الاستقراء منهجا
لو نظرنا إلى الاستقراء منذ ظهور بذوره الأولى و حتى اليوم، فإننا نجده منهجا يكاد يكون مكتملا، و قد ساهم في الدفع بعجلة الفلسفة و العلوم إلى الأمام، لكن هذا لا يمنع من أن نتطرق إلى أهم الانتقادات التي وجهت إليه.
فكثيرا ما ارتبط الاستقراء بالعلوم الطبيعية و الفيزيائية، لكنه هو أوسع من ذلك، و هذا أهم فيلسوف تقريبا وجه صفعات قاسية إلى هذا المنهج، و المتمثل في شخص دافيد هيوم. و من هنا، و اعتمادا على ما تقدم من بناء للموضوع نجد ما يلي:
كيف نظر هيوم إلى الاستقراء؟ أو على الأحرى، ما هي الدعائم الأساسية لبناء الفلسفة العلمية عند هيوم؟
هيوم أوّل ما انطلق منه لبناء فلسفته العلمية هو انتقاد الفلسفات السابقة، و خاصة تلك التي مجدت العقل، و جعلته المبدأ و المنتهى في تفسير الظواهر الطبيعية، فهذه الفلسفات عند هيوم جعلت مبادئ معينة هي التي تسيطر على النظام المعرفي السائد قبله، رغم هشاشتها واقعيا، و منه أخذ هيوم بالاعتبار مسائل أساسية في العملية العقلية أثناء ولوج العقل دائرة التشبع بالمعلومات، و ذلك أنّ العقل يأخذ بالكلّ، لأنه لا يهضمه دفعة واحدة، و إنما يعمد إلى تجزئته، فصلا فصلا، و وظيفة تلو الأخرى من أجل بناء نظام متكامل من الجزئيات المنتمية إلى الكلي نفسه، قصد جعلها سهلة الفهم، و بفهمها يفهم الكلي الموضوع في نطاق الدراسة على أنه يقين مثبت، لكن هيوم جاء بغير هذا، فقد رأى أن اليقين لا يملك لا أساسا منطقيا، و لا أساسا تجريبيا، و بالتالي فإن مسألة البحث عنه مشابهة لمسألة دخول بحر بدون شواطئ، و عليه فإن هيوم أشار إلى أنّ المعرفة العلمية يجب أن تكون بعيدة عن التجزئة العامة للكلي المفترض، و هذا انطلاقا من أنّ العقل ما دام أنه يهضم الكلي دفعة واحدة كما ينادي العقلانيين، فكيف ينتظر تجزئة بعينها للكلي المهضوم من أجل هضمه؟
فمن هذه المفارقة الغريبة انطلق هيوم ليثبت أنّ العملية المنطقية التي سادت في عصور خلت قبله هي أشبه بضياع في وهم الميتافيزيقا البعيد عن الواقع الذي يتواصل معه الفرد البشريّ مباشرة، و دون انقطاع، فينتج تأثيرا متبادلا بين الإنسان و محيطه.
هيــــوم، و بعد أنّ أثبت أنّ الطريقة المنطقية من أرسطو و حتى و صولا إلى العقلانيين هي طريقة لا تأتي بجديد خارج موضوع الدراسة، عمد إلى بيان البديل في البحث العلمي.
و هنا جعل الاستقراء منهجا صالحا، و لكنه غير كامل للاكتساب المعرفي، فهيوم رأى أنّ الاستقراء الذي ينطلق من الجزئيات إلى الكليات، أو من العينات إلى الظواهر على اختلافها هو مبدأ صالح مؤقتا في البحث العلمي، حتى انه نظر إليه على أنه منهج غير مبرر لا عقليا و لا تجريبيا، حتى أن هيوم رأى في السببية و اطراد الظواهر عملية تعوّد عليها العقل لا غير، فليس هناك ما يبرر حدوث النتيجة بحدوث مسبباتها، و ليس هناك ما يضمن اعادة احداث نفس النتيجة بإعادة احداث مسبباتها، بل ذهب إلى أكثر من هذا، حين جعل من الملاحظة غير ضرورية لاعتماد فرضية ما في بحث معيّن، و هذا أيضا لا يضمن صحة يقينية للنتيجة المتوصّل إليها انطلاقا من الفرضية المؤكدة تجريبيا.
لدى جعل هيوم الاستقراء عملية نسبية، فبعض الظروف تعطي نتيجة معينة هي صالحة لمكان و زمان معينين، و هي مهددة في أي حالة محتملة بالانهيار.
لكن هيوم لم يأخذ هذه المسألة بالجدية كما فعل مع مسألة التعميم في العمل التجريبي الاستقرائي! فهذه المسألة أثار حولها هيوم الكثير من الأسئلة. فما الذي يثبت مصداقية النتيجة المتوصل إليها انطلاقا من فرضية اثبتت تجريبيا على عينة؟ أو ما الذي يضمن تشابه كل العينات المدروسة؟
نعم! إنّ مشكلة التعميم التي فتحها هيوم جعلت العلماء يعيدون النظر في جدوى البحث العلمي، فالظاهرة المدروسة للعالم الفيزيائي مثلا، و خاصة في العلوم المجهرية، تجعله مطالبا بدراسة بعض الظواهر التي لا تتكرر إلا نادرا، لكن عملية التكرار ليست حجة عن صدق ما توصل إليه هذا العالم أثناء دراسته الشاملة، فليس حتميا أنّ تلك العينة المجهرية المدروسة لها نفس التأثير على ما حولها، و التأثر بالمنبهات المفروضة عليها، حتى و لو كان العالم المحيط بجميع العينات معتدل التنبيه بدرجات متساوية في التأثير و الاستجابة.
فلشك هيوم في مبدأ التعميم جعل المنهج الاستقرائي في صيغته الناقصة على مفترق طرق، لكنه مع هذا لم يجب على اشكالية التعميم التي أثارها، و آمن بأن هذا المنهج الذي اعتمده رواد الثورة الصناعية هو الأصلح، فالمعرفة اليقينية هي مستبعدة، و الأدوات التجريبية هي قاصرة، و العالِم التجريبي هو بحاجة إلى استنطاق الظواهر و الأخذ بنتائجها رغم العيوب الكبيرة المحيطة بها.
السيّد: مــــزوار محمد سعيد
في امتحان يوم: 05/06/2012.
التعليقات (0)