مواضيع اليوم

الانسان العراقي .. والمسرح .. الحلقة المفقودة

عبد الهادي فنجان الساعدي
" إن الشرط الاساسي لكل فن درامي هو هذا الدافع الجموح لتقمص المرء اجساما وارواحا اخرى يحيا بها ويعمل، فالكاتب المسرحي الحق هو كل من يشعر بهذا الدافع، او اخذ بفتنة ذلك التقمص" نيتشه.
بدأ المسرح عند الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد على يد ثلاثة كتاب مسرحيين هم اسخيلوس وسوفوكلس ويوريبيديس. كان الهدف من المسرح هو تقديم مآسي "لا تعبر الا عن حوادث تاريخية محزنة ومفجعة، فتصور شخصيات الآلهة والملوك والملكات والحكام العظام ادوارا همها الرئيسي التعبير عن أفجع الرزايا وأفزع الخفايا وتظل صورها هذه تنتقل من سيء الى اسوأ حتى تنتهي الى افجع مصيبة يمكن اختراعها"( ).
بعد ذلك ينتقل المسرح في العهود المسيحية الاولى ليكون في خدمة الكنيسة، ثم بعد ذلك نقابات الحرف "اهم مؤسسة بالنسبة للمسرح في انكلترا في العصور الوسطى بعد الكنيسة هي نقابات الحرف"( ).
انتقل المسرح خلال الألفي سنة التي سبقت العصر الاليزابيثي بين خدمة الالهة الاغريقية والكنيسة حتى استطاعت نقابات الحرف إن تمسك بالمسرح لتحوله من خدمة الكنيسة الى خدمة المصالح البرجوازية متحملة كل تلك المصاريف الباهضة التي استطاعت إن تعوضها عن طريق المساهمات المالية التي كان يقدمها اصحاب المعامل والحرف ومن رسم الدخول للمشاهدين.
لقد تجشمت نقابات الحرف كل ذلك العناء والمجهود لتنقل المسرح بعد حوالي الف سنة من التقلب في احضان سدنة المعابد الاغريقية وبعدها سدنه وقساوسه الكنائس الى العامة، الى الشوارع، وقد كان لذلك اكبر الاثر في تنوع المسرحيات، وحرفها عن مسارها الديني لتعالج بعد ذلك مشاكل المجتمع المدني وحتى الامور الدينية من وجهة النظر المدنية.
ينتقل المسرح بعد ذلك في العصر الاليزابيثي "1684- 1642" نقلة عظيمة في زمن كتاب المسرحية العباقرة كريستوفر مارلو و شكسبير وغيرهم من المسرحيين الشباب الذين استطاعوا إن يجعلوا من المسرح قبله لمختلف فئات المجتمع، فصار رواد المسرح من الملوك والنبلاء والتجار والبرجوازيين وحتى السوقة، اضافة الى ذلك فقد أدخل العنصر النسائي في هذا الوقت فكانت هذه نقلة عظيمة للمسرح وخطوة هامة.
اما في الوقت الحاضر فقد استغل كتاب المسرحية الواقعيون المشاكل التي تتصل بحياة المستضعفين واخلاق وسلوكيات الطبقات الوسطى ونضال الشعوب المستعبدة وحياة عامة الشعب في اماكن بعيدة عن مراكز المدن.
إن ذلك يقربنا من هدف المقالة الذي هو كشف الهوَّة الموجودة بين المسرح وبين عامة الناس في الوقت الحاضر. وما سبب ذلك إلا تلك الحلقة المفقودة بين المسرح والانسان العراقي والتي اشترك في كسرها المسرحيون الذين ساروا في ركب العهد البائد والظرف السياسي المؤلم والتخلف الذي استشرى في كل مفاصل المجتمع نتيجة لتلك السياسة المتخلفة. إن المسرح عنصر مهم من عناصر تثقيف المجتمع. والحقيقة إن اقتراب المسرحية من الحياة ولا سيما في الوانها الواقعية كان وثيقا جدا حتى إن كثيرا من النقد الزائف منبعه تصور الاثنين شيئا واحدا ولكن المسرحية – كما اكدنا – فن وليست هي الحياة وان كانت تقترب من واقع الحياة واثرها المباشر اكثر من أي لون من الوان الفن الاخرى"( ).
لقد استطاع الواقع السياسي في العصر الماضي إن يغير مسار المسرح، هذا التقليد العريق المقدس ويجعل منه وسيلة لحرف اخلاق الناس وتدمير الصلة الوثيقة التي كانت تربط بين المسرح والانسان العراقي، تلكم الصلة الطهرية المقدسة حتى في التجارب الغربية التي كان ينقلها لنا المسرحيون الرواد.
اننا لا "نريد" ولا "نطلب" و لا "نبرمج" للمسرح ولا المسرحيين انما نشاركهم في البحث عن النظرية الصحيحة التي توصلنا الى بناء مسرح – بكل انواعه – يعيد الصلة الحميمة الى الانسان، مسرح يؤثر ويتأثر لكي يتم فيه عنصر التفاعل والخلق الابداعي فما من مسرح الا وله بداية. وبداية المسرح هي الانسان بكل مشاكله وهمومه وصوره المختلفة.
نعود لقلب النظريات فنجد إن لدينا مسرحا ولكنه مسرح منهار وفاقد لأكثر عناصر الابداع. إن عودتنا الى نقطة البداية حيث بدأنا في مسارح الرواد الطليعيين هي افضل من استمرارنا في مسرح يؤخر اكثر مما يقدم. اننا نمتلك القاعات ونمتلك خامات المسرح الاساسية التي هي الممثل المبدع. والمخرج المبدع، والبلد الذي عمره يوازي عمر البشرية بنخله وطينه ومائه وشمسه المشرقة.
فالانسان الذي استطاع إن يبني اعرق الحضارات في العالم بكل تأكيد يستطيع إن يبني مسرحا محليا يغرف من تجارب هذا الشعب العظيم ليعيد للانسان العراقي صلته بمسرحه الجاد والهازل " ولعل ارفع مقياس للعظمة في التشخيص هو الحيوية. إن الكاتب المسرحي يهب للشخصية الحياة بفضل الملاحظة والخيال والابداع والصنعة. وقد تكون هذه الشخصية مشاغبة او مصدورة، عبقرية، او نزقة، ولكن لا بد من إن تكون نابضة بالحياة، وهذا هو سر مهنة الكاتب المسرحي الاعظم ومعجزته الكبرى التي تجعله شبيها بالآلهة فهو يصوغ من الكلمات اناسا اكثر واقعية منه ومعروفين معرفة وثيقة ويعمرون اكثر منه"( ).
ومن كل ذلك يتبين إن الحلقة المفقودة بين الانسان العراقي والمسرح هي إن هذا المسرح في العهد السابق لم يعد يعكس صورة الانسان بشكل واضح وحقيقي سواء أكان كوميديا ام تراجيديا. كما إن هذ الانسان قد اوغل في الابتعاد كثيرا في تجارب بعيدة جدا عن الفكر والثقافة. تجارب مسرحية امامن ذوات العرض لمرة واحد، وكأنها جزيرة من خارج التاريخ واما تجارب مسرحية مهينة هي اقرب للتفاهة منها للمسرح.
اننا بحاجة الى مسرح عراقي فيه رائحة طلع النخيل وطين العراق وينعكس فيه الوجه العراقي الاسمر على صفحة ماء دجلة والفرات.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !