منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأ خبراء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يرددون بكثافة مصطلح الفجوة الرقمية ويضعون له عشرات التعريفات, وحينما عقدت الدورة الأولي للقمة العالمية لمجتمع المعلومات في ديسمبر2003 بجنيف تمت صياغة تعريف لهذا المصطلح يري أن الفجوة الرقمية هيدرجة التفاوت في مستوي التقدم ـ سواء بالاستخدام أو الإنتاج ـ في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بين بلد وأخر أو تكتل وأخر أو مناطق البلد الواحد.
وعلي الرغم من أن هذا التعريف جاء هشا وقاصرا وخادعا إلي درجة كبيرة فقد تم تداوله علي نطاق واسع حتى اعتبر أنه الأبرز والأكثر شهرة في التعامل مع الظاهرة, بعدما وقف وراءه خبراء بالشركات الغربية تعملقت وأصبحت متعددة الجنسيات, كما وقف وراءه خبراء الغرب وتابعوهم ومريدوهم في المنظمات الدولية المختلفة وما تحتويه من ماكينات لتوليد الوثائق والدراسات التي يتغذي بعضها علي البعض الآخر.
في المقابل جرت محاولات واجتهادات مهمة من قبل العديد من مفكري العالم النامي لنقد نظرة الغرب إلي ظاهرة الفجوة الرقمية وتقديم تعريف وفهم مختلف لها, كان من بينها اجتهاد الدكتور نبيل علي ـ مفكر المعلوماتية العربي البارز ـ في كتابه الصادر عام2006 عن الفجوة الرقمية, والذي رأي فيه أن الفجوة الرقمية
ليست مجرد فوارق أو اختلافات في امتلاك واستخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات بل هي فجوة ناجمة عن فجوات أخري عديدة من بينها:
فجوة سياسية: يجسدها فقر الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان وسيادة الديكتاتورية والاستبداد والفساد الإداري والقهر السياسي, وفجوة اجتماعية: تجسدها الفوارق الهائلة في توزيع الثروة والاندفاع نحو مجتمع الأقلية التي تملك والأغلبية الفقيرة, وفجوة اقتصادية: تتمثل في ضعف الدخل بالنسبة للفرد والدولة وهشاشة القواعد الإنتاجية داخل الاقتصاد ككل ونقص التمويل وتدني الناتج القومي, وفجوة علمية تظهر في تراجع قيمة العلم والبحث والتطوير أمام استهلاك كل ما هو جاهز والنزوع نحو الخرافة, وفجوة تعليمية: تتمثل في انتشار الأمية بمعدلات عالية وضعف مستويات الخريجين نتيجة تدهور أداء المؤسسات التعليمية, وفجوة ثقافية: يمثلها تراجع الاهتمام العام بالثقافة والشأن العام وشيوع الثقافة السطحية والاندفاع صوب القيم الأجنبية علي حساب الثقافة الوطنية.
علي هذا النحو سار العديد من الباحثين والمفكرين في نقدهم للتعريف الغربي للفجوة الرقمية, ولم يتوقف هذا النهج النقدي والتجديدي في التعامل مع الظاهرة حتي الآن, ففي عدد الشهر الماضي من مجلة طب الأطفال والمراهقين الأمريكية نشر فريق من العلماء بمعهد بحوث الأطفال بجامعة سياتل الأمريكية دراسة مهمة قال فيها الدكتور كريست تاكيس مدير مركز صحة الطفل بالجامعة والباحث الرئيسي للدراسة إن الفجوة الرقمية لم تعد كما كانت في التسعينيات مجرد فواصل أو فروق في امتلاك التكنولوجيا والتعامل معها والاستفادة بها, ففجوة الامتلاك والتشغيل والاستفادة تم تضييقها أو القضاء عليها بصورة أو بأخرى في العديد من المجتمعات, ولكن في القرن21 أصبحت الفجوة الرقمية تتجسد بأكثر ما يكون في الفواصل والفجوات التي نشأت بين العديد من الآباء والأمهات غير المدركين لما تحمله ثورة التكنولوجيا وخاصة الإنترنت وبين أبنائهم الشغوفين بالشبكة والذين باتوا ينتمون لها بأكثر مما ينتمون لأسرهم.
توقفت طويلا عند حديث هذا الباحث وتقديري أنه يضعنا أمام صورة أو وجه جديد للفجوة الرقمية هي فجوة الاغتراب الناشئة عن الاستخدام المفرط وغير المنضبط للإنترنت وثورة المعلومات من قبل الأجيال الشابة وفئات المراهقين والأطفال الذين انغمسوا في زخم الشبكة وأحداثها وإمكاناتها وخدماتها وتفاصيلها التي لا يدركها أو لا يستطيعها أو لا يأبه بها أو لم يعتدها أو يهتم بها جيل الآباء, فتشكلت مساحة من الفراغ أو الخواء الذي يفصل بين الابن والابنة من جهة وبين والديهم من جهة أخري, فجوة تبدو ظاهريا في المهارات والقدرة علي التعامل مع التكنولوجيا وأدواتها لكنها في العمق ومن الباطن فجوة في السلوك والتفكير والتوجه.
في هذا الصدد نري أن الدراسة الأمريكية المشار إليها تركز بالأساس علي دور مواقع الشبكات الاجتماعية ـ مثل فيس بوك وماي سبيس ـ علي الحلول محل الأهل والآباء في مناقشة وممارسة السلوكيات الخطرة لدي الناشئة والمراهقين, وكيف بدأ هؤلاء يبثون همومهم وأفكارهم وتوجهاتهم ويصنعون قراراتهم عبر هذه الشبكات ومن يشاركونهم التواصل والتفاعل عبرها بديلا عن الآباء والأمهات, وقد وجدت الدراسة مثلا أن54% بيانات المراهقين المنشورة علي ماي سبيس للتحليل محتوية علي معلومات لها علاقة بسلوكيات خطرة,41 %منها بها معلومات تتعلق بتناول المخدرات, و24% لها علاقة بالسلوك الجنسي, و14% لها علاقة بالعنف, وهذا معناه أن مناقشات هؤلاء المراهقين نحو ممارسة أو عدم ممارسة السلوكيات الخطرة باتت تتم في فضاء الشبكة الالكتروني الواسع بأكثر مما تتم داخل محيط الأسرة, بعبارة أخري نشأت لديهم فجوة اغتراب. أساسها رقمي بالدرجة الأولي.
لقد نشرنا في عدد فبراير من مجلة لغة العصر تقريرا يتحدث عن بدء ظهور مواقع تدعو لمذهب اجتماعي وصفناه نحن بالشاذ لأنه يدعو لاعتبار الإنترنت وبعض مواقعها بديلا للأسرة الطبيعية ويرفع شعار اترك أسرتك وعش مستقلا مع أسرتك الإلكترونية, وكيف نجح هذا الموقع في جذب العديد من الشبان إلي هذه الفكرة القائمة في جوهرها علي فكرة الاغتراب, حتي أن فتي بأحد الدول الأوروبية استيقظ ذات صباح وترك لوالدته خطابا يقول فيه أنه قرر الابتعاد عن المنزل نهائيا وأنه ذهب ليقيم مع أحد الأصدقاء وأن علي أسرته ألا تحاول الاتصال به مطلقا لأنه سيعيش مستقلا مع أسرته الإلكترونية
وحينما هامت الأم علي وجهها بحثا عنه ووجدته يعمل بأحد المقاهي وزارته لتعود به للمنزل لم يعرها التفاتا, واضطرت كي تجعله ينتبه لها أن تطلب منه فنجانا من القهوة كأي من زبائن المقهى, وأخبرته خلال هذه الدقيقة بأنه يستطيع العودة لمنزله في أية لحظة, لكنه هز كتفيه لا مباليا مشيرا لها أن ما تقوله أقرب للحمق منه إلي أي شيء آخر.
ليس الباحثون الأمريكيون هم وحدهم من يرصدون الاغتراب كوجه جديد لظاهرة الفجوة الرقمية, فالدكتور حازم أحمد حسني ـ أستاذ ورئيس قسم تطبيقات الحاسب في العلوم الاجتماعية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ـ له بحث متميز في هذا الصدد بعنوان أطفال الإنترنت والاغتراب عن الواقع, يعالج فيه الدور الذي تلعبه الإنترنت والحاسبات في التأثير سلوكيا واجتماعيا علي الأجيال الجديدة من الأطفال والمراهقين, ويقول فيه: إن الحاسبات وأجهزة تكنولوجيا المعلومات والاتصال ليست مجرد جوامد لا حياة فيها, وإنما هي تبدو في مخيلة الطفل وكأنها كائنات تعي ما يطلب منها, وتتجاوب مع استجابة الطفل لما تطلبه منه هذه الأجهزة قبولا أو رفضا, بل هي تلاعبه ويلاعبها, وتستحث فيه التفكير وتبحر به في فضاء مواز يكاد ينافس فضاءه الواقعي, حتي لتكاد تتحد ذات الطفل مع ذوات هذا الجيل من الأجهزة.
ويواصل الدكتور حازم حسني حديثه قائلا: إن تكنولوجيا المعلومات والاتصال وإن كانت قد ربطت بين الأفراد, ووصلت ما يكون قد انقطع بين المجتمعات,فقد فرضت في نفس الوقت نمطا للتفاعل لا يكون بالالتقاء الحميمي المباشر بين أطراف الاتصال; بل إن هذا الاتصال قد يأخذ في كثير من الأحيان موقفا من هوية المتصلين بحيث يجهل تماما أشخاص الاتصال, فلا يكاد يعرف بعضها بعضا إلا بأسماء وهمية- أو هي في الحقيقة أسماء مشفرة- لم تعد تسمح باكتشاف أطراف الاتصال الطبيعيين لبعضهم البعض; بل يتحول الكل في فضاء المعلومات إلي أشخاص اعتبارية
ولا يكون من شخص طبيعي إلا شخص كل منا في مواجهة ذاته, وهو أمر قائم بشكل خاص بالنسبة للطفل من خلال الألعاب الجماعية التي تشترك فيها أعداد غفيرة من اللاعبين المجهلين الذين يتفاعلون عبر شبكة الإنترنت, بحيث يكون الاقتراب من الآخرين عبر الشبكة اغترابا عنهم في نفس الوقت; ومن ثم يثور التناقض بين نجاح الإنترنت في الربط بين البشر من ناحية, وبين نجاحها في الفصل بينهم من ناحية أخري, والأطفال في عصر الإنترنت سيكون لهم- شئنا هذا أم أبينا- حياة موازية أو ذوات ثانية غير تلك التي تتكون بفعل ما يألفه عقل الطفل في محيطه الاجتماعي الواقعي, وينتهي الباحث إلي القول بأن عقل الطفل الذي صار يعاني في عصر الإنترنت من اغترابين: اغتراب عن الواقع واغتراب عن الذات الحائرة حتي إشعار آخر بين ما هو صورة زائفة وما هو صورة واقعية لها... وكلاهما لا يعبر بالضرورة عن ذاته الحقيقية.
هكذا نحن أمام صورة جديدة لظاهرة الفجوة الرقمية التي لايزال معظم مسئولينا وباحثينا يلهثون فيها وراء التعريف الذي قدمه الغرب للظاهرة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وخلال قمة المعلومات, والذي يعد في جوهره مجرد خدعة يحاولون من ورائها فتح أسواقنا وشرايين مجتمعاتنا لبضائعهم وأجهزتهم التي باتوا يلاقون العنت في تسويقها وبيعها داخل أوطانهم المتخمة, فراحوا يبحثون لها عن أسواق فيما يطلق عليه المجتمعات الناهضة والنامية, ويغلفون البحث عن الأسواق برفع شعار الفجوة الرقمية, بالطريقة التي يريدونها هم, لا بالطريقة التي تصنع بها التكنولوجيا فجواتها الحقيقية داخل مجتمعاتنا وعلي رأسها الاغتراب الأسري الذي نلمسه جميعا الآن, وأرجو أن نفيق.
التعليقات (0)