الاستشراق ومعاداة السامية
جيمس باستو
ترجمة - محمد مسعد
سعيد في فناء جامعته الأمريكية
تراجيديا الاستشراق هي تراجيديا المقابلة بين الشرق والغرب، تراجيديا تكشف عن طيّ دائب للاستشراق على نفسه لينتج خطابًا يرى فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون بعضهم البعض كصور متضادة. المدخل إلى هذه التراجيديا -لا منشؤها- هو كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، العمل الذي وضع خطوط الجدل حول علاقة المعرفة، دعمًا أو معارضة، بالهيمنة السياسية.
وبعكس الفهم المقبول للاستشراق كدراسة علمية موضوعية للشرق فإن سعيد يكشف عن طبقات ثلاث لهذا المشروع، في الطبقة القاعدية يوجد الافتراض بالتناقض الجذري بين الشرق والغرب، تناقض يوضع في ثنائيات من اللاعقلانية، والبدائية واللاأخلاقية الموسوم بها الشرق مقابل العقلانية والتقدم والفضيلة الغربية. يجد سعيد أدلته عند كتاب متنوعين مثل أسخيلس، ودانتي، وفلوبرت، ورينان، ولورد بلفور، وكارل ماركس وبرنارد لويس.
الطبقة الثانية للمشروع تمثل العلوم المختلفة (مثل الأنثروبولوجي، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد...) المكونة للدراسة الأكاديمية للاستشراق، والتي تعكس وتدلل ثانية على التعارض الجذري عند المستشرقين.
أما ثالث هذه الطبقات فهي المؤسسات المساهمة التي تخدم إدارة الاستعمار الأوروبي للشرق. تلتحم هذه الطبقات جميعها عند سعيد لتكون نظامًا للحقيقة والسيطرة، هيمنة مركبة يمكن من خلالها نقل وترجمة النصوص، التي أصبحت أساس علم الاستشراق، والتي استخدمت لإثبات بداءة وانحدار وتعصب الشرق، وبالتالي ضرورة رسالة أوروبا الحضارية له.
الاستشراق ومعاداة السامية والصهيونية عند إدوارد سعيد
يحتجّ سعيد بأن هذا المشروع الاستشراقي موجود كذلك بالحركة الصهيونية، حيث إزاحة الفلسطينيين مبررة بالتقدم الغربي، ومقاومتهم يتم استنكارها باعتبارها تعصبًا شرقيًا حتميًا. وقرب نهاية مقدمته لكتاب الاستشراق يشير سعيد إلى نوع تراجيديا الاستشراق التي أتحدث عنها هنا، حين ينص على أنه في كتابه الاستشراق "وبمنطق لا يكاد يفر منه، وجدت نفسي أكتب تاريخ شريك سري غريب لمعاداة السامية الغربية. إن معاداة السامية، وفرعها الإسلامي الذي هو الاستشراق، يتشابهان إلى حد بعيد، وهي حقيقة تاريخية وثقافية وسياسية بحاجة فقط لأن تذكر للفلسطينيين العرب، من أجل وضعها الساخر، لكي تصبح مفهومة تمامًا".
أود أن أؤكد هنا أن العواقب المحتملة لهذه الجملة المذهلة، واتجاهات النقاشات التي يمكن إثارتها، قد تم تجاهلها جميعًا من كل من راجع أعمال سعيد أو تناولها. وفي الحقيقة فإن سعيد بعد ذلك قد خطّأ ناقديه لرؤيتهم "في نقد الاستشراق فرصة لهم للدفاع عن الصهيونية.. ومهاجمة القومية الفلسطينية" بدلاً من أن يولوا اهتمامهم للتشابه بين كراهية الإسلام Islamphobia ومعاداة السامية.
بالطبع، ولنكن منصفين، فإن جزءًا من الخطأ يقع على تركيب سعيد الخاص لكتابه الاستشراق كمضاد للصهيونية. وبالمثل فإن مؤيدي وناقدي هذا العمل قد أهملوا هذه المسألة كذلك. لقد كانت بالتأكيد أحد أهداف سعيد المركزية والمشروعة، رغم عدم التصريح بها، في كتابه الاستشراق، هي إظهار مأساة الفلسطينيين، الذين غدوا ضحايا لضحايا الهولوكوست من خلال خلق الدولة الحديثة لإسرائيل. إن سعيد يفعل ذلك ولسوء الحظ، بوضع الاستشراق في مقابل العداء للسامية. أي أنه بمقابل الرواية الصهيونية، لعداء أبدي للسامية، يتراكم حتى المحرقة، ويصحح بتأسيس دولة إسرائيل، فإن سعيد يقدم في كتابه الإشارة إلى الاستشراق الأبدي الذي يتراكم حتى "النكبة"، ويصحح بتأسيس دولة فلسطين.
إن هذه الإستراتيجية رغم ما بدت عليه من ضرورة وقدرة إقناعية لسعيد قد أدت فحسب إلى تراجع، لا تشجيع، ما كان يمكن أن يكون نقاشًا مثمرًا ومعينًا للاستشراق ومعاداة السامية، كتطورين متوازيين ومرتبطين. عوضًا عن ذلك ظهر كلاهما كمتنافسين جديدين خلال تعارض حتمي شمولي نام بين الشرق والغرب. لذا فإن غياب نقاش دائم -مؤتمرات وورش عمل، ومناهج تعليمية، وسلسلة مقالات- للتداخل بين الاستشراق ومعاداة السامية، خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، منذ أن نشر عمل سعيد، يمثل أحد أوجه تراجيديا الاستشراق.
خطاب الاستشراق في ألمانيا
وجه آخر لهذه التراجيديا هو الإدراك المتأخر للاستشراق في ألمانيا، والذي يظهر فهمه العملية التراجيدية لطي الاستشراق على نفسه والتي سأوضحها الآن. كما بينت العديد من الدراسات الحديثة فإن سكوت سعيد عن الاستشراق الألماني باعتبار أن ألمانيا لم يكن لها مستعمرات شرقية قد أهمل وضع اليهود الألمان باعتبارهم شرقيين وباعتبار خضوعهم وحالتهم المهددة كأحد ألوان الاستشراق الألماني لمستعمرة داخلية.
بالمثل فإنه تم إهمال أثر دراسات الكتاب المقدس وغيرها من الدراسات الألمانية في خلق يهودية كموضوع للمعرفة باعتبارها يهودية حاخامية متدهورة خاصة وشرقية، وما أدى إليه هذا الزعم من دعم الممارسات المؤسسية التي رغبت في إذابة أية هوية يهودية منفصلة في ألمانيا.
دعوني أذكر مثالاً محددًا هنا.. إن عالم الكتاب المقدس و.م.ل دي ويت W.M.L. de Wette يعتبر -على نطاق واسع- بادئًا لخط جديد في نقد العهد القديم والذي ظل يتراكم حتى جوليوس ويلهوسن Julius Wellhausen ، أود أن أصف دي ويت أيضًا كمنشئ "يهودية ما بعد النفي"، وما أعنيه هنا هو أن دي ويت هو أول عالم حديث يستخدم مصطلح "اليهودية" ليشير تحديدًا إلى الديانة والشعب اللذين ظهرا بعد النفي البابلي، وذلك مقابل العبرانية والدالة عليهما قبل النفي.
يذكر دي ويت "أن الإقامة الجديدة في أرض أجنبية تحت حكم شعب أجنبي له نظرة تامة الاختلاف للأمور، وذو دين مختلف تمامًا، قد أحدثت تغييرًا عظيمًا، لدرجة أنه علينا أن ننظر إلى الأمة بعد النفي كأمة مختلفة ذات رؤية مختلفة للعالم ودين مختلف. سندعو هذا الشعب الجديد: "اليهود"، أما ما قبل النفي فسندعوه: "العبرانيون"، كما سنطلق على ثقافة ما بعد النفي: "اليهودية"، أما قبله فنطلق عليها: "العبرانية".
قام دي ويت بوصف يهودية ما بعد النفي باعتبارها "عبرانية متدهورة، ومتحجرة"، كما قال: "إن ما كان حيًّا وواعيًا في حالة العبرانية.. (أصبح) شيئًا مفاهيميًا (مجردًا) وشغفًا حرفيًا (لا يأبه للمعنى)[1]، في حالة اليهودية".
يقيم دي ويت، هذه اللحظة التأسيسية في حركة تاريخية أوسع من الكرّات المتتابعة، للانقطاع والتجدد، والتي تقود من الشرق إلى الغرب، من إسرائيل القديمة إلى ألمانيا الحديثة. لذلك فبينما يمثل عيسى والمسيحية المبكرة تمام "العبرانية"، وتحول اليهودية الحاخامية إلى هامش التاريخ، فإن التراجع يأتي مرة ثانية من خلال الكاثوليكية، والتي يصفها دي ويت "كمسيحية غارقة في اليهودية".
مرة أخرى يأتي التجديد على يد لوثر، لكنه يسقط ثانية في بروتستانتية دوجماتية. وعلى المسيحية العبرانية أن تجد تمامها الأخير(؟)، من خلال الدراسة النقدية للكتاب المقدس، ومن خلال بروتستانتية ليبرالية تصبح قاعدة ثقافية واجتماعية مشتركة للدولة الألمانية الجديدة.
الحداثة الألمانية والمسألة اليهودية
رغم أنه جليّ هنا أن دي ويت يجدد لاهوتًا مسيحيًا قديمًا إلى رواية جديدة للانتصار المسيحي، فإن علينا أيضًا أن ننظر إلى الكيفية التي من خلالها تتفق هذه الرواية مع الكتابة التاريخية السياسية للمسألة اليهودية، أو المشكلة اليهودية، وبالتالي تداخلها مع البنى الاستشراقية لليهودية. تشير المسألة -أو المشكلة اليهودية- إلى القضية والجدل الدائر حول الوضع النهائي لليهود واليهودية في الدولة الألمانية المتحدة، وقد افترض معظم المساهمين في هذا الجدل ضرورة الذوبان اليهودي كأساس أو هدف نهائي لمنح اليهود حقوقهم في المساواة، لقد افترضوا أن اليهودية، والتي وصفوها بأنها شرقية وسفلى ولا عقلانية ومتعصبة وموسوسة بالدقائق التشريعية عن الحقائق الأهم، وباعتبارها تراجعًا عن الموسوية الطاهرة.. افترضوا أنها، بسبب من طبيعتها، عائق يمنع اليهود من اكتساب العقائد والممارسات التي تجعلهم متفقين مع مثاليات حداثة ألمانيا المعاصرة.
على أية حال بما أن الحداثة الألمانية كانت تفهم باعتبارها تجسيدًا لمسيحية مثالية، وبالتالي إتمامًا للديانة الموسوية الأصلية، فإن إذابة الهوية اليهودية ستؤدي إلى إدماج الماضي الشرقي اليهودي في الحاضر الألماني البروتستانتي.
بهذه القراءة فإن تركيب دي ويت ليهودية ما بعد النفي المتدهورة يعيد صياغة الكتابة التاريخية السياسية وكأنها حقيقة العهد القديم، والتي أسفرت عنها الدراسات النقدية القائمة على التعارض الأساسي بين اليهودية الشرقية السفلى غير التامة، والبروتستانتية الغربية العليا التامة. الاستخدام السياسي لنموذج دي ويت واضح: إن الكمال اللاهوتي للعبرانية في المسيحية هو مقدمة للامتصاص الاجتماعي الضروري لليهود في دولة ألمانيا البروتستانتية.
هنا تقوم دراسات الكتاب المقدس باستخلاص الكتابة التاريخية السياسية، بينما يغدو الخلاص والعتق مشيرين إلى ذوبان اليهودية. يلاحظ هنا كذلك أن فصل دي ويت للعبرانية عن اليهودية، واستكمال الأولى في الديانة الألمانية البروتستانتية قد أدى بجدارة إلى نزع "الشرقية" عن البروتستانتية الألمانية. سمح ذلك للبروتستانت أن يكونوا ورثة الكتاب المقدس دون أن يصبحوا شرقيين، أن يكونوا عبرانيين دون أن يصبحوا يهودًا.
لذلك فإن ملمحًا آخر لتراجيديا الاستشراق، حين يفقد البعد اليهودي، هو تحول الاستشراق إلى خطاب للشرق في مواجهة الغرب، الاستشراق في مواجهة معاداة السامية، مما وضع اليهود دائمًا في جانب واحد فقط من هذا التقسيم، مع الغرب ضد ما سواه. لم يؤدّ ذلك إلا إلى مزيد من حتمية التقسيم الشرقي/ الغربي، وإلى مزيد من الشمولية في التصور، رغم الدلالة الواضحة في حالة يهود ألمانيا "الشرقيين" على تفكك هذا التقسيم، مما ينفي أية رواية حتمية أو كلية للاستشراق أو معاداة السامية، لليهود في مقابل المسلمين.
--------------------------------------------------------------------------------
أستاذ الأنثربولوجي/ جامعة ماساشوستس بالولايات المتحدة.
1- إضافة من المترجم
التعليقات (0)