الإسلاميون والليبراليون في السعودية..علاقة طردية!
كتبهامرام مكاوي
المتابع للشأن العام السعودي، وللقضايا الجدلية الخلافية نفسها (قيادة المرأة للسيارة، عمل المرأة، السماح بالسينما والمسرح، المناهج الدراسية، المهرجانات الثقافية والفكرية ومعارض الكتب… إلخ) سيجد أنه ثمة طرفان رئيسيان يقفان في وجه بعضهما: الإسلاميون والطرف الآخر الليبراليون. وعلى الرغم من أن غالبية الشعب السعودي تقريباً تقف موقفاً وسطاً بين هذين الفريقين، وتكاد تقترب أو تبتعد عن هذا الفريق أو ذاك لسبب أو لآخر، إلا أن عدداً قليلاً جداً من الكتابات في الصحف السعودية، أو في المنتديات والمواقع الإلكترونية، يعكس رأي هذه الأغلبية الصامتة. فالخصمان الرئيسيان على الساحة هما أقوى نفوذاً وأعلى صوتاً من صوت الأغلبية، وإن بدرجات متفاوتة.
ويبدو أن المرأة بشكل خاص أضحت ورقة "كوتشينة" من فئة (الجوكر) يلعب بها الفريقان، ويتحدى كل منهما الآخر مدعياً ببراءة أنه وحده الحريص على مصالحها.
وبقدر ما يشعر الناظر لكلا الفريقين بالفروق الكبيرة بينهما، ومدى الاختلاف الشديد في كل شيء حتى في الملابس والهيئة العامة، إلا أنهما يشبهان بعضهما إلى حد كبير في الوقت ذاته. فكلاهما يبالغ في التطرف لليمين أو اليسار، كلاهما يقدم الهوى الشخصي على العقل والدليل والمنطق والحجة، كلاهما متمسك برأيه وبنظرته للأمور وغير مستعد مسبقاً أن يتنازل عنه أو يتحرك قيد أنملة، وكلاهما يسعى للاصطياد في الماء العكر، واستغلال الفرص وتحريض القيادة والدولة على الآخر.
وطبعاً في أجواء كهذه، تصبح المصلحة العليا للبلد، ومصالح المواطنات والمواطنين، وإيجاد حلول وسطية للمشكلات، أموراً ثانوية، ولهذا فنحن لا نزال في المربع رقم واحد، ولم نحسم آراءنا في الكثير من القضايا، وبالتالي بقينا جميعاً - وهم معنا - متأخرين، ومتذمرين.. ومحبطين.
الغريب أن ما قد لا يدركه كلٌ من الطرفين هو أن وجوده يكاد يكون نتيجة حتمية لوجود الطرف الآخر! ويظهر هذا جلياً في المناطق التي تتطرف في أحد الاتجاهين. فمثلاً الكُتاب والكاتبات الأكثر جدلاً لدى الإسلاميين، خرجوا من المناطق ذاتها التي توصم بالتشدد والانغلاق والتعصب للرأي الواحد لدى الليبراليين، وبالتدين والمحافظة لدى الإسلاميين. وبالتالي فبدلاً من صب اللعنات على الخصم واتهام جهات خارجية بأنها السبب في نشوء الفئة الأخرى، كان عليهم أن يسألوا أنفسهم عن مدى تسببهم في نشوء التطرف الديني أو الليبرالي.
سأتحدث اليوم مباشرة مع الإسلاميين ، باعتبار أنني أفهم مرجعيتهم، وأفهم الأهداف السامية التي يُفترض أنهم يسعون لها، وأسألهم بشكل مباشر عما إذا كانوا يعتقدون بأنهم سبب مباشر في التمدد الليبرالي الذي يشتكون ويحذرون منه؟
قبل عدة سنوات، كنت في السيارة مع والدي، ودار بيننا يومها حديث حول المستقبل وحول الجيل الجديد وبماذا يحلم وكيف سيكون تأثيره على البلد. يومها قلتُ له :" إذا لم يتدارك العلماء والمصلحون في هذا البلد الوضع.. ويبدؤوا بالنزول إلى مستوى الناس..وأن يكونوا أكثر واقعية وتكيفاً مع متطلبات العصر..فإن الشباب سيهجرونهم ولن يبالي كثيرٌ من الناس بعدها بأن يستفتوا هذا الشيخ أو ذاك بل سيأخذون بآرائهم الشخصية أو بفتاوى خارجية". لم يعلق أبي يومها…لكنه قبل أقل من عام تقريباً عاد وذكرني بالحوار، وقال لي: " لقد كنتِ محقة". تُرى كيف استطاعت فتاة في الثامنة عشرة أن تتوصل إلى هذه النتيجة ؟ لم تكن قطعاً تنجم أو تقرأ الكف، كانت فقط تراقب محيطها ووسطها وزميلاتها..كانت تتابع الامتعاض والتذمر الذي تبديه بعض الطالبات في حصص الدين من الرأي الواحد الذي يخالف ما تعارفت عليه العامة وعملت به أساساً من تحريم الصورة الفوتغرافية.. تحريم ما يسمى بالملابس الأجنبية.. تحريم البنطال.. تحريم قصات الشعر.. تحريم الدش.. إلخ. طبعاً بعد ذلك سنسمع بتحريم مسلسل(طاش ما طاش)، وبتحريم البوكيمون.. وبسلسلة أخرى طويلة من المحرمات المستحدثة. وبالتالي رأيتُ كيف أن الناس بدأت تستخدم ثقافة (التطنيش) مع هذه الفتاوى، فمن توقف عن التفرج على (طاش ما طاش) مثلاً بعد الفتوى؟
إن وضع الناس بين خيارين حلال أو حرام، وتجاهل الدرجات الأخرى بينهما من مكروه، وجائز، ومستحب وغير جائز جعل الناس يميلون إلى أحد الطرفين دون رجعة.
مثلاً قضية حجاب المرأة، وهل يشمل ذلك وجهها أو لا، هي قضية خلافية من أيام ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، ومع ذلك فلم تكتف مدارسنا بأن درستنا رأيا واحداً، وهو وجوب تغطية الوجه، بل حتى في هذا أجبرتنا على شكل معين: (العباءة على الرأس). وبالتالي فبالنسبة لفئة من الفتيات التي لم يعجبها لبس هذه العباءة ولم تقتنع بها، في الوقت الذي تم فيه إخبارها بأن هذا وحده الحجاب الشرعي، انتهى بها الأمر إلى رمي الحجاب بأكمله على طريقة (هي خاربة.. خاربة.. خلينا نعميها). ولما كان خلع الحجاب أمراً شبه مستحيل في الداخل، رأينا حجاباً جديداً تنفرد به بعض السعوديات (وبعض الخليجيات) وهو حجاب يمتد من منتصف الرأس، فلا الفتاة غطت شعرها كاملاً ولا هي أرسلته على سجيته كاملاً، أو حجاب الطرحة على الكتف في بعض المدن عند دخول المطاعم وغيرها. وطبعاً خارج المملكة الحجاب ليس له محل من الإعراب. فقد تحول من عبادة تتقرب به المرأة إلى الله تعالى، ومن رمز للدين تعتز به، إلى قيد ورمز للتشدد سرعان ما يُخلع بمجرد صعود سلم الطائرة.
حين أرى زميلاتي المسلمات من بنات المهاجرين، أو حتى من حديثات العهد بالإسلام هنا في بريطانيا، وكيف يتمسكن بالحجاب، وبالعباءة (أو الجلباب ) بل والنقاب أحيانا، وبحرصهن على تجنب المساحيق، وعلى تحملهن الأذى من أهاليهن تارة، ومن الرعاع في الشوارع تارة أخرى، أو من بعض أرباب العمل، وهن المولودات في هذا البلد المسيحي، خريجات مدارسه العلمانية، أشعر بالعجب وأجد نفسي لا شعورياً أقارنهن بزميلات سعوديات خلعن حجابهن وهن بنات أرض الحرمين، وخريجات المدارس الإسلامية. وطبعاً الحجاب مجرد مثال بسيط جداً على ما يتسبب فيه التعصب والتنطع. وهكذا فالتشدد في قضايا المرأة عموماً هو الذي أوجد غالباً عندنا فئة من النساء المتطرفات ليبرالياً، الناقمات على المجتمع.
لقد أمر الله تعالى المسلمين بالقيام بواجب الدعوة، وبين الكيفية التي تتم بها هذه الأمور (الحكمة ..الموعظة الحسنة..المجادلة بالحسنى)، فأين هذه من أساليب الشتم والتحقير والتكفير والتفسيق والتبديع التي يقوم بها بعض من يعتبرون أنفسهم غيورين على الدين ومن أهل العلم؟ هؤلاء الذين يسمحون لأنفسهم بأن يرموا امرأة في عرضها لأنها كشفت وجهها..أو ظهرت متبرجة..أو كتبت شيئاً لم يعجبهم..أو حتى صرحت تصريحاً غير مقبول؟! كيف يمكن أن يتقبل الطرف الآخر الرأي والنصيحة بعد ذلك؟ وكيف ستكون صورة الإسلام في عين الآخر..وهم نصبوا ذواتهم (المريضة والخاطئة) متحدثاً شرعياً ووحيداً عنه؟!
لقد بت أعتقد بأنه (صدق أو لا تصدق) يكاد يكون وراء كل ليبرالي سعودي أوسعودية إسلامي فاشل. فالمشكلة ليست في الدين وفي صعوبة تعاليمه أو استحالة تطبيقه.. بل في أولئك الذين اختطفوه..ونصبوا أنفسهم سفراء وحيدين له ومن ثم لم يحملوا الأمانة كما ينبغي.
وعلى الرغم من أنني أضيق ذرعاً أحياناً بهذه المعارك المستعرة أبداً بينهما، وبتأثيرها على الأوضاع في البلد، إلا أنني أعود فأتذكر أن وجود كلا الطرفين مهم أيضاً. فنحن بحاجة إلى أصحاب الأفكار التقدمية، ودعاة الفكر الحر حتى يذكرونا بوجوب التخلص من الكثير من العادات البالية التي لا مبرر شرعياً لها. وبحاجة إلى الصحويين المحافظين حتى يذكرونا بالثوابت التي لا يصح تجاوزها شرعاً خاصة في مهبط الرسالة وبلد التوحيد. المهم أن تكون الغلبة في النهاية (في الأمور الخلافية وليست في الثوابت الشرعية القطعية) للفكر الوسطي الذي يحاول أن يلتقي معهما في نقطة ما.. في المنطقة الرمادية.
التعليقات (0)