مواضيع اليوم

الاستعاذة بغير الله في مجتمع الجاهلية

إبراهيم أبو عواد

2014-04-15 07:57:09

0

 الاستعاذة بغير الله في مجتمع الجاهلية

 

من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية

 

تأليف: إبراهيم أبو عواد 

 

facebook.com/abuawwad1982

 

..............................

 

     إن المجتمع الجاهلي غارقٌ في الأسباب المادية الدنيوية دون النظر إلى صانع هذه الأسباب . فالجاهليُّ قلبُه متعلق بالأسباب وغافلٌ عن المسبِّب . لذلك نراه يستعين بالمخلوقات من أجل حمايته ، وينسى أنها مخلوقات عاجزة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضَرَّاً . فاللهُ تعالى هو النافع والضار . لكنَّ مادية الحياة الجاهلية تفرض على الفرد أنساقاً فوضوية محصورة في العلاقات المحسوسة ، ولا تنظر إلى ما وراء الأمور . وهذا نتيجة متوقَّعة في مجتمع يعتبر الدنيا هي البداية والنهاية ، ولا يؤمن بالغيبيات، لأن عالَم الشَّهادة منتهى عِلمه وعمله. وعن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وَاعْلَمْ أن الأُمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللهُ عليك ، رُفعت الأقلامُ ، وجَفَّت الصُّحف )){(1)}.

     وهذا اليقينُ كان غائباً تماماً عن العقل الجاهلي الذي لا يؤمن بالقضاء والقَدَر . فهو يعزو النفع والضر إلى المخلوق بشكل استقلالي . أي إن المخلوق يملك الخيرَ والشر ، ويتصرف بهما من تلقاء نفْسه ، ولا شيء وراء ذلك .

     وقال اللهُ تعالى : ] يا مَعشرَ الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس رَبَّنا استمتع بعضُنا ببعض [ [ الأنعام : 128] .

     فالجنُّ قد ساهموا بشكل بالغ في إغواء الإنس ، وجعلهم ينحرفون عن الصراط المستقيم . وقد كان الاستمتاعُ بين الإنس والجن متبادلاً . فاستمتاعُ الإنس بالجن يتجلى في الاستعاذة بالجن ، إذ إنه يُنظَر إليهم على أنهم قادرون على جلب النفع ودفع الضر ، وأيضاً قبول المعاصي بكل صدر رحب والغرق فيها والتلذذ بها . أما استمتاع الجن بالإنس فيتجلى في إلقاء الكهانة والسحر وكافة الأباطيل . وهذا الضياعُ المتبادل يَعكس مدى انحراف المجتمع الجاهلي ، وتحركه بدون بوصلة .

     وفي تفسير الجلالين ( 1/ 184) : (( انتفع الإنس بتزيين الجن لهم الشهوات ، والجن بطاعة الإنس لهم )) اهـ .

     وهذه المصلحة المتبادلة قادت الطرفين إلى الانهيار العَقَدي ، والفسادِ الأخلاقي، لأنها مصلحة نفعية وَقْتية قائمة على بُنية غريزية شهوانية لتحقيق متعة رخيصة .

     وفي الدر المنثور ( 3/ 358 ) عن ابن جريج قال : (( كان الرَّجلُ في الجاهلية يَنْزل بالأرض ، فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي . فذلك استمتاعهم )) اهـ .

     وهنا تبرز الاستعاذةُ بغير الله تعالى . حيث إن الجاهلي يُسند المنفعة والمضرة إلى المخلوقات . فحينما يخاف أمراً ما فإنه يتوجه إلى المخلوق طالباً منه العون والمساعدة والحماية ، ولا يتوجه إلى الله تعالى ، بسبب تفكيره المادي المحشور في المحسوسات . والمقصود بكبير هذا الوادي هو كبير الجن . وقال اللهُ تعالى : ] وأنه كان رِجالٌ من الإنس يَعوذون بِرِجال من الجن فزادوهم رَهَقاً [  [ الجن : 6] .

     وقد كان هناك رِجالٌ من الإنس في أسفارهم وتنقلاتهم يستجيرون برجال من الجن ، ويحتمون بهم ، من أجل منحهم الأمان والرعاية . فالفكرةُ المسيطرة على أذهان هؤلاء الرجال من الإنس هي أن الجن قادرون_بما أُوتوا من قدرات خارقة _ على تقديم الحماية والنجدة . والجنُّ كانوا يَعتبرون أنفسهم أرفع مكانةً من الإنس ، لأن الإنس يلجأون إليهم ويستعيذون بهم . وبلا شك فإن الإنسان لا يستعيذ إلا بمن هو أسمى منه رُتبةً ، وأعلى منزلة . وقد كان عربُ الجاهلية يضعون الجن في مقام رفيع ، وينظرون إليهم على أنهم القوة المخلِّصة من الشرور ، والقادرة على توفير الحماية وجلب المنفعة . والاستعاذةُ بالجن تنطلق من عقلية بدوية قَبَلية . فقد كان العرب يستجيرون بشيوخ القبائل ووجهاء الناس حينما تحل بهم مصيبة أو تنزل بهم فاقة . وقد طَبَّقوا هذا النموذج على علاقتهم بالجن .

     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 550 ) : (( أي : كُنَّا نرى أن لنا فَضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً، أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها  ،  يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم ، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جِوار رَجل كبير وذمامه وخفارته ، فلمَّا رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوُّذاً بهم ))اهـ .

     لقد استغل الجنُّ نقطةَ ضَعف الإنس ، وقاموا بتكريسها والبناء عليها ، من أجل استمرار نفوذهم على الفكر البشري ، وضمان سيطرتهم على السلوك الإنساني . وهكذا خَضع الإنسُ بالكُلِّية لِسَطْوة الجن ، ليس بسبب قوة الجن ، ولكن بسبب ضَعف مَوْقف الإنس ، وخَوْفهم ، وخضوعهم غير المبرَّر . 

     وفي الدر المنثور ( 8/ 298و299) : (( عن كردم بن أبي السائب الأنصاري _ رضي الله عنه _ قال : خرجتُ مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوَّل ما ذُكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلمَّا انتصف الليلُ جاء ذئبٌ فأخذ حَملاً من الغنم ، فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي ، أنا جارُ دارك ، فنادى منادٍ : لا تراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحملُ يشتد حتى دخل في الغنم ، وأنزل الله على رسوله بمكة : ] وأنه كان رِجالٌ من الإنس يَعوذون بِرِجال من الجن [ الآية )) اهـ .

     وهذا نموذج تطبيقي للعلاقة بين أهل الجاهلية والجن . فهذا الراعي بثقافته البسيطة الضحلة المستمدة من العادات والتقاليد الشعبية المتغلغلة في المكان والزمان، لم يجد _ حين فقد أعز ما يملك ( حَملاً من الغنم ) _ سوى الاستغاثة بالجن. وهذا الأمرُ إنما هو بتأثير ثقافة البيئة الجاهلية المستندة إلى عقول الناس القاصرة ، وأهوائهم المتضاربة .

...............الحاشية....................

 

{(1)} رواه أحمد في مسنده ( 1/ 293) برقم ( 2669) ، والترمذي في سُننه ( 4/ 667) برقم ( 2516) ، وقال : (( حسن صحيح )) .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !