دروس مقدمة من البرازيل, طليعة العالم الثالث, إلى مؤخرة هذا العالم.
من هذه الدروس سوف لا نشير إلا لدرسين اثنين فقط لعسر الاستيعاب, وبعد البرازيل عنا, وعدم فهم لغتها. نفهم فنونها في لعب كرة القدم, وننطق دون صعوبة أسماء لا عبيها. أما الصعوبة كل الصعوبة فتكمن في مصطلحاتها السياسية .
الدرس الأول: تداول دستوري على السلطة.
الدرس الثاني: انتخاب امرأة لرئاسة الجمهورية.
إنها الديمقراطية. الديمقراطية البرازيلية, إنتاج برازيلي محلي صرف لدولة من دول العالم الثالث. إنتاج حضاري, بأساليب حضارية, وعلى الأسس القانونية, والوعي السياسي, والمصلحة الوطنية دون غيرها.
درسان يمكن تقديمهما, من دولة في طليعة العالم الثالث, البرازيل, لتلميذ غير نجيب في مؤخرة هذا العالم. تلميذ لا يفقه دروس الماضي, وليس له حضور فعلي في الحاضر. ولم يُعد شيئا للمستقبل.
البرازيل. لم تستعمرنا يوما. ولا تطمع في استعمارنا مستقبلا. لا تفكر باستغلال خيراتنا. ولا تحسدنا على شيء, بما فيها قيمنا. لا تريد تصدير تجربتها و قيمها لنا. بيننا وبينها محيط وآلاف الأميال البحرية. وعليه يمكن الحديث هنا عن الديمقراطية بنوع من الراحة دون الخوف من قذف المتحدث بوابل التهم. فلا أحد يستطيع أن يتهمه بالبرازيلية.
في كل مرة يتحدث فيها عربي, في أي مكان من الوطن العربي ــ الذي أصبح مؤخرة العالم الثالث, ويكاد يُلفظ منه لعالم غير مصنف بعد ــ عن الديمقراطية الغربية يتصدى له القوموجيون الذين لا عمل لهم إلا التنظير, وأصحاب الصحوات الدينية الأخيرة والمتأخرة, الذين لا عمل لهم إلا التكفير. وفلاسفة ومنظرو ومفكرو السلطان, ليتهم بالترويج للفكر الاستعماري والامبريالي القديم منه والجديد, وقيمه. إضافة لاتهامه بالبوشية, (لا يريدون تخفيف التهمة إلى الاوبامية نسبة لاوباما فما زال للرجل عند البعض بعض المصداقية التي يعكسها لونه) أو العمالة للصهيونية, وزعزعة نفيسة الأمة أو ثوابتها ــ التي لا يعرف احد ما هو مفهوم الأمة عندهم, وما هي ثوابتها و"متحركاتها", ومتى تكون الثوابت ثابتة وكيف. وما هي "متحركاتها", وفي أي اتجاه يمكن أن تتحرك حين يستوجب الحراك. وهل هي على الأقل ثوابت وضعتها الأمة بنفسها بواسطة ممثليها الشرعيين وارتضتها لنفسها؟ , وهل "المتحركات" تحركها الأمة بنفسها, بواسطة ممثليها الشرعيين ولمصلحتها؟. الثابت الوحيد في عقول المواطنين, المدركين بالتجربة التي عمرها عقود طويلة جدا, أن ليس من بين ثوابت الأمة "المعومة", ثوابت متعلقة بالقانون, أو الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان وكرامته, والعدالة واستقلالها, وحقوق المواطنة وضمانها..., فالثوابت المقصودة هي ما يُثبّتها الحاكم الفرد. و"المتحركات" هي ما يحركها بإرادته المنفردة. تُثبت بفعله وبفعله تتحرك. الحاكم الفرد امة بذاتها, مجسدة فيه, ومجسد لها, بماضيها وحاضرها وتطلعاتها.
الدرس البرازيلي الأول هو التداول الديمقراطي على السلطة, ألف باء الديمقراطية. انتهت الولاية الرئاسية الثانية للرئيس البرازيلي لويس ايناسيو لولا دا سيلفيا, ولا يجيز له الدستور ولاية ثالثة. مدة لولاية الرئاسية 4 سنوات. لم ينقلب على الدستور, ولم يعدل أحكامه, ولم يطالب برئاسة مدى الحياة أو متجددة إلى نهاية الحياة. لم يفكر بخليفة له, ابن أو أخ أو ابن عم. لم يخلق حزبا مصطنعا حوله. لم يحرك أجهزة القمع لاستئصال منافسيه. لم يعول على تزوير الانتخابات. فقد حكم الرجل ديمقراطيا 8 سنوات واكتفى, رغم انه لم يعجز جسديا ومعنويا, فهو في الخامسة والستين من عمره, لا حاجة له بعد لصبغ الشعر, وشد الوجه, وضبط التبول اللاإرادي. جاء رئيسا حسب أحكام دستور 1988, وخرج مواطنا عاديا نزولا على أحكام هذا الدستور.
البرازيل التي تبلغ مساحتها 8512000 كيلو متر مربع. ضعف مساحة الاتحاد الأوروبي. وهي اكبر دول أمريكا الجنوبية مساحة وسكانا. عدد سكانها حسب إحصاء 2009: 192759333 نسمة. جمهورية فدرالية رئاسية. مكونة من 26 دولة ومناطق فدرالية. يمارس السلطة التشريعية فيها غرفة النواب المكونة من 531 نائبا. ومجلس شيوخ مؤلف من 81 شيخا بواقع ثلاثة شيوخ لكل دولة. و ثلاثة لكل المناطق الفدرالية. يعتبر اقتصادها,عام 2009, الاقتصاد العالمي الثامن. ويطمح ليصبح بعد 8 أعوام الاقتصادي العالمي الخامس.
أهم الأحزاب السياسية فيها:
ـ حزب العمال (يسار وسط)
ـ الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يساري).
ـ حزب العمل الديمقراطي (يساري).
ـ الحركة الديمقراطية البرازيلية (حزب الوسط)
ـ الحزب الاشتراكي البرازيلي ( يسار الوسط).
ـ الديمقراطيون (يمين الوسط)
ـ حزب الجمهورية (يمين وسط).
ـ الحزب التقدمي (يمين).
الدرس الثاني :
امرأة رئيسة لهذه الجمهورية الفدرالية.
ليس الأمر غريبا عند البرازيليين, وان كانت هذه المرة الأولى في تاريخهم التي تُنتحب فيها امرأة لرئاسة الدولة. الدرس في هذا ليس لهم. وإنما لمن يقودون الحملات ضد المرأة في عالمنا العربي. من يلاحقونها ليروا ما تلبس, وما يجب عليها أن تلبس. ما عليها أن تغطي وما عليها ان تكشف. ــ آلاف الكتب ومئات آلاف المقالات والاجتهادات والمواعظ والفتاوى في التحليل والتحريم. وفي تحريم العمل الذي يكون فيه وجود للرجال معها منعا للفتنة والافتتان. لو صُرفت هذه الطاقات في المجالات العلمية لكنا في عداد الدول المتطورة حتما ــ ليساندوا الجرائم ضدها, وخاصة تلك المسماة جرائم الشرف. ليثبتوا بأنها ناقصة عقل ودين. ليقنعوها بأنها تعادل نصف أخيها فقط. وتحت الوصاية. مكانها الطبيعي البيت لخدمة الزوج والأولاد. ليشككوا في قدراتها الجسدية والعقلية في استلام المناصب الحساسة. فما بالنا برئاسة الدولة. لتحليل الزواج منها طفلة والزواج عليها مثنى وثلاث ورباع. لطلاقها دون حقوق أو بحقوق منقوصة لا تساوي مطلقا ما تستحقه ... ليجعلوها قضية قائمة أبدا غير قابلة للحل, بما فيها أدميتها. هذا ما أرادته الطبيعة, وهذا ما عقده الله وما يعقده الله لا يحله البشر.
حظ ديلما روسيف, الرئيسة البرازيلية المنتخبة اليوم, إنها لا تمت لهذه المنطقة بصلة ولادة أو ثقافة أو معتقد أو تربية. أبوها مهاجر بلغاري هاجر إلى فرنسا عام 1929 ومنها إلى البرازيل ليستقر فيها نهائيا ويتزوج من برازيلية, والدتها.
حصلت في الجولة الثانية من الانتخابات على نسبة 56% من أصوات الناخبين مقابل 44% لمنافسها جوزيه سيررا ,مرشح الحزب الديمقراطي الاجتماعي, الذي لم يطعن في الانتخابات ولم يتهم المرأة بتزويرها. فأعلن على رؤوس الأشهاد تهنئته لها بالفوز فور إعلان النتيجة, مع تأكيده في الوقت نفسه, انه سوف لا يتخلى عن النضال في مكانه الجديد في المعارضة. خرج مئات الملايين من البرازيليين في احتفالات في الشوارع بفوزها دون أن يفكر احد بان الرئيس امرأة. وان العرس اكبر من العروس.
الرئيسة الجديدة البالغة من العمر 62 عاما كانت مناضلة في صفوف معارضي الدكتاتورية العسكرية في البرازيل في السبعينات ناضلت بشرف نضال الفرسان. لم تفجر نفسها بأحد ولم تقتل الأبرياء. سجنت بسبب ذلك لمدة ثلاث سنوات حين كانت طالبة. لم يتشف فيها احد, ولم يساند سجانيها أحد, ولا استنكر حقها في النضال احد. سجانوها لم يتهموها بالخيانة أو العمالة. وصفت بأنها " المرأة الحديدية". ووصفت نفسها في مؤتمر صحفي بقولها : " أنا المرأة الشريرة الوحيدة في البرازيل المحاطة برجال في غاية التهذيب". (le parisien fr. 01/11/210).
تساند في حملتها وبرامجها قضايا الفقراء والجياع. لم يخذلها هؤلاء, لأنهم لم يتعودا بعد على الرشوة المنحطة المهينة لكرامة الإنسان, وان كانت مهينة للراشي قبل المرتشي, مثل نصب الخيام والمضافات, وتوزيع الطعام والشراب طيلة فترة الانتخابات. لم تصل مثل هذه الثقافة بعد إلى مرشحي البرازيل وناخبيها.
أوجز اندريه سينجر أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان باولو, ببراعة الطبقات التي صوتت لكل من المرشحين بقوله : " يكفي أن تدخل إلى مطاعم الدرجة الوسطى لتعلم أن الجالسين صوتوا للمرشح سيررا, والواقفين الذين يقومون على خدمتهم صوتوا للمرشحة لديلما". ( الفيغارو 02/11/2010 ). أعلنت في مؤتمر صحفي بعد فوزها : " سأحكم من أجل كل شخص وسأتحدث لكل شخص دون استثناء". امرأة اضطهدتها الديكتاتورية فأنصفتها الديمقراطية.
انتصرت امرأة انتصارا كبيرا بالأساليب الديمقراطية فرأست دولة البرازيل.
وانتصرت الديمقراطية, انتصارا كبيرا, في دولة من دول الجنوب هذه المرة.
درسان حضاريان لذوي الألباب.
د. هايل نصر
التعليقات (0)