الاستهلاك والادخار والتنمية:
بعد حدوث الازمة الاقتصادية العالمية عام 2008،قامت بعض الدول مثل استراليا وبعض الدول الاوروبية بضخ الكثير من الاموال في الاقتصاد من خلال دفع منح مالية لعدد كبير من السكان بغية تشجيعهم على الاستهلاك الذي انحسر بسبب الازمة المالية لابعاد شبح الركود الاقتصادي الطويل، وحينها تسائل عدد كبير من الناس عن مغزى دفع اموال لهم في بداية ازمة مالية قد تكون طويلة! وقالوا ماذا لو استخدمت في اقامة مشاريع متنوعة، ولم يكن يقدروا حق تقدير عامل الاستهلاك كوسيلة للتنمية من خلال تصريف المنتجات مما يشجع على بقاء الانتاج وتحريك عجلة الاقتصاد.
تشكل التنمية اساس تقدم الامم وتطلعها نحو الازدهار والتحضر،ولا يمكن ان تقوم التنمية الا بوجود عاملي الادخار والاستهلاك،واي خلل يحصل سوف يؤثر سلبيا على الحالة الاقتصادية للبلد ويمتد تأثيره الى البلاد الاخرى بفعل حالة العولمة المعاصرة التي تداخلت فيها الاقتصاديات المختلفة الى درجة اصبح من الصعب الفصل بينها!.
الفكرة المتوارثة بأن الادخار هو وسيلة التنمية فقط هي فكرة خاطئة تماما! كما ان الادخار فوق الطبيعي سوف يؤدي بالتأكيد الى حصول ركود اقتصادي من الصعب مقاومته مما يؤدي الى توقف النمو والتنمية لان وجود استثمار قوي سوف يؤدي الى ظهور انتاج له وبالتالي الحاجة لتصريفه حتى يستمر بنفس القوة،وعليه يكون الرجوع الى الاستهلاك كوسيلة ثابتة لديمومة النمو مما يعني ان الاستهلاك والادخار هما اساسا النمو الاقتصادي والتنمية الحقيقية ويجب ان تكون موازنة حقيقية بينهما لايمكن الاخلال بدقتها!.
لقد حصل نمو اقتصادي مدهش في بلاد الشرق الاقصى لعوامل عدة منها: ان العادات الاجتماعية المتوارثة هي تحث دائما على الادخار الطويل الامد بسبب الكثافة السكانية العالية وقلة الموارد الطبيعية التي تسببت بكوارث سابقة مع التقليل من الاستهلاك الى ابعد حد هذا بالاضافة الى قوة الارادة الجماعية في ضرورة التقدم والرقي وقد وصل الادخار الى درجات عالية جدا توفق المعدل الطبيعي بحيث تجاوزت دول مثل سنغافورة والصين نسبة 50% وكان تفوق اليابان على الدول الغربية خلال العقود التي اعقبت الحرب الثانية يعود الى هذا العامل ايضا حيث كانت تفوق 33% بينما كانت النسبة في امريكا حوالي 16% (هذه الارقام دائمة التغيير) والتي اشتهرت بثقافتها الاستهلاكية المغايرة!وفي الحقيقة ان ذلك الازدهار لم ينجح الا بوجود اسواق ضخمة قادرة على استيعاب تلك الكميات الهائلة من الانتاج ولم يكن يوجد سوى سوق واحد تقريبا قادرة على ذلك الاستيعاب وهي السوق الامريكية! ولذلك لعبت امريكا دورا رئيسيا في تطوير تلك البلاد حتى وصل الامر الى ماهو معروف في تخلخل الميزان التجاري لصالح تلك الدول بدرجة خطيرة حتى أثر على الوضع الاقتصادي الداخلي الامريكي! وهذا معناه انه لولا توفر هذا الشرط الاساسي لما نجحت دول الشرق الاقصى في تنمية نفسها بالاعتماد على عامل الادخار لوحده مما يعني تبادل المصلحة بين الطرفين،وقد ادى ذلك الى توفر تراكمات مالية هائلة لم تقم تلك الدول بحث شعوبها على الاستهلاك كوسيلة للتطوير الذاتي بعد تجاوز مرحلة الاتكال على الغير،بل واصلت الاستثمار في داخل الدول الاخرى وبخاصة في السوق المالية الدولية الغير منتجة ومنها سوق السندات الامريكية التي تدعم استمرار تدفق الواردات من الخارج... ومع حدوث الازمة المالية العالمية عام 2008 لم تقم تلك الدول بواجبها في تشجيع الاستهلاك الداخلي من خلال ضخ الاموال في الداخل مما يعني تحريك الاقتصاد العالمي من خلال زيادة اعداد المستهلكين او زيادة القدرة الشرائية لديهم،ولكنها واصلت دعم الاقتصاد الامريكي من خلال شراء سندات دعم الخزينة لسد الفجوات الداخلية لكي يستمر الاستهلاك الامريكي الى مالانهاية لغرض دعم التنمية الداخلية من خلال استمرار التصدير لدول مثل الصين التي لو استثمرت الاموال المدخرة في تطوير الداخل وتشجيع الاستهلاك لكان النمو اكبر بكثير ولكن الثقافة المتوارثة والاستناد على عامل الادخار والتصدير الى الخارج كان اكبر من عملية القدرة على التغيير،بينما تجاوزت اليابان منذ فترة طويلة هذه المرحلة من خلال تشجيع الاستهلاك الداخلي كوسيلة لتصريف الانتاج المحلي بالرغم من بقاء سياسة الحماية،هذا مع العلم ان سياسة البقاء على الادخار قد يؤدي الى فقدان القيمة الحقيقية للمدخرات من خلال تدهور احوال الاخرين او ضعف قيمة العملات مما يعني تآكلها مما يعني انه غير آمن.
في المقابل استند التطور الاقتصادي الامريكي على ثقافة الاستهلاك وفي الحقيقة انه لولا هذا العامل لما تقدمت امريكا كثيرا!ولكن لولا وجود القدرة الانتاجية الهائلة لما ظهر هذا العامل المهم في التنمية مما يعني ان الدول التي ليست لديها القدرة الانتاجية الكافية فأن ثقافة الاستهلاك هي غير كافية بل هدرا للاموال واضاعة للجهد، مما يعني ان طرق التنمية ليست واحدة بل عديدة،وقد ساهم توفر الموارد الطبيعية والانشغال لفترة طويلة في بناء الاقتصاد الداخلي في تطوير البلاد حتى اصبحت اقوى اقتصاد في العالم لفترة تجاوزت القرن بكثير!.
ان الاستهلاك الداخلي سوف يؤدي الى تصريف الانتاج الداخلي مما يعني دوران العجلة الاقتصادية،وقد ساهم الادخار وتوفر الموارد الطبيعية مع عدم الانفاق الدفاعي الضخم الى تطور امريكا السريع بعد الحرب الاهلية 1861-1865 ولغاية عام 1939،ولكن لذلك الاستهلاك الضروري شرط هام وهو استهداف الانتاج المحلي وليس العكس كما هو حاصل لدى البلاد العربية!.
الاستهلاك والادخار في الدول العربية:
يعود سبب تأخر الدول العربية الاقتصادي الى وجود فوضى وضعف في ادارة وتخطيط الوضع الاقتصادي،فلا هي من الدول العالية الادخار وتعتمد التصدير الى الخارج كما هو في حالة دول شرق اسيا ولا هي من الدول المعتمدة على الاستهلاك الداخلي لانتاجها لغرض النمو الاقتصادي كما هو في حالة امريكا، بل هي ضيعت المسارين معا!.
فالاستهلاك الداخلي الضخم في دول الخليج مثلا هو غير مجدي في التنمية لان اغلب المستهلك هو مستورد مما يعني عدم وجود قدرة انتاجية داخلية كافية لسد احتياجاتها المحلية واعتمادها هو فقط على السيولة النقدية نتيجة تصدير النفط وهو عامل مؤقت بسبب ان النفط هو مادة ناضبة وكذلك وجود النمو السكاني العالي،مما يعني انه في حالة البقاء على تلك السياسة التي مر عليها عدة عقود من الزمن دون تغيير فأنه سوف يؤدي الى تكرار حالة اسبانيا والبرتغال عندما توفرت لهما الاموال الضخمة من استعمار امريكا اللاتينية دون ان يتم استثمارها بالشكل الصحيح كما حصل في امريكا وانكلترا،وفي المقابل فأن الدول الاخرى التي تعتمد الادخار دون وجود منافذ استثمارية داخلية مثل ليبيا والجزائر فمعناه ان التنمية سوف تبقى متوقفة او بطيئة لعدم بناء مصادر انتاجية لسد الاحتياجات المحلية وتصدير الفائض كما هو حاصل في حالة دول الشرق الاقصى مما يعني ان هذا المسار ايضا غير صحيح.
اما اغلب الدول العربية مثل مصر والسودان والمغرب واليمن وغيرها فهي لا تتبع الطريقين! بسبب ان الاستهلاك يشكل نسبة عالية من الدخل لكونه محدودا وليس لوفرة السيولة النقدية مما يؤدي الى عدم وجود ادخار حقيقي بمستويات معقولة مما يعني ان عجلة التنمية الاقتصادية متوقفة منذ فترة طويلة،والغريب ان اغلب تلك الدول ايضا مستوردة لاغلب احتياجاتها الداخلية الغذائية بالاضافة الى الصناعية مما يعني ان عدم وجود التصدير وعدم وجود الامكانيات الانتاجية الداخلية لسد الاحتياجات المحلية سوف يبقي تلك الدول في دائرة التخلف وللدلالة على الوضع المرعب تذكر بعض الاحصائيات ان نسبة الادخار في مصر في عقد التسعينيات يصل الى 7% وهي نسبة ضئيلة لا تكفي اساسا حالة النمو السكاني المرتفعة مما يعني تآكل القيمة الحقيقية للدخل بالرغم من ارتفاعها الشكلي(لان الحاجة الحقيقية للبقاء ضمن نفس المستوى يجب ان تكون بحدود 8%) وهذا ينطبق على بقية الدول الاخرى التي تتصارع فيما بينها لاتفه الاسباب ولا تتعاون لمجرد الرغبة في البقاء ضمن دائرة الدول الساعية الى النمو(اقل من حالة دول الشرق الاقصى!) وليس كما هو حاصل الان في بقائها ضمن دائرة مفرغة من السكون الهادئ الرهيب!.
التعليقات (0)