مواضيع اليوم

الاكتشاف والهدف

عمار العراقي

2013-06-03 15:43:01

0

      قصيدتان للشاعر (حسن علي الحلي) 

   كرم الله شغيت

  يدور النص الأول(وثبة عملاقة للبشرية) حول محورين، اعتمد فيهما على التصريح بأفكاره التي شكلتها تجربة معينة يوضحها لنا في منتصف النص فيقول(قرأت الفلسفة والفيزياء) وقد ظهر أثر تلك التجربة ((القراءة)) في ترسيخ هذين المحورين (الفلسفة والفيزياء ).

   وإذا استقصينا الحافز لدى الشاعر، وهو لا شك تحركه التجارب ،نجد نصّه انعكاسا لحالة نفسية حتى كأنه يصف شيئا يراه في الحلم يقول (كنت أتحادث معك يا أمي /بأن أحلامنا ترتسم ليلا في السماء )ثم يصرح بموضوع أحلامه تلك فيقول ( عن الكواكب المنبعثة والخافتة أحيانا )، وهذا أول ظهور للفلسفة في النص ، والفلسفة هنا عبارة عن حديث يدور حول الأحلام التي ترتسم في السماء، وهذه الأحلام وإن كان الشاعر قد فلسفها إلا إن موضوعها كان فيزياويا ظهر مباشرة بعد الحديث، وهو ظهور ذو ثقل كبير التهم أكثر من ثلثي القصيدة مستعيرا لحقائق فلكية وكأنه ينقل من كتاب للفيزياء، من هنا يأتي قوله (قرأت الفلسفة والفيزياء/ وجدت ارتباطهما الوثيق / بالأرض والسماء ) لنعرف أن هذا الارتباط موجود منذ السطر الأول في النص في وجدان الشاعر وهو الحافز الذي أشرنا إليه سابقا ،وهو لا يعدو عن كونه حلماً فيزياويا غارقا في التفاصيل أو التقريرية أحيانا في قوله( العلم أكد اكتشاف قمرين يدوران حول كوكب بلوتو....الخ ).

    وكما قال الشاعر بالارتباط الوثيق بين المحورين ،فأننا لا نقدر أن نتحدث عن أحدهما منفردا دون ظهور ظل الأخر معه ، فالظهور الأول للفلسفة في النص لم يكن هو الأول في حياة الشاعر ، بل إن هذا الإحساس الفلسفي بدأ معه منذ الطفولة والذي أوضحته لنا هذه التجربة التي مرت( يا أماه عندما كنت طفلا أحبو /  عندما رأيت السماء / وأدرت رأسي باتجاه الأرض / وجدتها تدور و تدور) والتي أثارت عنده تساؤلا فلسفيا في قوله ( لا افهم معنى هذا الدوران ).ويشابه هذا الإحساس ما وصفه الشاعر وردزورث في قصيدة (قوس قزح) بقوله: ((يتوثب قلبي عندما أرى /قوس قزح في السماء /هكذا كان أمري عندما بدأت حياتي طفلا))، وتتوالى الأسئلة وتتوطد العلاقة السببية والأسئلة تستدعي بعضها في بناء منطقي (كيف حلقت العصافير ؟/لماذا لا أصعد للسماء ؟).

     لقد دفعت الإنسان قديما أشواقه ورغبته في الانفلات والتخفف إلى الطيران ، فكان أن أفضى به طموحه إلى سقوط مميت، وليس أدل على هذا الشوق القديم من أسطورة ((إيكاروس)) اليونانية وهو ابن (ديدالوس) وقد أسرف عندما فر من السجن في الطيران حتى بات قريبا من الشمس فذاب جناحاه اللذان اتخذهما من الشمع وسقط في البحر وكفنته الأمواج.

  وتأتي الإجابة عن السؤال(لماذا لا أصعد للسماء ؟) فلسفية لا فيزيائية (ولكن يا أماه وجدت / من سبقني في الصعود إلى الفضاء ) ويجيب هو على التساؤل عندما يطرح المفارقة بين العلم (الذي أشار إليه في بداية القصيدة )والبداوة التي أبكته بكاء مرا في آخرها.

  

     يتصاعد بناء القصيدة على مستويين (الحدث ، والحديث )،و(الحديث) مع الأم هو الباعث الأول وموضوعه الأحلام وموضوع الأحلام هو العلم ويرتبط بزمن غير معين (ذات مساء) وهو عمومي بالنسبة للزمن الكلي وخصوصي بالنسبة للزمن التفصيلي داخل الزمن الكلي (المساء )، ودلالته الحضور الدائم لهذا الأمر في فكره ،وهو أن الحديث عن الأحلام لا يمكن أن يجري إلا في المساء ،وإنما من الممكن أن يجري في أي مساء.

    و(الحديث) لا يمكن أن يكون إلا مشتركا (أتحادث معك يا أمي ) ، أما (الحدث ) وهو في القصيدة (حدث الاكتشاف) فقد كان فرديا لم يشاركه فيه أحد غيره، وقد ميزنا في النص أربعة أنواع من الاكتشافات: الأول/العلم وموضوعه الأرض والسماء وزمنه الطفولة، والثاني/ارتباط الفلسفة والفيزياء مع الأرض والسماء،والثالث/ عدم القدرة على الصعود إلى السماء، ووجود من سبقه إلى ذلك ، والرابع/ جواب للسؤال المطروح في الاكتشاف السابق(لماذا لا أصعد إلى السماء؟ ).

    ولقد بدا واضحا أن الشاعر أراد أن ينقل من خلال نصه القلق الدائم الذي يراود الإنسان بشأن علاقته بالطبيعة ،وهذا التطلع المعرفي رافق البشر منذ عصور ما قبل التاريخ والتي أشار إليها بقولة (يا أماه كنت طفلا أحبو /عندما رأيت السماء)، وهو يرى الظاهرة الطبيعية ويتساءل بشأنها (لماذا لا أصعد إلى السماء ؟) ،وتتوالى اكتشافاته وكل يوم هو أمام شيء جديد ، وأجوبة جديدة لأسئلته، حتى يصل إلى أن العلم هو الميراث الذي يستحق أن يتركه الإنسان إلى الأجيال اللاحقة.

     ويتجه النص الثاني (دعوة باسمك )إلى مستويات أخرى أكثر شفافية من النص الأول ، إذ يرسم أهدافه منذ البداية متوصلا إليها بوسائل أكثر قربا إلى نفسه، وإذا اعتبرنا أن الهدف الرئيسي هو (أنت) فأن النص قد أستهل بطرح رغبته في أن تكون تحت عنايته في قوله (دعوة باسمك أن تكون /عيناي قبالك) يراقبها ،ويحميها من الأخطار ( علي أن أخبئك بين عروش القلب )،وما ورود المفردات التالية والتي هي من أقرب أعضاء الجسم إلا لتعبر عن الهدف الأول:وهو تأكيد الرغبة في القرب(عيناي/عروش القلب/مسام الجلد/دمي/نفسي) وهي أعمق في العلاقة من (الغواص في أعماق المحيط)كما يقول النص.

الهدف الثاني) :المناجاة) وقد استدعى الشاعر عناصر المناجاة وهي الحضور المكاني  وهو الأحضان بقوله(لا يجد الراحة إلا في أحضانك)، وحضور وسيلة المناجاة وهي الصوت في قوله (صوتك يناديني)، وبعدما يتغلب على تردده الذي تمثل في قوله (يخيفني ويمنحني القوة في آن )ينطلق إلى عالم المناجاة البهيج الأسطوري.وهذا يفسر اختياره لمفردة المناجاة لجعل المسألة أكثر سمواً كما سنرى في قوله (أستطيع أن أحادثك /عن طريق السماء).   

   الهدف الثالث:(الرؤية والحديث) في المقطع الثالث من القصيدة ينحرف النص عن المفردات المادية (الجسم وما إليه) إلى مفردات حسيّة يبرز دور الحواس فيها واضحا(أسمع/لرؤيتك/أحادثك/الوعي/تفكيري/عواطف) وذلك تمشيا مع هدفيه الجديدين وهو في هذه المرحلة أكثر ثقة في الوصول إلى أهدافه (ليس لرؤيتك وحسب) بل (أستطيع أن أحادثك) وأي حديث أسمى من الحديث (عن طريق السماء) ويعلل ذلك بقوله (لأنك كبيرة في تفكيري).

الهدف الرابع: (اللقاء) فإذا كانت الأهداف السابقة قد توصل إليها بالوسيلة فإن اللقاء لا يسعى إليه عبر ذلك الأسلوب، بل يفترضه كأمر حتمي ويلبسه صفة الوجوب (وهكذا يجب على الحياة أن تجدد اللقاء).

   و يحتوي النصان على مشتركات يظهر أنها تشكل بؤرا مهمة عند الشاعر ظهرت هنا وربما ستظهر في قصائد قادمة.

1.الرغبة في القرب:في الأول من أحلامه ومن حبيبته في الثاني.  

2.دور الحديث:ففي الأول كان الحديث مع الأم هو الباعث لموضوعه وفي الثاني كان حديثا عن طريق السماء ومناجاة سامية وعالما أسطوريا بهيجا.

3.الجدل الدائم:والذي ظهر على شكل اكتشافات وأسئلة في الأول وفي الثاني كان صفة ملازمة للنفس حيث يقول (أحميه من نفسي الأكثر جدلا).

4.اللقاء:وتمثل في النص الأول بالهاجس الدائم لديه للقاء أحلامه، وفي الثاني حتمية اللقاء مع الحبيبة.     




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !