الاستخارة بين المشروعية وتعطيل العقل
الشيخ معين دقيق
اختلفت مواقف الناس من الاستخارة تبعاً لما يفهمونه منها، فبعضهم جعلها محوراً في كلّ ولمّا كان الأمر في عقيدتنا الدينية يدور مدار العرض على الشرع والناطق باسمه، من نبيٍّ أو وصيِّ نبيّ، فلا بدّ لنا أن نعرض هذا الفعل الشائع بين المتدينين على النُّصوص الواردة عن النبيّ (ص) وأهل بيته الكرام (ع).
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الموضوع لم يكن موضوعاً مهملاً في المكتبة الإسلامية، بل أشبعه علماؤنا منذ القديم بحثاً وتنقيباً؛ لأجل بيان الموقف الصحيح للشريعة منه.
فقد ألّف فيه محمد بن مسعود العياشي (ت: 320هـ) كتاباً بعنوان «الاستخارة»، ومشى السَّيِّد ابن طاووس (ت: 664هـ) على هذا المنوال، فصنّف كتابه المشهور «فتح الأبواب بين ذوي الألباب وربّ الأرباب»، وتتابع العلماء إِلَى وقتنا الحاضر تصنيفاً وتأليفاً في هذا الموضوع الَّذِي هو محلّ ابتلاء وحاجة.
معنى الاستخارة
الاستخارة في اللُّغة
استفعالٌ من الخير. وصيغة الاستفعال في اللُّغة تدلُّ على طلب الفعل. وعلى هذا الأساس ورد في كتب اللُّغة تفسيرها بطلب الخير، وإن اختلفت كلماتهم في إفادة هذا المعنى، فعن ابن فارس تفسيرها بالاستعطاف، قال: «... والاستخارة أنْ تسأل خير الأمرين لك، وكلّ هذا من الاستخارة، وهي الاستعطاف» (1).
وقال الراغب الأصفهاني: «استخار اللهَ العبدُ فخار له، أي: طلب منه الخير فأولاه» (2).
وفي اللّسان: «الاستخارة: طلبُ الخيرة في الشيء... وخار الله لك، أي: أعطاك ما هو خيرٌ لك... واستخار الله: طلب منه الخِيَرَة» (3).
وأوضح من الجميع ما ذكره ابن إدريس: «فالاستخارة في كلام العرب الدعاء... وكان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إِنَّ معنى قولهم استخرت الله، استفعلت من الخير، أي: سألت الله أنْ يوفّق لي خير الأشياء التي أقصدها»(4).
الاستخارة في عُرف المتشرّعة
إِنَّ المعنى الرائج في الأزمنة المتأخّرة لهذه الكلمة، هو أنْ يستعين الإنسان بشيءٍ؛ ليستكشف خير الفعل وشرّه، كأنْ يفتح القرآن، أو يأخذ السُّبحة، أو الحصاة وما شابهها.
الاستخارة في الرّوايات
النُّصوص التي ورد فيها الحديث عن الاستخارة في غاية الكثرة ولا يمكن إحصاؤها في مقالٍ مختصرٍ، ولكن يمكن أنْ نُصّنفها إِلَى صنفين أساسَين:
الصّنف الأوّل: ما وردت فيه الاستخارة بالمعنى اللُّغوي المتقدّم، وهو طلب الخير بواسطة الدعاء والذّكر، ونكتفي بذكر خبرين يدلّان على ذلك:
1ـ ما رواه الصدوق بإسناده عَنْ مُرَازِمٍ «قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (ع): «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ شَيْئاً فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لْيَحْمَدِ الله وَلْيُثْنِ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ خَيْراً لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ فَيَسِّرْهُ لِي وَقدِّرْهُ وَإِنَّ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاصْرِفْهُ عَنِّي» (5).
2ـ ما رواه ابن طاووس بإسنادٍ معتبرٍ إِلَى ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (ع) يَقُولُ فِي الِاسْتِخَارَةِ: تُعَظِّمُ الله وَتُمَجِّدُهُ وَتحمدُهُ وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ‘ ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَأَنْتَ عَالِمٌ لِلْغُيُوبِ أَسْتَخِيرُ الله بِرَحْمَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ شَدِيداً تَخَافُ فِيهِ قُلْتَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّات» (6).
وهذا الصّنف واضحٌ في أنَّ الاستخارة فيه بمعنى الدعاء والذكر لطلب الخير من الله تبارك وتعالى.
الصّنف الثاني: ما جاء للدلالة على المعنى الرائج في الأزمنة المتأخرة، وهنا أيضاً نكتفي بذكر حديثين:
1ـ ما رواه الكليني بإسناده إِلَى هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ الإمام أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: «إِذَا أَرَدْتَ أَمْراً فَخُذْ سِتَّ رِقَاعٍ فَاكْتُبْ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خِيَرَةٌ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانَةَ افْعَلْ، وَفِي ثَلَاثٍ مِنْهَا: بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خِيَرَةٌ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانَةَ لَا تَفْعَلْ، ثُمَّ ضَعْهَا تَحْتَ مُصَلَّاكَ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَاسْجُدْ سَجْدَةً وَقُلْ فِيهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَسْتَخِيرُ الله بِرَحْمَتِهِ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ اسْتَوِ جَالِساً وَقُلِ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي فِي جَمِيعِ أُمُورِي فِي يُسْرٍ مِنْكَ وَعَافِيَةٍ ثُمَّ اضْرِبْ بِيَدِكَ إِلَى الرِّقَاعِ فَشَوِّشْهَا وَأَخْرِجْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَإِنْ خَرَجَ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ افْعَلْ فَافْعَلِ الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُهُ وَإِنْ خَرَجَ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ لَا تَفْعَلْ فَلَا تَفْعَلْهُ وَإِنْ خَرَجَتْ وَاحِدَةٌ افْعَلْ وَالْأُخْرَى لَا تَفْعَلْ فَأَخْرِجْ مِنَ الرِّقَاعِ إِلَى خَمْسٍ فَانْظُرْ أَكْثَرَهَا فَاعْمَلْ بِهِ وَدَعِ السَّادِسَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا» (7).
2ـ ما نقله الشَّهِيدُ الأوّل فِي الذِّكْرَى بسندٍ إِلَى صَاحِبِ الْأَمْرِ |، قَالَ: «تَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَدُونَهُ مَرَّةٌ ثُمَّ تَقْرَأُ الْقَدْرَ عَشْراً ثُمَّ تَقُولُ هَذَا الدُّعَاءَ ثَلَاثاً: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ وَأَسْتَشِيرُكَ لِحُسْنِ ظَنِّي بِكَ فِي الْمَأْمُولِ وَالْمَحْذُورِ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ مِمَّا قَدْ نِيطَتْ بِالْبَرَكَةِ أَعْجَازُهُ وَبَوَادِيهِ وَحُفَّتْ بِالْكَرَامَةِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ فَخِرْ لِيَ اللَّهُمَّ فِيهِ خِيَرَةً تَرُدُّ شَمُوسَهُ ذَلُولًا وَتَقْعَضُ أَيَّامَهُ سُرُوراً اللَّهُمَّ إِمَّا أَمْرٌ فَآتَمِرُ وَإِمَّا نَهْيٌ فَأَنْتَهِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِرَحْمَتِكَ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ ثُمَّ تَقْبِضُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ السُّبْحَةِ تُضْمِرُ حَاجَةً إِنْ كَانَ عَدَدُ الْقِطْعَةِ زَوْجاً فَهُوَ افْعَلْ وَإِنْ كَانَ فَرْداً لَا تَفْعَلْ وَبِالْعَكْس» (8).
والظّاهر أنَّ الاستخارة في كلا الصنفين بمعنى واحد؛ حيث إِنَّ العبد بعد حيرته وتردُّده أقدم على ربّه تعالى ليلهمه الصواب، فقدّم بين يديه الذكر والدعاء طالباً للخير من بين الأُمور المتردّد بينها.
وبعد هذا الطلب والتذلُّل والدعاء سوف يلطف اللّطيف الخبير بعبده فيلهمه الصّواب إمّا عن طريق إمالة قلبه ليختار ما فيه الخير والمصلحة له دنيا وآخرة، وإمّا عن طريق تلك الوسيلة السهلة من عدد الحصى أو السّبحة أو الرّقاع.
الاستخارة بين المشروعية والتعطيل
هناك شبهاتٌ ثلاث أُثيرت حول مشروعية الاستخارة، وهي:
1ـ الاستخارة تعطّل العقل، وتحجّم دوره، وتجعل الإنسان أسير سبحته.
2ـ المستخير يطلب باستخارته الاطلاع على الغيب، وكشف الأُمور المستورة، وهذا من خصائص الله تعالى؛ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداًإِلاَ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجنّ: 26، 27).
3ـ إنَّ الاستخارة نوعٌ من أنواع الشّرك؛ حيث إِنَّ المستخير يُشرك غير الله في تدبيره.
ولكنْ بعد الالتفات إِلَى أمرين ـ كثرة النُّصوص، بل وتواترها من جهة، ورجوع الاستخارة إِلَى الدعاء والاستعانة بالله تعالى لأنْ يلهم عبدَه الصّواب ـ لا يبقى أدنى شكّ في مشروعية الاستخارة وسخافة الشُّبهات المتقدّمة؛ إذ الأمر الأوّل دليلٌ على أصل مشروعيتها، والأمر الثاني دافعٌ للشّبهات الثلاث بشكلٍ قاطعٍ.
فإنّ الاستخارة ـ كما عرفت ـ ليست إِلَّا الدعاء والتذلُّل أمام الخالق الكريم؛ ليلهم عبدَه الصواب، ويرفع حيرته ولا يبقيه في دائرة التردُّد، فكيف يكون ذلك شركاً واستعانةً بغير الله تعالى.
كما أنَّ الاستخارة كثيراً ما تكون متأخرة عن هداية العقل الَّذِي أودعه الباري عزّ وجلّ في داخل الإنسان؛ فإنّه إذا قايس بين الاختيارات المتاحة، وعرف على سبيل البتّ والجزم أنَّ المصلحة في أحدها المعيّن، فلا تكون الاستخارة حينئذٍ ـ بمعنى الدعاء وطلب الخير ـ إِلَّا مؤكدةً لوظيفة العقل، لا معطّلة له.
وأمّا شبهة طلب الاطلاع على الغيب فهي مِمّا يُضحك المفجوع بعد ما عرَفت من أنَّ الاستخارة ليست إِلَّا دعاء واستعانة بالله تعالى لكي يفتح بصيرته على ما فيه مصلحته في الدنيا والآخرة، ويجعله يختار ما يرتضيه تعالى له.
الهوامش:
(1) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج 2، ص 232.
(2) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 160.
(3) لسان العرب، ابن منظور، ج 4، ص 266، مادة (خير).
(4) السرائر، ابن ادريس الحلي، ج 1، ص 314.
(5) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 65.
(6) م. ن، ص 68.
(7) الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 470.
(8) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول، ج 4، ص 269.
المصدر: مجلة بقية الله http://www.baqiatollah.net
التعليقات (0)