الاستشراق والصهيونية
جيمس باستو
ترجمة - محمد مسعد
سعيد يلقي بالحجارة على الاحتلال الصهيوني
جانب آخر من هذه التراجيديا يرى في ظهور الصهيونية، والرواية الصهيونية المقابلة لهذا الجمع الاستشراقي الألماني للقوة والمعرفة. لم يكن العلماء اليهود الألمان والأوروبيون سلبيين في وجه الاستشراق الألماني، وشكلت دراستهم المقابلة ما أسمته سوزانا هيشل Susannah Heschel متبعة لسعيد، بثورة المستعمَر (بفتح الميم) ضد الهيمنة المسيحية. لذا، فإن علماء يهود ألمان مثل إبراهام جايجر، وهنريش جريتز، وموزيس ماندلسون، وليوبولد زونز، ضمن عديدين آخرين، كانوا على دراية بوظيفة غالبية دراسات الكتاب المقدس في "السياسات التشريعية المصاغة لإضعاف الهوية اليهودية المشتركة. لقد استجابوا لذلك بخلق دراسات متلاحقة بديلة، للأصول والتطورات اليهودية/ المسيحية، بحيث توضع المسيحية كمشتق ناشئ عن يهودية حية وحيوية، يتم إظهار الإسلام هنا، وخاصة مسلمي أسبانيا، كفرضية مضادة Antithesis مستنيرة ومتسامحة لما هو مفترض من أوروبا مسيحية ومتحضرة، وبوضع تصور تخطيطي لهوية يهودية مشتركة، يمنحها تماسكًا متجاوزًا، دون اقتصار على ملمح واحد، ديني أو قومي أو ما سواهما[1].
إضافة إلى ذلك، رفض هؤلاء العلماء ملحوظة دي ويت باعتبار النفي انحدارًا وانقطاعًا. بدلاً من ذلك، فإنهم عالجوا النفي باعتباره تواصلاً، وتقدمًا طبيعيًا لتاريخ إسرائيل، وباعتباره الشرط الضروري لرسالة يهودية عالمية تكون "النور للأمم". بهذه الطريقة فإنهم قدموا اليهودية كنور الشرق وبشير التقدم والتسامح، إلى مسيحية غربية شابة وأقل نضجًا.
الاستشراق وتأسيس إسرائيل
هذه الرؤية للشتات أخذت منحى تراجيديًّا مختلفًا في أوروبا الشرقية، حيث بدا الاندماج الاجتماعي خيارًا مهجورًا، وفي ألمانيا بعد ذلك مع ارتفاع العداء العنصري للسامية. إن ظهور الصهيونية في هذه السياقات أسّس لرؤية جديدة للنفي، رؤية قبلت بملحوظة دي ويت عن النفي باعتباره انحدارًا، لكنها أعادت استخدامه كمقدمة لرواية يهودية جديدة تنادي بالتجديد القومي.
مثل العلماء الذين تبعوا دي ويت قام المؤرخون الصهاينة برؤية النفي البابلي باعتباره أصل الانحدار الديني والقومي لإسرائيل القديمة، ومايزوا بين عبرانيين متفوقين وحيويين وبين يهود حاخاميين ساقطين ومتدنين. على أية حال، فإن روايتهم ولاهوتهم للبعث كان مختلفًا من حيث تأكيده على الدولة اليهودية -لا المسيحية- كتجديد للعبرانية النقية.
الآن هناك جدل دائر عما إذا كانت الصهيونية استعمارًا أو حركة تحرير قومي تالية للاستعمار. وبينما يفتقد الفلسطينيون بالتأكيد، وعن حق، مغزى الجدل، فإني أعتقد أنه من الدقة القول بأن تطور الصهيونية كان واسع الانتشار، لدرجة لا تسمح برؤيتها باعتبارها كلاًّ واحدًا يندرج تحت أحد الخيارين فحسب.
وعلى أية حال، فإن التراجيديا هنا، تكمن في أن المؤرخين الصهاينة -مثلهم مثل مفكري ما بعد الاستعمار الآخرين- قد أعادوا صياغة عقيدتهم من خلال التصور الاستشراقي للتاريخ، والذي أسس أصلاً ليكون ضدهم. من هنا فإن نظامًا كاملاً للنظرية الاجتماعية، وسياسية الهجرة، والإستراتيجية الخارجية والمحلية، ومناهج التعليم، قد شكّلت بنية إعادة تحويل اليهود إلى عبرانيين. في هذه العملية ومرة ثانية تم طيّ الاستشراق على نفسه، بحيث وضع المسلمون والعرب، وكذلك يهود الشرق الأوسط في الصورة التي احتفظت بها أوروبا لليهود الشرقيين.
الاستشراق ويهود المشرق
ألفت النظر هنا إلى بضع نقاط هامة، أولاً إعادة صياغة اليهود إلى عبرانيين، كأساس لهوية إسرائيلية جديدة، أعادت صياغة اليهود باعتبارهم غربيين أو متغربين. كان هذا حقيقيًا باعتبار جوهر الأيديولوجي الصهيوني في المنفى، كما رأينا، كأيديولوجيا تغريب البروتستانتية. عُنِي ذلك أن العودة الصهيونية إلى الماضي العبراني، من خلال العودة إلى أرض المنشأ، وضعت حتمًا في مواجهة أي ماضٍ شرقي لليهودية؛ لذلك فإن الهوية العبرانية الجديدة تستطيع أن ترى صورتها فقط في مرآة غربية، لامحة خلفها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً شرقيًّا ليس به إلا البدائية والرعب.
تمّ تدعيم هذه الرؤية من خلال الالتقاء المتزايد بين الصهيوينة والمصالح الإمبريالية البريطانية والأمريكية. نتج عن ذلك خلق هوية إسرائيلية يهودية في مقابل بيئتها العربية أو الإسلامية أو حتى اليهودية.
وكما احتج أمييل ألكالاي في كتابه البارز "ما بعد اليهود والعرب: إعادة صنع ثقافة الشام"، فإن هذا أدى إلى تفاقم حتمي للتوتر الموجود بسياسات الاستيطان اليهودية، والسياسة الإقليمية. لقد عنى ذلك إسرائيل في الشرق (جغرافيًا)، ومن الشرق أصلاً (تاريخيًا) لكنها تبدو مقامة ضد الشرق. وبعيدًا عن آثار ذلك على الفلسطينيين فإن ألكالاي يلحظ أيضًا استدعاء صدام حتمي بين المؤسسين الأوروبيين لإسرائيل، واليهود الجدد المهاجرين أو اللاجئين من الدول العربية المسلمة، ووجّه هؤلاء المهاجرين بمحاولات مدعومة من الدولة لإجبارهم على التخلي عن منهج حياتهم اليهودي ذي الثقافة العربية أو الإسلامية، بتبريرات التصورات الاستشراقية الإسرائيلية الجديدة، والتي سعت لإضعاف اليهودية المنتمية إلى وطنها العربي المسلم الشرقي. يلاحظ ألكالاي -بحسرة هنا- أن اليهود الشرقيين أصبحوا منفيين من وطنهم الشرقي إلى دولة كان المفترض منها أن تكون نهاية للنفي اليهودي.
لا يقترح ألكالاي أن المجتمعات اليهودية في الشرق الأوسط كانت تعيش في بيئة معزولة عن المشاكل، ولا حتى أن تحيز المسلمين كان خاليًا أو غير هام. لكنه مع ذلك يرى أن نفس عمليات الإصلاح الديني والتغيير الاجتماعي والتي ساعدت على خلق حوار مسيحي يهودي حيوي في أوروبا، وعلى وضع اليهود في تكامل مع الغرب المسيحي، نفس هذه العمليات ليست موجودة فحسب في البناء القومي للشرق الأوسط العربي، بل إنها أقرب وأيسر بكثير، حيث تتواجد في سياق لم يرَ فيه اليهود الإقصاء المنظم الذي خبروه في أوروبا المسيحية.
الخطاب الاستشراقي عند الإسلاميين ومعارضي الصهيونية
تلخيصًا، فإن نقطة نهائية في تراجيديا الاستشراق هي ظهور ما يمكن أن نسميه خطابًا "استغرابيًا"[2] Occidentalist لبعض المسلمين، هذا الخطاب يتناول اليهود واليهودية، وكذلك القومية اليهودية، كما لو كانت معادية أبدية للإسلام والشرق، هنا فإن الاستشراق أخذ وضعًا عابرًا للتاريخ، معاديًا للإسلام، كما اقترح سعيد، مع إعطاء اليهود دورًا مركزيًّا في تعارض لازمني بين الشرق والغرب.
في عديد من هذه الروايات الاستغرابية -وعلى سبيل المثال كتابات سيد قطب- يصبح اليهود، وإلى درجة أقل من المسيحيين، هم "الشرقيون" في مرآة الاستشراق المطوية، يصبحون جسديين، ومغرورين، وأنانيين، وعدوانيين، وعلى تضاد مع كل ما هو إسلامي.
نفس هذا المنحى يمكن رؤيته في كتابات الكتاب اليهود والإسرائيليين الذين عارضوا الصهيونية والسياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. التوجه هنا هو افتراض أن السياسة الإسرائيلية -بل في الواقع- روح الشعب Ethos الإسرائيلي بأسره، هما ناتج ليهودية حاخامية، حتمية، وإقصائية، وعنيفة، ما زالت في حاجة إلى تغريب تنويري.
وبالتالي فإنه في إحدى الحالات (سيد قطب) يكون اليهود غربيين زيادة عن اللزوم، وفي الحالة الأخرى (اليهود المعارضون للصهيونية) ليسوا غربيين كفاية.
آفاق المصالحة
وفي ختام ما هو في الواقع ليس إلا مسحًا مختصرًا لتراجيديا الاستشراق أود أن أؤكد أنه ليس متأخرًا جدًا أن نتبع قيادة سعيد، مهما كانت متحيزة أو غامضة، لنوجّه انتباهنا إلى العلاقة بين الاستشراق ومعاداة السامية، أو بالأحرى، وكما وصفتها، هذا الطي للاستشراق الذي يجمع في ثناياه اليهود والمسلمين، وكذلك المسيحيين، لكن ليس بمضادة بعضهم البعض، ولا لاستمرار تعارض حتمي وشمولي لروايات الشرق في مقابل الغرب، أو المسلمين في مقابل اليهود أو المسيحيين مما كان مشكلة تراجيدية، بل لرؤية ما كان وما زال مشتركًا، ثم طوي على نفسه، ليقابل بعضه البعض، لنتحرك من أدبيات الانتقام والشكوى إلى أدبيات المصالحة.
يمكن لهذا أن يزدهر فقط وبالطبع على أرضية تغييرات اقتصادية وسياسية للمساواة، كما يمكن أن تخصب هذه الأرضية الضرورية بإعطاء رؤية لما هو مشترك، لا ما هو متعارض بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.
سألخص كل ما قلت باقتطاف الكلمات التي استخلص بها أمييل ألكالاي كتابه: "في مكان ما، بين الرؤى المؤسسة على النبوءات القديمة، والحاجة إلى عهد جديد.. يبقى هناك فراغ، فراغ للشعر وسياسة الممكن".
--------------------------------------------------------------------------------
أستاذ الأنثربولوجي/ جامعة ماساشوستس بالولايات المتحدة.
[1] المترجم: أي أن هناك يهودية قوية دائمة عبر الزمان، تقوم بإنتاج إسلامي أندلسي مستنير، أو مسيحية أوروبية مشرقة، في فترات تاريخية مختلفة. يلاحظ هنا أن المحاضر يصف ماندلسون وغيره من أصحاب خطاب الاندماج في أوروبا باعتبارهم أصحاب خطاب صهيوني، أي قومي يعترف بخصوصية اليهود الثقافية والتاريخية، وهو مخالف لاستخدام المفكرين والكتاب العرب، كالمسيري للصهيونية كخطاب يدعو أساسًأ لاقامة وطن يهودي مستقل.
[2] يستخدم المحاضر "الاستغراب" كصورة مرآة للـ"استشراق".
التعليقات (0)