الاعتذار ثقافة وفقه وأدب وفن:
الاعتذار .. ثقافة تصف عمق الخلق الذي يتجاهله الكثيرون ، وصفة يندر من يتحلى بها، ومعانٍ عميقة تحتاج إلى وعي وفهم ، فما أروع الحياةَ بوجوده وبمعانية السامية .
الاعتذار .. فقه يحتاج إلى تعلم ، إذ لا يعرفه إلا الإنسان الواعي والمدرك لمعانيه وما تتركه من أثر طيب في النفوس ، فما أكثر كلمة (معليش) عند السودانيين ، فهي كلمة بمقام الاستيكة لما يعتذر منه ، فشعب السودان عفوي ومتسامح لأبعد الحدود ، وفوق هذا لا يقبل الإهانة والانكسار.
الاعتذار أدب اجتماعي في التعامل الإسلامي، يَنفي شعور الكبرياء، ويطرح من القلوب الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك، و إساءة الظن والافتراء.
الاعتذار فن يحتاج إلى إجادة ، لأنه يحث على العمل على تحسين العلاقات وتطوير الذات.
الاعتذار .. فن له قواعده ، فليس مجرد لطافة، بل هو أسلوب حكيم وتصرف رشيد ، ومهارة من مهارات الاتصال الاجتماعية ، يتكون من ثلاث نقاط أساسيه هي:
أولاً: الشعور بالندم عما صدر من تصرفات مجانبة للصواب دون مبرر.
ثانياً: تحمل المسؤولية.
ثالثاً: الرغبة الأكيدة في إصلاح الوضع.
تأصيل الاعتذار:
لقد سرد الله لنا في كتابه العزيز في أكثر من سورة قصة أبَوَيْ البشرية جمعاء حين كانا في الجنة، والقصد من ذلك أن نتعلم منهما فقه الاعتذار ومراغمة الشيطان؛ فلما أخطأَ آدم وحواء، لم يتبجّحا ولم يستكبرا، إنما تعلّما من الله معنى التوبة، وطريق الاعتذار.
نعم لقد تلقّيا من الله كلمات ميسورة الألفاظ، لكنها عميقة النتائج ، قال تعالى:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) سورة البقرة ، الآية37.
يقول الإمام الرازي في تفسيره: ( لقد اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟ والأَوْلَى هي قوله: ﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ سورة الأعراف: 23].
فإذا كان القدَر قد سبق بالمغفرة لآدم ، فلِمَ طلب الله منه الاعتذار؟ إنه أدبٌ وتواضع وتعليم وتدريبٌ ، أدب للحياء من الله وتواضع عند الخطأ، وتعليم لفقه الاعتذار، وتدريبٌ على الاعتراف بالذنب والتوبة.
وهكذا مضت قافلة البشر، وهكذا تعلم الأنبياء والصالحون؛ فموسى عليه السلام لمَّا وكز الرجل وقتله، لم يتغنَّ ببطولته، ولم يُبرّر عملَه، بل اعترف بظلمه لنفسه وقال في ضراعة: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [ سورة القصص: 15، 16] .
حتى أن بلقيس اليمن التي نشأت في بيئة وثنية ، كان لها حظ من ثقافة الاعتذار ، حينما اعترفت بذنبها، إذ قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ سورة النمل: 44] .
وتلك هي امرأة العزيز قدمت صفحات ناصعة البياض في الاعتذار لنبي الله يوسف في نهاية أمرها سجل لها القرآن الكريم ذلك ، قال تعالى: ﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ سورة يوسف : 50 ــــــ 53 ] .
ورغم أن القرآن مليء بهذه المعاني، غير أن الخريطة الدماغية عندنا تبدو مستعصية على التغيير، وغير قابلةٍ للعلاج، فنحن نختم القرآن باستمرار، ونحن أساتذة تراويحٍ وحَجٍ وعُمرة، لكنها قراءات عابرة، وعبادات لا توقظ عقلا، ولا تزكي نفسا، ولا ترفع خُلقا!!.
ما أحوج كل امرئ منا إلى عِظة أبي العلاء المعرّي إذ يقول:
وكيف يؤمّل الإنسانُ رُشدًا وما ينفكّ متّبعا هـواهُ
يظــن بنفسِــه شرفًا وقــــدْرًا كأنَّ اللهَ لم يَخْلُقْ سواهُ!
فوائد الاعتذار:
1. أنه يساعد في التغلب على احتقار الذات وتأنيب الضمير.
2. أنه يعيد الاحترام للذين أسأنا إليهم و يجردهم من الشعور بالغضب.
3. يفتح باب التواصل الموصد بفعل الغرور.
4. أنه شفاء الجراح والقلوب المحطمة.
5. أنه سبب النجاح بأن يكبر صاحبه في أعين الناس و يزيد حبهم له بصدقه.
أصول الاعتذار وقواعده:
من أهمها:
1. تحين الوقت المناسب: عنصر التوقيت وحسن اختياره هو أول خطوة في فكر الاعتذار. فمن الضروري اختيار الوقت المناسب للاعتذار لمن أخطأنا في حقه، والتفكير في الطريقة التي تناسب الاعتذار بما يتماشى مع شخصية الطرف الذي وقع الخطأ في حقه.
2. التفكير مليا في أمر الاعتذار: بتحديد أسلوبه قبل عرضه. فالتفكير العميق يفسح المجال لتقديم عرض عقلاني ومقبول.
3. تحديد موضوع الخلاف بعناية: لا سيما وإن جاء الاعتذار بعد مدة من الزمن، حاول أن لا تتهرب منه بالتناسي.
4. الاعتماد على التعابير الملطفة والإشارات العفوية التي تنم جميعها عن مشاعرك الصادقة في اعتذارك.
5. يجب عدم الاعتذار للشخص الذي أخطأنا في حقه أمام الغير حتى لا نجرح مشاعره.
6. تفضيل عدم الاستعانة بشخص ثالث لتسوية الخلاف. ينصح بأن يظل قاصراً على الطرفين المتخاصمين.
تنبيه:
ومع أن الاعتذار بهذا المعنى حسن، فالأحسن منه الحذر من الوقوع فيما يضطر للاعتذار، فقد جاء في الوصية الموجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ( ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا ). [ رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني]. فإن زلت قدمك مرة فإنه ( لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة). كما في الحديث [ رواه أحمد وحسنه الترمذي ووافقه الأرناؤوط ].
التعليقات (0)