الإسلام وعولمة الهوية
شريف هزاع شريف
إذا وجد هناك تقسيم للعولمة لكان هناك عولمة إنسانية وأخرى لا إنسانية والأولى في جوهرها وحقيقتها مفهوم حضاري شمولي يكمن في العناصر الرئيسة للحضارات الكبرى والمدنيات المتطورة في تكوينها الإجتماعي ، السياسي ، القانوني ، ويتصدر الإسلام -دين وحضارة – قائمة العولمة الإنسانية في التاريخ وذلك لكمون التجدد والموضوعية في روح الدين الإسلامي وا مكان ظهوره في أي زمان ومكان ،وهذا التصدر ليس مغالاة أو تحيز بل لأدلةٍ كثيرة تدفعنا لجعله في تلك المرتبة العليا وأهمها قدرته على التغير الجذري من المستوى الفردي إلى المستوى الاجتماعي وما يتبع ذلك من إنقلابات في البنى المعنوية والمادية ، وعولمة الإسلام لا تكمن في الهيمنة والسلطة العسكرية القسرية وإنما على أساس التفاعل الإيجابي والاصلاح الكلي لأكتساب منظومته الوجودية الطابع العالمي وامتلاكه اساسيات النهوض الحضاري المتمثل بمثلث التطوير في ( الحياة ، الانسان ، العمران ) وهي المفردات البديهية للحضارة ، وقد حلل الإسلام عبر سيره التاريخي هذا المثلث الحضاري وفق تصور عام للحياة وللنظام الاجتماعي المتكامل والمنهج التربوي والتعليمي كأساس للبناء الذي يفتح افاق وإمكانيات العقل نحو المستقبل الصحيح ،ولم ينظر الإسلام إلى حضارة الغير بشكل سلبي بل جاء بمنهج يكشف نواقص أو مكملات الحياة الإنسانية السليمة مركزاً على الركيزة الأهم ( الإنسان ) المادة التي على أساسها تقام المدنيات المتطورة وفق خط تطوري لا يهمل دور الحداثة والتجديد وفق إحداثيات الوسائل والغايات المشروعة إضافة إلى أنه قدم جملة من الحلول للإشكالات المتوقعة في سيره المستقبلي والعلاجات الملائمة للمراحل الإنتقالية التي بمر بها المجتمع من الحالات السلبية إلى الحالات الايجابية أو العكس ورغم إن الإسلام لم يترك افقاً دون أن ينصب منظاراً نحوه إلا إنه اتاح للناظر العمل على ضوء الإجتهاد والابداع أو التي تسمى بالحرية والاختيار المشروط فقد شدد على عدم إتخاذ الوسائل الدفاعية من خارج منهجيته التي إختصرت ب ( قياس الشاهد على الغائب ) أو العودة إلى ( الأصل )وهذا يعني إن أي هجوم ضد المجتمع والمدنيات المسلمة فإنه هجوم على الإسلام بشكل غير مباشر لهذا شدد الإسلام على محاور الدفاع بالرجوع إلى الأصل .
يتمحور الخطاب الإلهي في القرآن الكريم على إصلاح المملكة الإنسانية فرد/ مجتمع لأنه أساس بقاء أو فناء الحضارة وقد بين الدين الإسلامي ما هو إيجابي وسلبي في المجتمع والامة وأخطر ما يهدد المملكة إنسلاخها عن هويتها المرسومة لها أو تنصلها عن تلك الهوية ولا يتم هذا الأمر إلا بوجود هوية أخرى تحاول إذابة كل حدود الهوية الأصلية وتشير معظم الدراسات السياسية والاجتماعية إلى وجود خطر يواجه كل الهويات الثقافية ، الدينية ، السياسية…. الخ ويتمثل هذا الخطر ب ( العولمة اللاإنسانية )تلك الفكرة الأمريكية التي إبتكرها صموئيل هنتنغتون عام 1993 والتي سارعت الولايات المتحدة إلى تطبيقها بشكل فوري ومباشر في العالم ، وقد حعلت العولمة نصب عينيها أقوى الهويات الحضارية لتفتيتها وعلى رأس تلك الحضارات الإسلام الذي وقف أمامه منفذي سياسة البيت الأبيض والبنتاغون طويلاً لاختراقه ، ولم تكن العولمة الأمريكية مجرد دراسة حول الحضارات وديناميكية حركتها التاريخية بل جاءت مبطونة بخطط جيوستراتيجية وإستعمارية وعسكرية وإقتصادية خطيرة حيث أنها لا تتم بشكلها النهائي إلا بعد فتح القنوات بين الحضارات الكبرى وليست هذه قنوات حوار كما درسها المفكر الفرنسي روجيه غارودي بل قنوات صدام بين الحضارات والديانات وتصعيد التوترات الدولية والاقليمية الداخلية وتغير جوهر الصراع من السياسي إلى الديني أو إلى الحضاري أو المذهبي لأن مثل هذه الإشكالات لا يتم حلها أو تسويتها بين الأطراف المتنازعة وإذا أمكن أن تكون هناك حلول فسوف يودع فيها فتائل جاهزة للأشعال في أي وقت ويأتي دور الولايات المتحدة في قدرتها على صنع الأزمات أو التدخل في فكها من خلال التدخل العسكري بذرائع تضرب مواثيق وقوانين الأمم المتحدة ومجلس الأمن على إعتبار إن هذه الدولة أو تلك عدوة لها وقد بين إدوارد سعيد في كتابه ( الثقافة والإمبريالية ) الجهد الأوروبي سابقاً في تبرير حكم الشعوب المستعمرة البعيدة بذريعة غريبة تلغي دور الأخر ووجوده وهي ( انهم ليسوا مثلنا ومن حقنا أن نحكمهم ) ولأن الدور الإستعماري الأوروبي قد إضمحل فإن الولايات المتحدة الأمريكية الأن تلعب الدور نفسه ، ومن الملفت للنظر ان اوربا تلمست خطر العولمة فقد اشار الخطاب الذي القاه جاك شيراك في مؤتمر الدول الناطقة بالفرنسية (الفرنكوفونية) في كوتونو عام 1995 الى خطورة جعل اللغة الانكليزية مهيمنة على المسرح الدولي مما يهدد بذوبان الهويات القومية الاخرى وهذا التحذير جاء كرد فعل للجهد الانكلوفوني المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية .
بعد سنوات من طرح كتاب ( صراع الحضارات ) لهنتنغتون قام مفكر العولمة اللاإنسانية بنشر دراسة ظهر سفيها ما أبطن في الدراسة الأولى وهي ( القوى العظمى الوحيدة ) وهي وثيقة العمل المستقبلي لأمريكا خلال عقود من الزمن وهي خارطة الطريق الكبرى وقد أولى هنتنغتون للولايات المتحدة زمام تطبيق هذه الخارطة ومقاضاة أو معاقبة كل من يقف أمامها أو يرفضها كونه (خارج عن القانون ) – جملة المؤلف نصاً – وقد باشرت أمريكا بعد ظهور هذه الدراسة عام 1999 بالعمل على ضوء بنودها في أفغانستان ووفق معايير العولمة نفسها ، لم تنجح ( لا يعني فشل ) سوى بالوجود العسكري في قلب أسيا إلا ان دخولها في العراق غير مؤشرات النتائج كونه أرضاً خصبة في المتغيرات العرقية ، القومية ، الدينية ، المذهبية فتحويل هوية العراق إلى الماركة الأمريكية أيسر بالنسبة لهم قياساً بأفغانستان وليس تغيير الهوية بما تحمله من مفاهيم واطر معقدة أمراً بسيطاً فهي العدو الأشد قوة للعولمه الأمريكية لذلك تسعى إلى تغييرها وفق اليات خاصة وبرامج مكثفة ، والهوية وحده اجتماعية ونفسيه متكاملة لا تقبل التجزئة والتمزق والتوزع والتفتيت وقد أجريت دراسات كثيرة حولها بعد ظهور العولمة ونظراً لأتساع معناها تختصر بـ( الجنس ، اللون ، الثقافة، الأعراف ،الدين ،التاريخ ، التراث …. الخ ) التي تتشكل عبر الزمن بتفاعل هذه المكونات معاً في التاريخ وعملية التغيير أو الأستبدال لا تتم إلا بعد السيطرة الكاملة والتغيير السياسي والاجتماعي للمنطقة ويسبق هذا الدور الأعلامي الموجه لتشويه صورة الهوية عند الأخر وهذا ما حدث بعد عملية 11 أيلول حيث واجهت الهوية الإسلامية أكبر حملة إعلامية للتشويه وقورنت لأول مرة في التاريخ ( بالإرهاب ) أو أصبح مرادفاً لها وأصبح الإسلام في الرأي العام الغربي على إنه دبن صارم وإن الجهاد في رأيهم معاداة الغرب ومصدراً لمخاطر هائلة وإن الإسلام يعكر صفوة العالم الغربي القائم على العقلانية ! والإعتدال ! والتسامح ! وهذا يعكس نظرتهم للإسلام على إنه ليس عقلانياً، متطرفاً ، حاقداً ، ففرنسيس فوكوياما ربيب المؤسسة الامريكية يعتقد ان على الولايات المتحدة بعد انهيار الشيوعية (تخترع) لها عدواً آخر وان عليها نقل البندقية من الكتف الايسر الى الكتف الايمن ويضع فوكوياما الاسلام كعدو جديد محتمل مكان الكتلة الشيوعية المنهارة (مؤتمر سنغافورة حول العلاقة بين العرب والغرب – 1996 ) وقد عملت العولمة بعد 11 أيلول بالظهور بصفة القاضي الكوني – جملة لهنتنغتون – الذي يلاحق المجرمين ومعاقبتهم لإرساء قواعد السلام على الأرض وإن ملف المحكمة الأمريكية مليء بالادلة والذرائع لأي هجوم ، تدخل ، غزو، إحتلال تقوم به ضد أي دولة على الأرض .
أزمة الهوية العراقية هي الضحية الفرعية لأزمة الهوية الإسلامية فالهوية العراقية الأعمق تاريخياً وحضارياً من أي هوية على الأرض والتي تبلغ من العمر أكثر من ستة الآف سنة معرضة للتفكك والإستبدال لانها النقيض الفعلي للعولمة الأمريكية وتغير الهوية لا يتم إلا بعد السيطرة الكاملة والهيمنة الفعلية لكل مرافق الحياة حيث تعمل العولمة على تحيد الهوية الأصلية ثم تهميش دورها ثم إقصائها خارج دائرة الفعل الحضاري وخارج الهوية الجديدة كي لا تعود للظهور من جديد وتستخدم العولمة ( الأمركة ) آلية الإزاحة وآلية إرساء القواعد الجديدة عن طريق الحقن ويمكن إيضاح ذلك بالمخطط التالي :
(لايظهر)
وسيكون بين مرحلة الازاحة والحقن حقل إغتراب يقع فيه الفرد / المجتمع بين تمسكه بالهوية الحقيقية وبين إستجابتة للهوية المفروضة وهذا الحقل يبقى موجوداً طالما يبقى للهوية الأصلية وجود إلا أنه يتصف بالقلق والتأرجح أمام القبول والرفض حيث أن قدرته على المقاومة ضد التغير تساوي قدرته في التمسك بهويته الأصلية ويستمر دور هذا الحقل وجودياً في المجتمع متغذيا على إنسحاب الفرد من هويته الأصلية ورفضه للهوية الأخرى لأمتلاكه رأي أخر أو انسحاب الفرد من الهوية الجديدة ورفضه للهوية الأصلية لإمتلاكه بدوره رأي أخر بالقدر الذي ينظر إليه منفذي العولمة الأمريكية لسير خطة التغيير ينظرون إلى خطورة بقاء أو وجود نواة للهوية الأصلية في داخل الهوية الجديدة لذلك يجهضون أي ولادة مستقبلية لها إلا أنه هناك مفردات لا يمكن تغييرها أو الغائها في الهوية الأصلية ولا يمكن صنعها أو إيجادها في الهوية الجديدة وتشكل هذه المفردات أقوى المفاهيم الرافضة للأنسحاب والتنصل (الدين، التاريخ، التراث ) وتهدف العولمة نظراً لهذا الإشكال إلى تهميش دور هذا المثلث داخل الهوية الجديدة أو محاولة إيجاد مبررات للهجوم أو تفكيك هذا المثلث وشل حركته التاريخية في المجتمع ومن بين الوسائل الهجومية للعولمة الأمريكية هي إتهامه بالإرهاب كون الدين( في نظرهم ) يشكل في بعض الظروف التي( يختارونها ) دوراً ارهابياً ! فقد عملت الولايات المتحدة على ايجاد عدو جديد تبرر فيه عملياتها العدوانية في المستقبل لذا عملت على صياغة للاسلام بحيث يغدو العدو الجديد ! وتأتي نظرية هنتنغتون لتؤكد على ضرورة احتفاظ امريكا بزعامة العالم لان الصدام بين امريكا والعرب والمسلمين واقع حتماً وسيكون في جانب من جوانبه صداماً ثقافياً (مؤتمر سنغافورة 1996) ففي الوقت الذي كان فيه الاسلام يتصدر قائمة الحضارات الانسانية الكبرى اصبح يتصدر (اجندة) السياسة الامريكية ، وأن مكافحة الارهاب بالتأكيد يتوكل بها الأمريكان وحدهم وعلى الدول تقديم برأة الذمة من وجود أي عناصر ارهابية ( دينية ، سياسية ، ايديولوجية ) في بقعتها الجغرافية فكانت مكافحة الارهاب الذريعة التي تعمل على ضوئها السياسة الأمريكية وهي الورقة المرنة الصلبة لردع أي إتجاه يمكن ظهوره أمام العولمة أو الأمركه وهذا ما طبق على أفغانستان بحجة إنهم يمثلون تطرفأً دينياً ارهابياً يهدد المصالح الإنسانية في حين استخدمت ضد العراق على إنه يشكل ارهاباً سياسياً وايديولوجياً ضد العراقيين لذلك كانت دعواهم ( التحرير ) ! وكونه يملك اسلحة دمار شامل وبذلك الغيت ورقة حق الشعوب في تقرير مصيرها واستبدلت ب ( حق الولايات المتحدة أن تقرر مصير الشعوب )
لا يظهر فشل العولمة في أفغانستان أي مؤشرات للتفائل بالنسبة للوضع في العراق فالنصر الحقيقي بالنسنة للولايات المتحدة في أفغانستان هو وجود قواتها العسكرية أما في العراق فإن المعادلات السياسية والاقتصادية والعولمية قد إختلفت وإن مؤشرات نجاح العولمة كنظام بديل أو هوية جديدة للعراق وارد وذلك للإختلافات الموجودة في العراق كما ذكرنا وإن ما فشل فيه الأمريكان في افغانستان لن يكرر في العراق والنتيجة النهائية هي (الهوية الحضارية للمنطقة و الدينية ، الإجتماعية ……..الخ ) هي المقصودة ، فبعد حوادث 11 أيلول يوجه الإسلام تحدياً صعباً بعد أن وجهت وسائل الأعلام الغربية ضده مظهرةً الإسلام كدين هدمي للحضارة وقائم على السلطة القهرية وهو الممثل الأقوى للأرهاب في العالم لذلك كانت ( مكافحة الارهاب ) مصادرة فورية لأي عودة للأصل ( حضاري أو ديني ) لأي إتجاه تحرري قائم ضد العولمة وإن على الدول قبول السلع الاقتصادية إضافة للفكرية والسياسية ذات الطابع الأمريكي كتطبيق الديمقراطية و الليبرالية ، الفدرالية و السوق الحر ، التقنية ، الأعلام …الخ وهي السلع الأكثر إثارة في المنطقة وإن التطلع إلى تطبيق تلك المفاهيم وفق القياس والسيطرة النوعية الأمريكية هي أول فعل للتنازل وإستبدال الهوية الحضارية بالأمريكية وإن عملية إمتصاص مخلفات الأنظمة والسياسات والأيديولوجيات في العراق لا تتم بنزاهة وعدالة كما يظن البعض بل تقوم اضافة بذلك بإمتصاص ومصادرة الذات العراقية وفعلها الحضاري لأهمية العراق وثقله التاريخي والحضاري والإنساني لهذا يمكن إعتبار العراق الدولة الأولى التي سيبدأ منها مشروع خارطة الطريق التي تظم فلسطين ، لبنان ، سوريا ، مصر ، السعودية ، إيران وإن تحرك أي دولة عربية أو أجنبية امام المخطط الأمريكي سوف يدخلها ضمن تلك الخارطة ولما لا ؟! ومصطلح العولمة في اللغة الإنكليزية مشتق من الكرة الأرضية أو الكرة الأمريكية في قاموس أخر .
نشرت في جريدة (الزمان) --- العدد 2168 --- التاريخ 21 / 7 /2005
التعليقات (0)