ان مصطلح الاستبداد" Despotism" مشتق من كلمة يونانية "Despotes" تعني سيد المنزل او رب الأسرة او السيد على عبيده وقد استخدمت في النمط السياسي لوصف الحكم المطلق الذي تكون فيه سلطة الحاكم على رعاياه مطلقه والاستبدادية توصف لدرجة تسلط الحاكم الذي لايلتزم بقانون أنما قوله وفعله هما بمثابة القانون فهو مستبد ونظام حكمه استبدادي.
ولقد ظهر مصطلح " المستبد " لأول مرة أبان الحرب الفارسية - الهيلينية في القرن الخامس قبل الميلاد، ويعتقد "أرسطوAristote " أن حكم الطغاة غير مستقر بسبب الكراهية التي يبثها الحكم التعسفي، ولكن الأباطرة البيزنطيون هم أول من أدخل مصطلح"الاستبدادDepotism " في قاموس السياسة، إذ كانوا يطلقون لقب "المستبد" كلقب شرف يخلعه الإمبراطور على ابنه أو زوج ابنته عند تعيينه حاكماً لأحدى المقاطعات.
أما الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيو Montesquieu " فانتهى إلى أن الاستبداد نظام طبيعي بالنسبة للشرق لكنه غريب وخطر على الغرب، وهي نفسها الفكرة القديمة التي تبناها أرسطو ، حيث يقول: "للشرق أنظمة سياسية خاصة، لاتصلح إلا له وهي بطبيعتها استبدادية، يعامل فيها الحاكم رعاياه كالحيوانات أو كالعبيد، وللغرب أنظمة سياسية خاصة تجعل تطبيق الاستبداد يهدد شرعية النظام. ومع هذا فأن الاستبداد قضية سياسية يستشعر أكثرنا آلامها، " وهو صفة لحكومة مطلقة العنان" تتصرف كما تشاء وتتعدد أشكاله كالغلبة أو الوراثة. وهو ضد الحرية ويسد أبواب المشاركة في إدارة شؤون الحياة، وهو حالة مركبة تنعكس على المجتمع والدولة والاقتصاد. وفي الشطر الاقتصادي منه تكون العلاقة بين الغني والفقير هي علاقة القوي بالضعيف. ويسمح الاستبداد بتوثيق العلاقة بين الدين والسياسة ورجال المال لاستبعاد وإقصاء الخارجين عن دائرتهم.
وفي حالة الاستبداد، تضعف السياسة وتضمحل لتطفو المراسم الشكلية ومظاهر الأبهة والسلطان بهدف فرض الهيبة التي تتحول إلى تقديس وخوف. وبالطبع فلا مكان هنا للمساءلة أو المحاسبة أو المطالبة، فقط السماح بالتماس الرضا أو البركة أو تجنب الظلم أو تحصيل بعض نعم السلطان وعطاياه.
والحق يقال أن رؤية أرسطو و مونتسكيو " عن الاستبداد الشرقي " قد تكون فيها شيء من الصحة ولاسيما في العالم العربي , فإذا عدنا إلى التاريخ الشرق الأدنى القديم , نلاحظ أن الشعوب في بلاد الرافدين ومصر قد ألهت ملوكها , فلا عجب أن نجد ( الملك الاكدي نارام سين Narm Sin ) و ( الملك شاروكين (Sharrukin و ( الفراعنة ) يحملون قروناً كرمز لألوهيتهم على الأرض , وفي التاريخ الإسلامي , وبالرغم من أن الإسلام أكّد أن القداسة والعبادة هي لله فقط رب السموات والأرض , نجد أن الشعوب العربية والإسلامية وخاصة في الحقبة الأموية , قد قدست خلفائها وجلعتهم في مراتب الآلهة , أو إنهم يحكمون الناس يتفويض إلهي , فها هو الشاعر الأموي " جرير – ابوحرزة جرير بن عطية التميمي" يقول في عبد الملك بن مروان أخر ملوك بني أمية مؤكداً بأن الله حباه الخلافة لأنه أحق بها وأجدر :
"ولله قدر أن تكون خليفة خير البرية وارتضاك المرتضي"
وتجاوز الأمر عند العباسيين و الفاطميين بأن رفعوا خلفائهم من مرتبة القداسة إلى مرتبة الإلوهية , إذ يقول ابن هانئ الأندلسي (المتوفي في رجب 362هجرية) بدون حرج في الخليفة الفاطمي المعز لدين الله(المعز ابي تميم معد بن منصور الفاطمي) :
ما شئت ما لا شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت البني محمد وكأنما أنصارك الأنصار
ندعوه منتقماً عزيزاً قادراً غفار موبقة الذنوب صفوحا
أقسمت لو لا دعيت خليفة لدعيت من بعد المسيح مسيحا
إذاً فسيكولوجية الشعوب المتخلفة هي التي تجعل المستبد يستبد , وظاهرة الاستبداد موجودة في طغاتنا طوال التاريخ من القديم إلى الحديث فهو الإله الذي لا راد لقضائه , وهو العليم السميع بكل شيء " بواسطة أجهزته الاستخباراتية البارعة في التنصّت " , وهو لا يخضع للمساءلة أو المحاسبة أو المراقبة ومن ذا الذي يستطيع أن يسأل فرعون او الحجاج او عتاة العصر الحديث .
فهو الزعيم الأوحد , والمنقذ الأعظم , والرئيس المخلص , والملهم المهيب , القهار , مبعوث العناية الإلهية , الذي يأمر فيطاع , ومن يخالفه فتحّل عليه لعنة الآلهة وإنما أمره إن أراد شيئاً أن يقول كن فيكون .
لذا فحتى نتخلص من الاستبداد والطغيان وفكرة الزعيم التاريخي و الأب القائد , مخلص الأمة وفارسها وعقيدها , يجب أن نتسلح بالعلم ونسعى إلى الحرية و نغيير من سيكولوجيتنا الرديئة الذليلة وما يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ومع اقتران ظاهرة التهميش الاجتماعي والسياسي ببقاء “الحاكم” على مقعد الحكم بصفة مؤبدة وليست مقيدة، وفي إطار لايعترف بالتعددية السياسية أو يسمح بتعددية مقيدة وغير مجدية، مع انعدام فرصة تداول السلطة، فإن هذه الحالة من شأنها تنمية مشاعر “تقديس الذات وعصمتها لدى جماعات الحكم”.
مما يفضي في التحليل النهائي إلى ضحالة الأداء السياسي والاجتماعي وانصراف الجماهير عن الاهتمام بشؤون الوطن وتفشي الاستبداد في أكثر صوره عنوة وصرامة.
والمحصلة النهائية للاستبداد المزمن وإعادة إنتاجه هي مجتمعات تعاني الركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتفاوت الخطير في توزيع الثروة الوطنية وفجوة تتسع يوميا بين الأغنياء والفقراء، وفقرا يتنامى يوما بعد يوم، ومزيدا من الجماهير المهمشة التي تفقد تدريجيا حسها الوطني والسياسي.
ان الحاكم المستبد والفاسد لا هم له سوى تحقيق رغباته ونزواته وعلى حساب الوطن والمواطن فهو مستعد للتفريط بكل شيء من اجل الحفاظ على سلطته كما يرفض الاستماع الى المظالم لأنها ترتكب بأمره وتحت سلطته فهو الذي يختار معاونيه وحكومته من عناصر فاسدة ومنحطة لتسرف في ظلمها وتعسفها ضد المجتمع وهو يعمل على تبديد ثروة البلاد بشرائه للذمم ولتدعيم أجهزته القمعية ولايبدي حرصاَ على مستقبل الأجيال.
لقد تراكم للبشرية كم كبير من القيم والنظريات الداعية الى المساواة والعدالة بين البشر ومازال هؤلاء السياسيون او الحكام يأخذون مايحتاجون اليه من اجل الدعاية والتدليس لوصولهم الى السلطة وحالما يصلون الى مبتغاهم يتخلون عنها،ويعودون الى وسائلهم البدائية "الحرب،القتل،نصب أعواد المشانق للمناوئيين لهم".
اما الحاكم العادل فهو الذي يسعى للعدالة ورفض المظالم،وتحقيق المطالب واختيار أعضاء حكومته من رجال العلم والقانون لينعم المجتمع بالاستقرار والأمان ويتحلى بخصال العدالة،الرحمة،الكرم،الترفع عن صغائر الأمور ،الحكمة،الدراية الجيدة بشؤون الدولة والمجتمع ،ولاتحكمه العصبية القبلية والقومية والفئوية ،وتغلب مصالح قومه على حساب مصالح بقية القوميات والفئات الاجتماعية الأخرى.
قد تنجح السلطات المستبدة في إعاقة عجلة التطور والتقدم ولربما تنجح أيضا في تعطيل سبل العدالة والمساواة فترة من الزمن عبر استخدام أساليب الإرهاب والقمع والاضطهاد لكنها بكل تأكيد عاجزة عن ثني عزم الشعوب وتصميمهم على مقاومة شرها والمطالبة بالاصلاحات الاجتماعية .
ان أخفاق الأنظمة الشمولية في العديد من دول العالم يؤكد بطلان تلازم الأفكار والآراء الإنسانية العظيمة وقيادة الجهلة والأميين والمتخلفين لقيادة الدولة والمجتمع .
لاخيار اما سلطات الاستبداد والقهر أينما وجدت الا بتغيير نهجها واصلاح ذاتها ونبذ أساليبها القهرية وتبني قيم الخير والصلاح والشروع باقامة انظمة ديمقراطية تقر بحقوق الإنسان وتؤمن بالرأي وحرية الانتخابات لممثلي الشعب في البرلمان لاختيار حكومة صالحة لتحقيق مصالح المجتمع وان لا حكم صالح ينمو مع الاستبداد.
التعليقات (0)