الواقع أني ما كنت لأنجر وراء هذا النمط من التفكير الذي يحصرني في اطار ما رسمه غيري اوحدده، أي بأن يوجه مسار تفكيري ويوجه بالنهاية طريقة الوصول الى النتائج . أنا لا احبذ الرد بتاتا ولا أقبله لغيري من الذين لديهم ما يقولونه دائما، ويتركوا الاخرين في مجال معرفتهم يعانون حرقة الصدمة من الافكار الثورية والبعيدة عن مجال تفكيرهم هذا هو منهجي . ويبدو أني وقعت هنا فيما حاولت أن أبتعد عنه طوال حياتي والسبب أن ردي هنا يأتي على رأي لصديق عزيز تربطني به علاقات كثيرة وكبيرة الاستاذ حسين شبر ، كما أن سوء فهم حدث لصديقنا واستاذنا سلام طه ذلك المثقف المحترق بنار وجوده الأبدي في جملة الأخذ والرد هذه . ولو تركنا كما هي عادتنا الافكار تنزاح دائما هناك في زواياها القصية البعيدة لكن ذلك أفضل ولكنها دائما هي الافكار تفتك بأصحابها أحيانا وتنثرهم في هباء وجودها رمادا حقيرا .
الواقع أن دراسة شبر جاءت لتناقش موضوعا مهما أو يكتسب أهميته من طبيعة الحراك الثقافي الدائر في الساحة الثقافية العربية الآن . ولكنه حراك خجل اي لم يرقى الى مستوى التأثير الذي يخلق نتائج تكون لها أثر ما في تغيير الواقع . وعلى كل سيبقى هذا الحراك يقتات ذاته لماذا ؟ لأنه ليس حراكا شاملا في اطار بنية المجتمع الذهنية والفكرية والاجتماعية والثقافية . وانه لا يؤدي الى أية نتائج تذكر . ودعني هنا أن أنحرف بالموضوع نحو منحنى آخر .
تمثل عملية التفكير والتأمل بالتراث الاسلامي اليوم عملا عاجلا وضروريا من الناحية العقلية والفلسفية والتاريخية . ولكنه مزعزع من الناحية السياسية والثقافية، وخطير من الناحية النفسية والاجتماعية ، هذا لاننا لكي نقوم بذاك مضطرون لتعرية الوظائف الإيديولوجية والتلاعبات المعنوية والانقطاعات الثقافية والتناقضات العقلية، التي تساهم في نزع الشرعية عما كان هو متصورا، أو معاشا طيلة قرون وقرون بمثابة أنه التعبير الموثوق عن الارادة الالهية المتجلية في الوحي . هذه هي المشكلة العويصة . أن تتأمل في التراث الاسلامي أو أن تفكر فيه فهذا يعني أن تخترق وتنتهك المحرمات والممنوعات السائدة أمس واليوم . وتنتهك الرقابة الاجتماعية التي تريد أن تبقى في الدائرة البعيدة عن التفكير .
اذن المسألة ليس كما حاول أن يوهمنا شبر بقوله في جملة أسئلته تلك وهو يتحدث عن الانقطاع التاريخي كيف يحدث ؟وهل يمكن فصل التاريخ عن الواقع المعاش ؟ ثم يقصد بالتاريخ جملة التراث المعاش , ثم كيف تتم عملية فصل المؤمن عن وجدانه المتشكل والذي يغذى باستمرار من هذا التراث . ثم يبني استنتاجاته تلك على تلك الممارسة الشعائرية والطقوسية التي تصوغ الفكر والوجدان وتفعل فعلها في الذات المؤمنه . ثم يقول ومع كل ذلك كيف ننجز هذا الانقطاع التاريخي وعلى أية شاكله ؟ ثم ينتهي الى النتيجة التالية : لا يمكن ان نسقط المثال الغربي في تعامله مع الدين المسيحي على العالم الاسلامي الذي يعيش في سبات عميق وضلام وضلال حضاري . ولا أدري هنا كيف يتحدث عن انقطاع تاريخي ثم ينقلنا في الفقرة التي تليها الى نوع محدد من الانقطاع المعرفي، الذي حدث بضرب الفلسفة وانهائها تماما مع نهاية ابن رشد . هناك فرق كبير بين الانقطاع التاريخي كما تجسد في وعي المثقف العربي والانقطاع المعرفي الذي لم يعرفه هذا المثقف أو لم تعرفه الثقافة العربية على مدار تاريخها المعاش حاليا . ذلك اننا نتحدث هنا عن سياق يحدد مجالات التصورات الممكنة في الوعي وهي مسألة غاية في الحساسية، لأن المعرفة السائدة والضاغطة على الزمن الذي يتحرك به التاريخ تؤدي دائما الى نتائج عكسية وباستمرار، لا في صياغة وعي ممكن، ولكن تثبيت الوعي الذي انتج في الماضي، ليس على سبيل استعادته بمعنى ما ايضا، أي بنسقه الفاعل في الذات ولكن بطريقة اكثر انسياقا وراء الذوبان التام في بنى المعرفة . ان مسألة الزحزحة هنا لا يمكن أن تتم في ظل المنهجية التاريخية أو اقصاء التاريخ بعيدا في تلك الزوايا المظلمة. انها تتم في نسق التبدلات الجوهرية في المفاهيم المنبثقة في الوعي الجمعي للأمة المسلمة اليوم وهذا لن يتحقق بعملية التفحص التاريخي .
اذا قمنا بقراءة هذا النسق بتبدلاته التاريخية نلاحظ قوى متعددة متداخله ومتشابكة حرفته عن مساره الذي كان يتحرك فيه لحظة التأسيس أو التدشين الأولى . ولنأخذ على سبيل المثال مسألة خلق القرآن وكلما استشهدت بهذا المثل يبرز الاعتراض المتكرر في البيئات الاسلامية العالمة أو المثقفة : وهو أن المعتزلة والسلطة المؤيدة لهم قاموا بإخضاع أهل السنة لمحنة شديدة وهذا واقع تاريخي لا سبيل الى انكاره ، ولكن التفسير التاريخي الموضوعي يذهب الى ما ابعد من هذا الجدال العقيم حول عقلانية المعتزلة من جهة، وعدم تسامحهم من جهة أخرى ، فالمعتزلة الذين قاموا بعملية الاضطهاد تلك تحولوا بدورهم الى مضطهدين حين صدرت الوثيقة القادرية بأن كل من قال بخلق القرآن دمه حلال . لماذا استدعيت هذا المثال ؟
لأنني أحاول هنا أن أموضع الحراك التاريخي بكل مكوناته الثقافية والفكرية في اطار معرفي عام، وذلك لمحاولة فهم عملية الفصل بين نظام الاعتقاد وبين الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي وحتى الفلسفي، الذي ساد في القرنين الثالث والرابع الهجريين، والذي راح يبلورها الخطاب الثقافي العربي المعاصر نوعا ما .
أين تمفصل رهان النزاع ، في الواقع أن الرهان للعقل الاسلامي تمفصل حول قضية واحدة هو تأصيل الإيمان بدين الحق ، وعلى هذا المبدأ دارت صراعات المسلمين وحروبهم وتطورت نظم جدلهم لا لتعميق النظر وانتاج المعرفة للمعرفة .
لا يكفي هنا رواية الاحداث بشكل سردي زمني تاريخي واستدعاء نظرياتهم العقائدية، وإنما أن نستنطق ما حاول التاريخ أن يخفيه ويسكت عنه تماما, سواء عند المعتزلة أو السنة أو أهل العصمة والعدالة أو الخوارج .. الخ . جميعهم كانوا يؤمنون بالدين وكلهم كانوا يؤمنون بتأصيل الحقيقة، إلا أنهم لم يدركو الخطوط الفاصلة بين التصور المثالي للحقيقة التي هي أصلا مرتبطة بالمواقف المعرفية الشاملة كما رسمها القرآن والاعتراف بوجودها كمثال متصور ومعاش على أرض الواقع .
ومنه هنا عندما نتحدث عن مقولة الجابري عن كيفية تشكل العقل الاسلامي العالم، نصطدم هنا بالكثير الكثير من التحليل الوصفي والسردي والسطحي . ذلك أن الجابري ظل خاضعا لسطوة المفاهييم الكلاسيكية بين مختلف الفرق ثم راح يحللها بناء على تاريخ الصراع للقبض على الحقيقة المشتركة بين الجميع . ثم جعل من هذا الصراع مكونا للعقل كما استقر في نهاية القرن الرابع عشر . وهذا موضوع آخر يطول تقصيه .
اذن فأي حديث عن بنية التراث التواصلية في سياقات لغوية وثقافية تسترعي الانتباه ؟ اي فيما يخص نقل النصوص والعيش عليها؟ يقول الكاتب ان هذه الاستمرارية كانت متواصلة فيما يخص الادبيات العقائدية أو نظام الاعتقاد ولكنه اصيب بانقطاع سلبي فيما يخص المجالات الفكرية والثقافية والسياسية التي انتشر فيها نظام الاعتقاد ثم يؤكد على عملية الفصل تلك بين نظام الاعتقاد وبين المجالات الفكرية التي تبدت كظاهرة دينية او تم صياغتها على شكل ظاهرة دينية، بصفتها مرجعية اجبارية للسياسية والاخلاق والاجتماع والتفسير. ثم تمثلت هذه المرجعية بضرب الفلسفة . فقد تم رفض الفلسفة ثم حذفها نهائيا بعد موت ابن رشد . هنا يتم التفريق بين السياق الحضاري للثقافة وأنظمة الفكر التي صاغته في لحظاته التدشينية ثم لحظات الانفتاح الواسعة فيما بعد ، وبين نظام الاعتقاد الذي استمر يتحرك صعدا في صيرورة دائمة .
يقول بول ركور... إن الاعتقاد يتجاوز في مفهوم الانطباع الذي يدل على الحدث المؤسس لحياة الروح ومع الفكرة المتفرعة عن هذا الانطباع، ومع العادة والتقاليد التي تلعب دور المبدأ العام المشكل للنظام ،وبخاصة بما يتعلق بلأفكار المجردة والقواعد العامة ، ذلك أن هذا النمط من التصوارات تظل تفعل أفاعيلها في الوعي العام للبشر، وأن المثقف عندما يستعيدها أنما يستعيدها بوعيه هو، وهو وعي مغاير لتجلي الحقيقة ذاتها . أن مسألة اسقاط الاعتقاد على هذا النحو ومن قبيل بنى التصور العقلي لا يمكن أن يتم على الشاكلة المغايرة تماما للأعتقاد ، أنه يتمثل في وعي المؤمن القادر على استبطان التاريخ بمراحله المتقدمة، ذلك أن الاعتقاد هو مسألة ترتبط في جملة التصورات التاريخية، ولا يمكن فصله تماما عن بنى المجتمع الذهنية والنفسية ومجالات تبديها على المستوى التاريخي، وهنا لايمكن بتاتا زحزحة التصورات من نظام فكري الى نظام فكري لاحق أو مغاير .
إنه لا بد من زحزحة اتجاه الالزام الاخلاقي الذي يمارس فيه الايمان صلاحياته ياعزيزي لكي ينقذه من براثين التاريخ الوصفي ،. هكذا راحت الحدود تتوضح بين الإيمان الديني ضمن حدود المسير من قبل السلطة العقائدية و السياسية وبين الايمان العقائدي المتخذ كمادة للنقد الفلسفي المنهجي ، وفي ذات الوقت تنفتح أمامنا امكانيات خصبة وعديدة للتبادل الايجابي بين كلا المنظورين ، من الممتع والمهم أن نراقب الفروق أو الاختلافات التي أخذت تؤكد ذاتها على هذا النحو بين مختلف الحساسيات الفكرية المجبولة من قبل نفس المعطيات الروحية والثقافية، ولكن مع ممارسات سياسية مختلفة بدأت تتمظهر بشكل مختلف تماما . كيف أصبحت هذه المنجزات الفكرية التي تحققت بخصوص مكانة الايمان العقائدي في سياق الحداثة المنجزة التي تنتج فكرا متجاوزا اي يتجاوز الايمان باستمرار.
وأما عن تأخر الوضع فيي الدراسات الاسلامية فحدث ولا حرج، فنحن لم نتوصل لحد الآن الى مرحلة اعادة التفكير في الايمان العقائدي . وبالطبع لم نتوصل الى مرحلة اقتراح بدائل فعالة تحل محل نماذج العمل التاريخي التي يدافع عنها ويبجلها مقاولوا السلطة الدينية من أمثال سلسلة مثقفينا المتنورين الذين راحوا يقرأو تخلف العالم الاسلامي من زاوية واحدة ووحيدة وهي مسألة القطع التاريخي مع الماضي ، وفي رأيهم أن المشكلة إنما تكمن هنا و في هذا السياق المعرفي لكن المشكلة أعمق وأكبر من ذلك بكثير .
اننا عندما نتحدث عن مسألة القطع التاريخي فيجب أن نحاذر كثيرا من الوقوع في أسر جهل مركب من مزدوجين خطيرين، الاول انبثاق الوعي المزيف، والثاني ضياع الهوية، أو قل الخصوصية والا أقصد بالخصوصية هنا التميز لا..لا هذا أمر بعيد عن فكرنا وعن منهجيتنا في الطرح والفهم . انني اذ ادخل الاسلام كمثال مفيد للدراسة فإني لا أهدف الى دعم التبجيل كما يفعل المسلم، اني لا اهدف الى موضعة الايمان داخل الاطار الذي يعتقد بوجود ايمان يتجاوز كل شيء ،اني كنت من المطالبين دائما بتجاوز هذا الايمان التقليدي وغير التقليدي على السواء .
لذلك ان مشكلة المعتقد هنا تترسخ في الوعي باتجاه يدعو للتوقف عنده، وليست المسألة كما حاول شبر ان يصفها بشكل سريع للخلوص الى موقفه . أن ثمة ما يدعونا هنا لتجاوز مسألة التاريخة في الدراسات الاسلامية الى ما هو أهم بكثير ـ مسألة الاعتقاد كما يتجلى في الوعي المثالي وان كان في في نسقه المتغير او المثال الذي يراد له ان يسود في الوعي الجمعي للأمة المسلمة .
التعليقات (0)