أعيد نشر مقال لي بمناسبة 23 يوليو، يوم بداية النهضة العمانية
هل فكرت مرة فيما تفعله الأخبار السيئة ونشرات الغَمّ العربي ومفخخات الشاشة الصغيرة في عينيك وقلبك ونفسك وخيالك وأعصابك؟
ألا تريد أن ترتاح قليلا، وتُلقي برأسك في أيّ مكان عربي، وتغمض عينيك، ولا يوقظك إلا الشبع من السلام والأمن والاطمئنان؟
ألا ترغب في أن تفرك عينيك، ثم تفتحهما فتجد نفسك في بلد عربي ليس فيه سيارات مفخخة، أو سجون من الحدود الشمالية إلى الحدود الجنوبية، أو قوات يانكي تصطاد مواطني البلد وسط ضحكات وقهقهات من شباب المارينز وهم يمضغون لبانهم بطريقة فجة؟
ألا تشتاق إلى ملء خيالك وواقعك بمشهد نهضة، وأناس يخاطبونك وكأنهم يتغزلون فيك، ويتحدثون إليك وأنت الضيف كأنهم هم الضيوف؟
ألست متعَبا، ومرهَقا، وتحتاج لقياس ضغط دمك أربعا وعشرين مرة في اليوم مع اطلالة مقدم نشرة الأخبار الذي لن يفاجئك بصور أطفال لبنانيين وقد تم اخراج بقايا أجسادهم الطريّة من تحت أنقاض بناية دمرها العدوان الصهيوني في زمن الهوان العربي وذل ومهانة ومسكنة وضعف وخذلان تلك الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة؟
ألم يأن الوقت أن تصدق أن في وطنك العربي الممتد من الجزر الإماراتية المحتلة إلى الجزر المغربية المحتلة، ومن لواء الاسكندرونة المحتل إلى جزيرة حنيش المحتلة مكانا آمنا تستريح فيه الملائكة، وينفر منه الشيطان، ولا يجد فيه أمراء الحرب وأباطرة التهريب ومروجو الفساد متسعا لهم أو ترحيبا بهم؟
هل أنت واحد من هؤلاء العرب المنتشرين في عالمنا العربي والذين لا يعرفون عن سلطنة عُمان إلا برميل النفط وقلاع من مهد التاريخ وخنجر معلق في وسط الجسد النحيل كما وصفهم مثقف عربي ومستشار في أحد المحاكم واتفق معه جميع الحاضرين من أهل القضاء؟
لست في حاجة إلى السفر لسلطنة عمان في كل مرة تريد أن تتطهر أو تنعش النفس أو تريح قلبك الذي أتعبته أخبار عالم عربي تمنيناه وطنا واحدا في زمن القومية فأصبح أكثر من عشرين وطنا غريبا في زمن الصحوة!
نحن نصحبك في رحلة فكرية إلى سلطنة عمان شريطة أن تترك أحكامك المُسْبَقة وراء ظهرك قبل أن تسمع أو تقرأ أو تدلف لهذا البلد الطيب الذي كان عصيّا طوال ستة وثلاثين عاما على قوى الفساد والطائفية والمذهبية والتطرف والغلو.
أول ما تقع عليه عيناك في سلطنة عُمان هو اختفاء تلك السموم الطائفية التي تنخر في عظام دول عربية واسلامية وأفريقية كثيرة، من نيجيريا إلى العراق، وهنا لا تعرف إن كان المسؤول سُنّيا أو شيعيا أو إباضيا، ولو سألت لبهتت ابتسامة مضيفك الأكثر كرما من نخيل بلده، فكيف تُفَرق في سؤالك بين أبناء الوطن الواحد، وتنتظر ابتسامة مع الاجابة؟
ثم كيف يتصور أي عقل أن تسقط سهوا من قاموس النهضة مفردات فتلتقطها ألسنة تمهد لفك وشائج تربط بين أبناء عُمان؟
هنا تظهر صورة القائد العربي الذي يشير بسبّابته منذ الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 مُحَذّرا العُمانيين، عمليا وضمنيا ودون الحديث الصريح، أن الاقتراب من الطائفية والمذهبية خط أحمر يتعارض ويتناقض مع مجمل فكر قائد النهضة وعقلها.
المواطَنة هي الأساس في قيام الدولة العمانية الحديثة التي أسسها قابوس بن سعيد وتقترب من اكتمال عقدها الرابع.
المواطَنة بعيدا عن مشاعر الاستعلاء والفوقية، والادعاء بأنَّ الله، عز وجل، سينحاز يوم القيامة لبعض العمانيين ضد البعض الآخر وفقا للمذهب أو الطائفة أو خانة صغيرة في هوية قومية.
المواطَنة هي الكلمة الأولى التي التقطها ذهن ذلك الشاب الأسمر وهو يحتضن الظفاريين مؤكدالهم أنَّ الكلَّ سواءٌ لديه، مَنْ حارب معه ومَنْ حارب ضده، ولو انضم اليمن الجنوبي في ذلك الوقت لعُمان الكبرى بقيادة السلطان قابوس لما اختلف الوضع ألبتة، وربما اختفت كل الأسماء الأخرى تحت مسمى واحد وهي سلطنة عمان والمواطنين العمانيين.
كيف يفكر هذا الرجل؟
هنا تحيل الكلماتُ السائلَ إلى المشهد العُماني شريطة أن تكون هناك قُدرة على المقارنة مع تلك الأيام القاسية والفظة والقحطاء التي صبغت عُمان منذ ست وثلاثين سنة بلون واحد قاتم وحزين لا تسمع غير مدافع الحدود، وصيحات الثوار، وبقايا القبلية، وكل صور التخلف إلى أن تَسَلّم الشابُ الثائرُ زمامَ دولة ضربها الفقر والمرض والأميّة والتخلف وقلة الموارد وحيرة عامة لا يعرف فيها المرءُ عن عالمه الخارجي أكثر مما كان يعرف اليمنيون في أيام حُكم الإمامة.
وليس كل العُمانيين قادرين على استدعاء مشهد ما قبل وصول السلطان قابوس إلى الحكم، ولكن حكايات الآباء والأمهات والأجداد هي التي تساهم في التعريف بمراحل العَدّ من الصفر إلى الرقم ستة وثلاثين.
لا يستوعب العُمانيون منطق الطائفية والمذهبية الذي يحاول به أناسٌ اقناعَ آخرين بأن العناية السماوية تنحاز إلى جانبهم، وأن خِتْمَاً إلهياً أبعد من السماء السابعة يُزَيّن هويّتهم الدينية، وأنَّ بعضَ مناصب الدولةِ يجب أن تكون حِكْراً على فئة دون أخرى.
في سلطنة عُمان ليست هناك شجرة للأشراف تمد جذورَها إلى الأنبياء والرسل والصحابة، وغابة كاملة تمتد إلى الرعاع كما يوحي بذلك في بلاد عربية وكأن الزعيمَ وريثُ الأنبياء.
لذا لا يجد السلطان قابوس بن سعيد حرجا في أن يقود سيارته، ويقوم بجولاته، ويجلس على الأرض، ويعطي أذنيه بتواضع جَمّ لكبار السن دون أن يتقدم أحد الحراس خطوة واحدة إلى الأمام، فالسلطان في حماية شعبه.
سألت مسؤولا عُمانيا قريبا جدا من السلطان قابوس إن كان العاهل العماني مستمعا جيدا ويأخذ برأي آخر إنْ رأى فيه منطقا ومصلحة حتى لو كانت له رؤية مغايرة؟
قال لي المسؤول العماني بأن السلطان قابوس يحمل الشورى في عقله، وإن لم يسترح لنتيجة توصل إليها فإنه يستمع لذوي الاختصاص، ويمنح مُحَدّثه الوقت كله، ويزيل عنه رهبة الحديث.
نظام الضمان الاجتماعي في سلطنة عمان يدخل مباشرة إلى الجانب الانساني، وهو ليس مِنّة من الحكومة أو تفضلا من السلطات، إنما هو المحتاج في خيرات بلده.
لذا تجد سلطنة عمان من الدول القليلة جدا التي تصرف معاشات لذوي السجناء إن كان السجين هو العائل الرئيس للعائلة على العكس تماما من دول كثيرة تعاقب السلطات فيها عائلة السجين وأقاربه وذويه ومعارفه.
والأسر المنتفعة بالضمان الاجتماعي لا تمد يدها حفاظا على كرامة يراها السلطان قابوس أساس التطور والتقدم والنهضة، فكانت مشروعات موارد الرزق التي تطورت إلى قروض من المصارف فتتحقق حرية المستفيدين من الضمان الاجتماعي باختيار العمل الذي يرونه مناسبا لهم.
رعاية المعاقين اكتسبت بُعدا جديدا عندما بدأ التعاون مع منظمة العمل الدولية ، وفي نهاية مراحل البرنامج الثلاث يتم تأهيل المعاقين في نفس البيئة والمجتمع المحلي الذي تربوا فيه، ففيه ألفة ومعرفة وصلة رحم وتفهم لاحتياجات تلك الفئة، ومن السهل انخراط المتطوعين لمعرفة كثيرين منهم معرفة شخصية بذوي الاحتياجات الخاصة.
في أوروبا وخاصة في الدول الاسكندنافية يولي المجتمع أهمية كبيرة لرعاية المسنين والمعاقين منزليا، ولكن سلطنة عمان التي تسابق الزمن في اللحاق بعصر تأخر الكثيرون عنه ، تتقدم بخطى حثيثة، ويتم اعداد سيارات اسعاف مجهزة بأحدث الأدوات والمواد الطبية، ويقوم عليها مختصون أكفاء وتمر على المسنين والمعاقين، وتقدم الرعاية الطبية والانسانية اللازمة، وتتولى ارشاد الأسرة لطرق التعامل، وترصد الأخطاء، مع تبيان الطرق الصحيحة.
المرأة العمانية تسير على قدم المساواة قانونا، وهي لا تختلف عن الرجل في فكر قائد النهضة، وليس هناك عائق أو مانع من توليّها أي منصب، ولا تستطيع أي جهة متشددة أو متطرفة أن تستدرج الدين هنا لتفسيره على هواها، ومنع نصف المجتمع من الحقوق الكاملة والمتساوية.
السلطان قابوس بن سعيد يستشير ، ويسمع، وينصت بشغف، ويحترم الرأي الآخر، لكن هناك أساسيات في الزعامة، وأصول في فَنّ الحكم، وحسم إنْ رآه الآخرون غير صُلب وصارم فإنه سيكون دعوة مفتوحة لكل من أراد استغلال الفهم الديني الشخصي واعتباره أوامر إلهية لا خيار للمسلم فيها.
فهل يستطيع أي مفكر أو مثقف أو إمام مسجد أو فقيه أن يعترض باسم الدين على تعيين وزيرة للسياحة أو التعليم العالي مثلا أو يقول بأن نصف المجتمع في تلك النهضة المباركة ينبغي أن تلتزم الدار، وأن ذكور الدولة قادرون بمفردهم على تحقيق منجزات التقدم والتطور ؟
خيط رفيع تماما يفصل ما بين الشورى في أرقى درجاتها والحسم في أوضح صُوَرّه، وهذا هو ما يميز السلطان قابوس بن سعيد.
أكثر من عشرين عاما مرت على تأسيس اللجنة الوطنية لرعاية الطفولة، وهنا يظهر الاحترام العماني للمواثيق الدولية التي وقّعَت عليها باحترام حقوق الطفل.
الرعاية الصحية تأتي على رأس الأشياء التي تفتخر بها سلطنة عمان في كل المؤتمرات الدولية المتعلقة بالصحة، وترى منظمة الصحة العالمية أن السلطنة حققت تقدما رائعا في هذا المجال.
معاهد علوم صحية تمد القطاع الصحي بالكادر المطلوب، ومئات الطلاب تستوعبهم تلك المعاهد وفقا لاحتياجات الدولة.
سلطنة عمان نموذج عربي يؤكد للعالم كله أن العرب خامة طيبة، وأن الاستعداد للتطور لم يتم القضاء عليه، وأن رفاهية الشعوب ليست حلما من أحلام اليقظة.
سلطنة عمان تثبت لي، على المستوى الشخصي، فكرتي التي أعتنقها منذ باكورة شبابي وهي أن التغيير يأتي من فوق، وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأن القيادة الحكيمة والرشيدة والأمينة على الوطن تستطيع توجيه الشعب، واستخراج مكامن القوة فيه، وتفجير طاقات الابداع، وصناعة السلام، ومحو العنصرية والطائفية والمذهبية والتطرف والتشدد. والزعيم يمكنه أن يكون قائدا ماهرا، لكن جماهير الشعب لو تركت بمفردها لتقاتل على جسدها سبعون زعيما. لا يحتاج عالمنا العربي لأكثر من أربعة أو خمسة من قابوس ليتغير وجه الحياة العربية برمتها، ونحتفل باختفاء نصف هزائمنا، ونلحق بركب العصر.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)