتزت كل قناعاته الفلسفية المادية حينما كان في النزع الأخير من حياته، كما أن كاتبا مثل الدكتور "مصطفى محمود"، قد هزت أعماق قناعاته الفكرية بضع من حبوب البقوليات المتيبسة التي وجدها في أحد المواقع الأثرية للفراعنة "كما يروي في كتابه رحلتي بين الشك والإيمان" ودفعته للعدول عن أفكاره المادية وجعلته يغوص في أغوار الدين الإسلامي حتى بات يتكلم عن "الموسيقى الباطنية" في القرآن، وهو الكاتب ذاته الذي كان يصور مسألة إيمان الإنسان بفكرة الإله - كما صور ذلك في كتابه (حوار في منتصف الليل) - بشكل قد لا يبدو قابلا للهضم في الشرق المتدين كله إذ قال الدكتور محمود ما معناه أن خوف الإنسان من الإله هو مثل ذلك الخوف الذي يرتسم في عين الكلب وهو يبصر ورقة طائرة في الجو! ولست أجد أن غوغول أو مصطفى محمود كانا غير مقتنعين بأفكارهما السابقة ولا رافضين لها، بل كانا ينهلان ويغرفان من ينابيع الفكر والمعرفة الإنسانية من دون أن يواجها نفسيهما في الموقفين الآنفين، غير أن كلا الكاتبين لم يأتيا بشيء جديد للفكر المثالي "الديني" بقدر ما خرا مذعنين صاغرين أمام فلسفة الوجود وفق الرؤيا الدينية.

وفي الجزء الأول من رواية"المراهق" للكاتب الروسي العظيم دوستوفسكي حيث يقول على لسان دولجوروكي "بطل الرواية" جملة استوقفتني هي الأخرى ومفادها: (رب أديب يسلخ من عمره ثلاثين عاما في الكتابة، ثم يجهل آخر الأمر لماذا كتب طوال هذه السنين) إذ إن دوستوفسكي تحديدا حين يسطر مثل هذه الجملة العميقة في مفهومها الفكري والفلسفي فإنه يجبرنا على التوقف طويلا أمام تلك المعاني التي يلمح إليها في أغوار تلك الكلمات التي قام برصها بعضها إلى جانب بعض، دوستوفسكي الذي ينظر إليه ألمع النقاد العالميين وعلى رأسهم الروسي بلينسكي والنمساوي آرنست فيشر على أنه يكاد يكون ظاهرة فريدة في تصوير الإنسان والبحث في مكنوناته. وحقيقة أنهم محقون في ما ذهبوا إليه، ذلك أن دوستوفسكي هو بحق بحار النفس الإنسانية القدير إذ إن إنسانا يكتب طيلة ثلاثين عاما ثم وفي لحظة ما يجهل لماذا كتب طيلة تلك السنين، إنها حالة خاصة جدا في محتواها تأخذ العديد منا نحن البشر بين ثناياها ونمضي من دون أن نلوي على شيء حتى تأتي لحظة الحسم أو "العودة إلى الذات" كما يعنون الكاتب الإيراني الشهير الدكتور علي شريعتي كتابا له بهذا الاسم. إن الإنسان يمضي في دروب الحياة المتباينة خلف ما يعتقد أنه أهداف أو غايات ثم يدرك أن تلك الأهداف والغايات قد انتهى أمرها في لحظة "المواجهة" مع الذات إلى مجرد فقاعات وشيء من كلام لم يكن من طائل وراءه! إننا نعيش عمرا وعالما يسيران في أغلب الأحيان في دربين متناقضين تماما، ونصحو في غالب الأحيان من سراب أحلامنا المخملية التي لم يكن لها وجود إلا في دنيا خيالنا إلى واقع فج وسمج يهز كل حصيلتنا السابقة وكأنها كومة قش في حضور عاصفة هوجاء. وإذا تهللت أسارير أصحاب الفكر المثالي فرحا حين ثبت علميا بطلان نظرية النشوء والارتقاء واستحالة حصول "التولد الذاتي" الذي بنى تشارلز داروين نظريته عليه، فإن هذا الفرح لم يطل حتى توالت الاختراعات والاكتشافات العلمية تترى وقطعت أشواطا لم تكن في حسبان معتنقي الفكر المثالي بحيث بات العلماء في موقف يستطيعون فرض الإملاءات على هؤلاء!

إننا نحمل الكثير من الأفكار والقناعات والتصورات المختلفة ونعتقد أنها تشكل أساس بنياننا الفكري، وفي لحظة أو خلال موقف غير مألوف "بل وقد يكون عاديا" نجد أن قناعاتنا الفكرية تختلف بالمرة عن الذي كنا نجهر به. لقد كان الإنسان ومنذ فجر التأريخ ترعبه وتقض مضجعه مسألتان جذبتا انتباهه بشكل غير مألوف، أولاهما الظواهر الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير وطوفان وفيضانات، وثانيتهما لغز الموت الذي ظل الطلسم السرمدي الذي يسعى الإنسان من دون جدوى لكشف أسرار وجوده. هاتان المسألتان قد استقرتا في أغوار الإنسان السحيقة وانعكستا لاحقا في صيغ تعبيرية ووجدانية عديدة تجسدت في نشاطاته المختلفة التي قام بها مع واقعه الموضوعي "الطبيعة والمجتمعات الإنسانية". ولقد كان - ولا يزال - عامل الخوف بما يعكسه من قلق هو المسيّر الأساسي للإنسان ومحفزه الأصيل على محاكاة واكتشاف أسرار العالم وذاته الإنسانية بالذات.

وفي الألفية الثالثة ما بعد الميلاد وفي ظل تلك الاكتشافات والفتوح العلمية التي هزت أركان الفاتيكان ودقت أجراس الخطر في الأزهر والنجف، نجد الإنسان قد دفع كل قيمه ومثله وتراثه الفكري والروحي على الكوكب الأرضي إلى زاوية حرجة يهددها الفناء والعدم! إننا حين نتعامل بتقنية متطورة مثل الإنترنت ونقوم بتوظيفها في حياتنا اليومية فإن هناك أمرا في غاية الأهمية وهو إذا كانت مثل هذه التقنية في متناول أيدينا، فأي تقنية هي الآن في متناول أيدي أولئك العلماء الذين يعملون بعيدا عن العيون وبمنتهى السرية؟ إنه اليقين الذي يجبرنا على الإقرار بأن هناك تقنيات أهم وأدق وأخطر من الإنترنت وحتى من استنساخ الإنسان، ذلك أن العقل الإنساني قد انطلق من عقاله ولم يعد يوقفه حاجز وأن النظرية النسبية التي كانت تتحدث عن "قناة الزمن" والفرضية العلمية التي صاغها ألبرت آينشتاين بصدد احتمال اختراق الإنسان لحاجز الزمن وذهابه ليشاهد نفسه في المستقبل كما يمكنه الأمر نفسه بخصوص ماضيه، مثل هذه الفرضيات التي كنا ننظر إليها كأنها ضرب من خيال العلماء، ها هو أكبر وأشهر عالم فيزيائي في العالم هاوكينك يقول بأن النظرية النسبية قد صارت إلى المتحف! فماذا يعني هذا الكلام؟ ماذا يعني ذلك الهلع غير العادي الذي ينتاب الكنيسة وكبار أساقفتها أمام الآفاق المستقبلية للإنسان مع العلم؟

في شهر آب/ أغسطس المنصرم، زار البابا ألمانيا التي كانت تحتضن الشباب من كل أنحاء العالم، ويومها ركزت الصحافة والإعلام الألماني على مسألة انتشار ظاهرة الإلحاد في وسط الشباب الألماني بصورة ملفتة للنظر حتى أن قيصر مجلات أوربا - وحتى العالم - شبيكل الواسعة الانتشار قد أعربت عن قلقها من هذه الظاهرة وخصصت مقالات مطولة حولها ومن مختلف النواحي. وقد شاءت الظروف لكاتب هذا المقال أن يستمع لمناقشة بين مجموعة من الفتيات الإسبانيات ونظيرهن من الشباب الألماني، حيث كانت الفتيات يؤكدن على مسألة الإيمان بالرب ودور البابا المهم في حياة المسيحيين، إلا أن الشباب الألماني كانوا يردون عليهن بأسلوب يجنح لسخرية كاملة. لقد كان المنطق الذي يركز عليه هؤلاء الشباب هو العلم الذي بإمكانه أن يغزو "فضاء الرب" كما كانوا يقولون. وقد كانت حجج تلك الفتيات بضعف حجج الطفل الذي يحاول أن يقنع والديه بشراء دمية غير ملائمة له! ونعود للسؤال ماذا يحدث وما هذا الصخب الذي يثيره الإنسان مع نفسه؟ ألم يكن الإنسان ذاته الذي "ألجم" البابا في الفاتيكان وقلم أظافره وأظافر أساقفته؟ لماذا إذن يحثون البابا بنديكيت على الخروج من صومعته الضيقة لعالم رحب يهدده شبح الإلحاد؟ ألم يكن الإنسان هو الذي يرجو حلول مثل ذلك اليوم الذي لا تعاد فيه مأساة كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي، فما عدا مما بدا؟! إنه دهر غريب، بالأمس كان العلماء مطاردين واليوم رجال الدين محاصرون محشورون في زوايا ضيقة. ماذا يجري بحق السماء؟!

إنني مع قناعتي الشخصية التامة بحتمية انتصار المنطق العلمي وعلى كافة الأصعدة، غير أنني لا أجد مناصا من أن هذا المنطق العلمي بما يحتويه من قوة الحجة والبرهان لا يحمل في ثناياه ما يمنح النفس الإنسانية تلك الطمأنينة التي تجنح لها في لحظات الخلوة والتأمل. إن الإنسان الذي يستخدم آخر المبتكرات العلمية لا يشعر في قرارة نفسه بذلك الإحساس الغريب بالثقة والاطمئنان اللذين يشعر بهما إنسان شبه بدائي يعيش في قلب الصحراء أو في الجبال أو بطون الوديان وهو يرنم في ليلة ليلاء بعض التعاويذ الدينية! وقد يكون ذلك الإحساس بالدفء والدعة اللذين ينالهما الذهن الإنساني عندما يرسو في مرافئ الدين هو أعمق معنى وأوسع أفقا من ذلك الإحساس المبهم الذي يمنحه العلم مع تجاوزه لكل خط أحمر في مملكة الإنسان. وحين نطالع القول البليغ للكاتب الفرنسي "أنطوان دي ساينت أكسيبري": (يجب أن يعيش المرء طويلا لكي يصبح إنسانا) فإن سرعة العلم واختزاله المفرط للعامل الزمني يعلن بداية مرحلة جديدة يشهد فيها الإنسان انتفاء الحاجة إلى إنسانيته! ذلك أن العيش الطويل بالمفهوم الإنساني الذي يعنيه أكسيبري هو أن تخوض غمار حياة حافلة تعج بعوالم متباية ومتضاربة تتقاذف الإنسان يمينا ويسارا حتى يجد في نهاية كل محطة شيئا من الحكمة ومنطق الحياة. وفي السياق ذاته يقول "بلايس باسكال": (بقدر ما يكون الإنسان حكيما وطيبا، فإنه بوسعه أن يرى كل ما هو أفضل للإنسان) ويقينا إن هذه الحكمة وتلك الطيبة اللتين يتحدث عنهما باسكال لن تجدهما قطعا عند الإنسان من خلال المختبرات العلمية وأنابيب الاختبار بقدر ما يتم انتزاعهما من محطات الحياة ومرافئها المختلفة عبر حالات التفاعل الإنساني المتجسدة في الحب والبغض والحسد والغيرة واللقاء والفراق والفقر والغنى وما إليها. وقد وجدت كل تلك المعاني التي ابتغاها الكاتبان المذكوران آنفا متجسدة في بيت شعري فارسي مغنى - أجهل اسم قائله - يعبر عن الحياة وفلسفتها أجمل تعبير:
"الحياة عاقبتها العدم
هي أنشودة غير متكاملة للوجود"

لكن هذه اللوحة القاتمة التي ساهمت "سيولة" العقل الإنساني في رسم ملامحها النهائية، مع كل ذلك الجهد العلمي الاستثنائي، تبدو لوحة تفتقد للإستاتيكية بكل معانيها. وحين نحاول المقارنة بين هذه اللوحة ومثيلاتها في القرون الغابرة، نرى الفرق هو بالضبط كما قال شاعر داغستان "رسول حمزاتوف" في تحديد الفرق بين الشعر المترجم والنص الأصلي، بأنه كالفرق "بين الورود الطبيعية والاصطناعية". وفي الجانب الآخر، قد نكون في عجالة من أمرنا إذا ما تصورنا الإشكالية برمتها تقع على عاتق الفكر الليبرالي المرن الذي شيد هو أساس هذه الانطلاقة العلمية، ذلك أننا حين نتحدث عن ذلك الإنسان المنطلق روحيا في قلب الصحراء مترنما ببعض التعاويذ الدينية، فإننا بطبيعة الحال لا نعني ولا نقصد رجال الكنيسة في عصر الاستبداد الديني كما لا نقصد بالمرة تلك القنابل البشرية التي تفجر نفسها باسم الدين.

والحق أن ذلك المنطق الجلف والصلب لرجال الكنيسة من العلم والعلماء من جانب، ومن الفكر والمفكرين من جانب آخر، هو الذي دفع بالإنسان كي يصل إلى ما وصل إليه الآن. وعلى الضفة الأخرى، حيث الشرق بكل أطيافه الدينية المتعددة، فإنه هو الآخر لم يكن له موقف يدعونا لتبجيله أو الثناء عليه، ولاسيما في إقحام نفسه - من خلال من وضع نفسه وصيا على الدين - في أمور حرية التعبير عن الكثير من المسائل المهمة. وقد تكون حالات فرض الطلاق على بعض الكتاب والمفكرين وزوجاتهم وإسكات الآخرين تحت طائلة التهديد بالقتل و....، كل ذلك بمقدوره أن يفسر مسألة الابتعاد عن الدين أو بالأحرى الابتعاد عن سطوة رؤية محددة مفروضة على الدين وملازمة له في كثير من الأحيان.

خلاصة الأمر نحن أمام تيارين متضادين يرسمان حركة الإنسان صوب المستقبل وإن كانت الكفة تميل حاليا وبشكل كبير لصالح التيار العلمي، لكن الإنسان بطبعه وغريزته مولع بالأمور الميتافيزيقية ويحاول دوما أن يكون هناك ثمة أمر يشغل أعماق روحه وكيانه، أمر لا يوفره له العلم ولا يجد ما يشفي غليله في طفل الأنبوب أو استنساخ الإنسان. إنه يبحث عن شيء يعيد إليه تلك الرهبة وذلك الإحساس بالخشوع اللذين كان يشعر معهما بنوع من الراحة التي يفتقدها الآن تماما. لكن الذي شكل - ولايزال - يشكل حاجزا أمام الإنسان وسعيه نحو مثل ذلك الإحساس الديني النقي الطاهر، هو توظيف الدين وتسييسه من قبل مجموعات وتيارات معينة مما يجعل منه بالنتيجة مسألة مشابهة لأي حركة سياسية نفعية أو حتى ميكافيلية. وبين هذا وذاك، يبقى الإنسان حائرا مشتتا ضائعا لا يدري إلى أين سيقوده الأمر في نهاية المطاف.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات